fbpx

“سحب من دون إيداع”: شحّ السيولة الماليّة في غزة تزيد تغوُّل الصرافين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ينتهي المطاف بالغزيين ليتساءلوا باستهجان، لماذا يتم استغلال المواطن في ظل الظروف الراهنة التي يعيشونها؟ وكأنما لا مفر من الموت إلا بالموت، نجاة من القصف وموت من الجوع!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“مفيش سيولة عشان هيك ارتفعت عمولة الصرف وسحب الحوالة المالية”، مبرّرٌ استخدمه عدد من أصحاب محلات الصرافة المالية في غزة، وآخرون دخلوا في مجال التحويلات المالية والصرافة حديثاً خلال الحرب التي اندلعت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ليتغيّر الواقع داخل قطاع غزة وبشكل جذري، والمواطن هو الضحية الأولى والأخيرة فيه على الأصعدة كافة.

اليوم، وبعد 6 أشهر على الحرب الوحشية على غزة، والتي بات المواطن يدفع فاتورة كل شيء فيها، من غلاء واستغلال وتحايل عليه، تحوّل أصحاب محلات الصرافة وتحويل الأموال الى أحد أشرس المفترسين الذين ينهشون رزق المواطنين جراء فرضهم نسباً جنونية من الفوائد على الحوالات المالية الواردة من المغتربين الى أقاربهم داخل القطاع. 

يعيش المواطن الغزي حالياً، حرباً تحت الحرب لكسب لقمة عيشه ليس من الاحتلال فقط، بل من ابن جلدته وبلده الذي يستغلّ حاجته الملحّة للحصول على المال.

يعد جمع الأموال وتأمينها بين العائلات والمعارف، إحدى أهم الطرق التي يلجأ إليها الفلسطينيون لتحويل الأموال إلى ذويهم في شمال غزة، في ظل استحالة التحويل عبر الطرق التقليدية، إضافة إلى الفلسطينيين المغتربين الذين يحاولون إعانة ذويهم في القطاع عبر إرسال حوالات مالية لهم. إلّا أن صعوبات عدة تعرقل عملية الإرسال والاستلام.

فبعدما كانت عمليات تحويل الأموال تُجرى عبر شركات الحوالات المالية والمصارف، يرسل المغتربون في الوقت الحالي المبالغ المالية عبر أشخاص يعملون في مجال الحوالات، وتستغرق أحياناً أياماً أو أسابيع للوصول إلى أصحابها.

المرسل والمستلم خاسران!

ميسرة قديح، فلسطيني يبلغ 42 عاماً، يعمل في إحدى الدول الأوروبية مهندساً، يحاول إعانة أسرته التي توجد جلّها في غزة، عن طريق إرسال حوالات مالية تصل الى أحد مكاتب الصرافة في غزة ليوصلها بدوره الى أفراد عائلته.

قديح يسرد لـ”درج” مجريات عملية التحويل، قائلاً إنه أثناء الشهر الأول من الحرب، كانت عملية التحويل سلسة، إذ كانت تُرسل الحوالة ويتم استلامها من خلال أحد الأنظمة الدولية المتعارف عليها. لكن سرعان ما توقفت تلك الأنظمة وبدأت مذاك عمليات الاستغلال الملموسة جراء تحويل الأموال عبر أنظمة المحفظة “العملات الرقمية”، حيث يقتطع صاحب محل الصرافة 5 في المئة كعمولة من قيمة المبلغ المرسل.

يوضح قديح أن الأمور أصبحت معقّدة جداً، مضيفاً: “أتخوف من عدم قدرتي على ضمان وصول الأموال الى عائلتي بأقرب وقت، بالتزامن مع تلاعب الصرافين بسعر صرف العملات الأجنبية وتسليمهم بعملة الشيكل المتداولة في فلسطين، لتخسر كل 100 دولار ما لا يقل عن 3 دولارات إلى 5 دولارات فارق في سعر الصرف”.

يتحمّل المرسل والمستلم هامشاً من الخسارة من إجمالي المبلغ بسبب هذا الاقتطاع وعدم توافر الدولار في غزة، ناهيك بالفروقات في سعر الصرف عند التسليم بالشيكل. إذ يعتبر التسليم في مناطق الوسطى ورفح وخان يونس أسهل الى حد ما من التسليم في الشمال ومدينة غزة بسبب صعوبة التنقّل داخلها.

في الظروف العادية وقبل الحرب الإسرائيلية، كانت غزة تضم محلات صرافة كثيرة توفر خدمات التحويل كـ”ويسترن يونيون” و”مونيغرام”، وعدداً من شركات تحويل الأموال المعتمدة. وكانت الحوالات الدولية إلى القطاع تستغرق عبرها نحو 24 ساعة، إذ كان المستلم يبرز رقماً خاصاً للحوالة ليتسلّم بعدها المبلغ المالي المرسل إليه.

لكن هذه الإجراءات التي كانت سهلة وميسرة إلى حد ما لكلَي الطرفين، باتت اليوم معقدة بسبب الحصار على حركة البنوك وتحويل الأموال واستمرار القصف وتهدُّم البنى التحتية وغياب الوثائق الشخصية والحصار والنزوح. فأصبح من النادر استخدام الفلسطينيين طرق تحويل الأموال الاعتيادية جراء ظهور عدد من الأشخاص الذين يعملون في العملات الرقمية والمحافظ الرقمية، في عملية الاستلام والتسليم.

يقول الشاب هيثم سلمان، إنه يعمل جاهداً لجمع الأموال من خلال داعمين، لتحويلها الى شقيقه في قطاع غزة، للمساهمة في إعداد سلال غذائية طارئة للنازحين، وتقديم مبالغ مالية بسيطة للمواطنين لتلبية احتياجاتهم اليومية، في ظل الغلاء الذي يشهدونه، في محاولة منه وعدد من الأشخاص خارج فلسطين للوقوف مع أبناء شعبهم.

يسرد سلمان لـ”درج” معاناته مع محلات الصرافة وعمليات تحويل الأمور، قائلاً: “بداية الأمر، تفاجأت بأن الصرافين يحصلون على نسبة 5 في المئة من قيمة المبلغ المحوّل الى القطاع، علماً أنه في العادة يتم اقتطاع تكلفة عملية التحويل منه في البلد المرسلة منه الأموال، وليس البلد المرسل إليها”.

يضيف: “في الشهرين الأخيرين، بخاصة خلال رمضان، جُمع مبلغ مالي بقيمة 8000 دولار لشراء مواشي لذبحها وتوزيعها على النازحين. صُدمت بارتفاع نسبة اقتطاع الصرافين منها التي بلغت الـ15 في المئة”، لتكون المحصّلة بعد العملية خسارة 900 دولار من قيمة المبلغ، وهي عمولة سحب النقود وفارق سعر صرف الدولار بين سعره الرسمي وسعر السوق السوداء”.

فيما يوضح عدد من الصحافيين والعاملين خلال الحرب، أنهم يعانون في حصولهم على حقوقهم جراء خسارتهم قيمة مالية كبيرة من رواتبهم ومستحقاتهم نتيجة استغلال الصرافين الواقع القائم في القطاع، فجلّهم يتلاعبون في سعر الصرف للعملات الأجنبية، ما يدفعهم الى البحث عن أفضل سعر لتقليل الخسارة التي لا مهرب منها. 

مصرفيون يبررون!

حاول “درج” الحصول على ردود من أصحاب محلات الصرافة، فأوضح أحد أصحاب محلات الصرافة في محافظة الوسطى بمدينة دير البلح، الذي رفض ذكر اسمه، طريقة عملهم وبعض التفاصيل الجارية في العملية قائلاً: يتم توفير الأموال النقدية من خلال التجار الذين يشترطون بيع السيولة التي بحوزتهم بنسبة مالية 5 في المئة فائدة على قيمة المبلغ مقابل شرائها، ما دفعنا إلى زيادة نسبة الفائدة التي يتم تحصيلها من المواطنين.

وأضاف أن الفائدة التي يتم اقتطاعها ليست ثابتة ومتغيّرة من صراف الى آخر، إذ تتراوح ما بين 12 إلى 25 في المئة، وليس أمام المواطن بديل إلا الخضوع للواقع، وهم يعملون للربح والكسب. ونتيجة تزايد معدلات السحوبات في شهر رمضان من المواطنين والتجار، فيما لا قدرة للنظام المصرفي على تلبية الحاجة الى السيولة المالية، فإن الدورة المالية غير مكتملة، و”السحب يتم من دون إيداع”.

دورة اقتصادية غير مكتملة

ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، أن مصرفيين فلسطينيين نفّذوا عملية معقدة في شمال قطاع غزة، أُنقذ خلالها أكثر من 900 ألف ورقة نقدية كانت تحت الأنقاض من فروع لبنك فلسطين، ونُقلت إلى مكان آمن، عبر قافلة نقلت الأوراق النقدية، التي بلغت قيمتها نحو 180 مليون شيكل نقداً (50 مليون دولار أميركي). وبذلك، أصبحت متاحة للتداول في جنوب القطاع. 

وتقدّر دورة الحياة التجارية في قطاع غزة بنحو 3 مليارات دولار سنوياً، يتم تقسيمها على أيام العام، ما يجعل الخسائر المالية المباشرة للعدوان الجاري لا تقل عن 10 ملايين دولار يومياً، من دون احتساب الأضرار والفرص الضائعة، وفقاً لتقديرات غير رسمية.

ووفق تقديرات مؤسسات المجتمع المدني في القطاع، بلغ معدل الفقر قبل الحرب 64 في المئة، وهو أكثر بمرتين منه في الضفة الغربية. كما أن 33.8 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر المدقع، فيما تعاني 57 في المئة من الأسر الفلسطينية من انعدام الأمن الغذائي، أي ما يقارب 6 من كل 10 عائلات في القطاع.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في كلمة له أمام قمة حركة عدم الانحياز المنعقدة في العاصمة الأوغندية كمبالا في 20 كانون الثاني/ يناير، إن الناس في قطاع غزة لا يموتون بسبب القنابل والرصاص فحسب، وإنما أيضاً بفعل نقص الغذاء والمياه النظيفة، وانقطاع الكهرباء، وشحّ الدواء في المستشفيات، والرحلات الشاقة إلى قطع صغيرة من الأرض هرباً من القتال.

وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن منع الجيش الإسرائيلي الوصول إلى المناطق الواقعة شمال وادي غزة، يعوق الجهود المبذولة لزيادة توفير المساعدة المنقذة للحياة هناك.

ويعاني القطاع الاقتصادي في غزة من “صدمة اقتصادية”، حسب بيان مشترك صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة النقد الفلسطينية في 2 كانون الثاني. في حين يشهد الناتج المحلي الإجمالي في غزة انكماشاً حاداً خلال الربع الرابع من 2023، بنسبة تجاوزت 80 في المئة، رافقه ارتفاع حاد في معدلات البطالة في القطاع، لتتجاوز 74 في المئة خلال الربع الرابع من 2023، بعدما كانت 45 في المئة في الربع الثالث من 2023.

وانخفض إجمالي الاستهلاك بنسبة 33.1 في المئة (21 في المئة في الضفة الغربية، و80 في المئة في قطاع غزة) خلال الربع الرابع من 2023، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. إذ شهد الاستهلاك الخاص من الأُسَر والمؤسسات غير الهادفة للربح التي تخدم تلك الأُسَر انخفاضاً بنسبة 33 في المئة، كما انخفض الاستهلاك العام (الحكومي) بنسبة 33.4 في المئة خلال الفترة نفسها.

وينتهي المطاف بالغزيين ليتساءلوا باستهجان، لماذا يتم استغلال المواطن في ظل الظروف الراهنة التي يعيشونها؟ وكأنما لا مفر من الموت إلا بالموت، نجاة من القصف وموت من الجوع!