fbpx

وعدَ بـ”ألاَّ يكون دكتاتوراً”… قيس سعيد جعل تونس سجناً للصحافيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سنتان وتسعة أشهر وحبل التضييق والمنع وتكميم الأفواه ثم السجن، يشتدّ حول رقاب المخالفين/ات لسلطة الرئيس قيس سعيد وحكومته في تونس. رئيس اقتربت نهاية ولايته التي قبض خلالها على السلطات الثلاث في الدولة منذ 25 تموز/ يوليو 2021، وإلى حدّ كتابة هذه السطور.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 31 تموز 2021، أي نحو 5 أيام بعد إعلان تجميد أعمال البرلمان وإغلاق مقره بمدرعة عسكرية وتطويق أمني، شدد الرئيس التونسي قيس سعيّد أثناء استقباله ممثلي وسائل إعلام أميركية، على أن “الإجراءات التي اتخذها بتجميد البرلمان وإقالة رئيس الحكومة ليست خارج إطار الدستور، وأكد عدم المساس بحرية التعبير، التي ستبقى مضمونة، وأنه لا مساس إطلاقاً بالحريات عموماً في تونس”.

أما في ردّه على أسئلة الصحافيين في بلجيكا في 17 شباط/ فبراير 2022، فقال حرفياً: “لن أكون دكتاتوراً في هذا العمر”، في اقتباس من ردّ للرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، الذي ترك السلطة بعد رفض الشعب الفرنسي استفتاء بمنح الأقاليم المزيد من اللامركزية في فرنسا.

نذَكّر بتصريحات سعيّد الذي يقبض على السلطات التشريعية والتنفيذية، وأكملَ أخيراً بسط كل نفوذ حكمه على السلطة القضائية، لأن ما نعيشه اليوم لا يشبه هذه التصريحات المؤكِّدة على حماية الحقوق والحريات، ولا يعكس ما يحدث على الأرض. ولعل أبرز الدلائل، ما تشهده حرية التعبير والصحافة، والتنكيل بالقضاة ودوس حقوق المواطنين في أروقة المحاكم.

ملاحقات قضائيّة مستمرّة للصحافيين

أكد المحامي حمادي زعفراني في  5 نيسان/ أبريل 2024، إصدار بطاقة إيداع بالسجن ثانية في حق الصحافي  محمد بوغلاب ( 60 عاماً) في قضية جديدة، على الرغم من سجنه على ذمة قضية موظفة وزارة الشؤون الدينية، التي اتهمته “بهتك عرضها وتشويه سمعتها” لمجرد أنه تساءل في برنامج إذاعي عن سبب حضورها الدائم مع وزير الشؤون الدينية أثناء سفرها خارج تونس، وهل أن منصبها كمديرة مصلحة إعلامية في الوزارة يخوّل لها ذلك؟!

 القضية الثانية تقدمت بها أستاذة جامعية ضد بوغلاب في ظل المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية، واتهمته بـ”الإساءة الى موظف عمومي في شبكات الاتصال”، والتي تتراوح عقوبتها بين 5 إلى 10 سنوات وفق المرسوم الجديد، الذي أقره قيس سعيد في 2022 تزامناً مع المرسوم 55 المتعلق بالانتخابات.

القضية الثانية اعتبرتها منظمات حقوقية عدة، من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، انتهاكاً صارخاً لحرية التعبير والصحافة. ودعت مراراً في بيانات مشتركة من جمعيات ومنظمات أخرى إلى سحب المرسوم 54.

يؤكد ناشطون حقوقيون أن ملاحقة بوغلاب لا تأتي فقط على خلفية تصريحاته بسبب موظفة الشؤون الدينية، بل بسبب نقده اللاذع لنظام 25 تموز 2021، وتوجيهه في كل ظهور إعلامي، رسائل الى رأس السلطة قيس سعيد، تدعوه الى إطلاق سراح السجناء السياسيين، والانتباه إلى تراخي حكومته في التعاطي مع الملفات الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، ودعوته المستمرة لسعيد إلى مراجعة “الظلم “الذي يتعرض له من يخالفه الرأي، وفتح قضايا عدلية ضده  ثم سجنه.

أُصدرت بحق بوغلاب بطاقتا إيداع في السجن، الثانية لم يتم حتى سماعه ولا السماح له بالدفاع عن نفسه قبل صدورها. ولذلك، أرسل برسالة من داخل سجنه يؤكد فيها رغبته في الذهاب إلى المحكمة اليوم، 17 نيسان، حصلت “درج” على نسخة منها.

يقول بوغلاب في الرسالة: ‏”لا أطلب سوى محاكمة عادلة من دون تدخل الأيادي الخفية… وأنا متمسك بحضور جلسة المحاكمة المعينة ليوم 17 نيسان 2024، ومستعد للذهاب إلى المحكمة زحفا أو حتى على كرسي متحرك، وفي صورة التلاعب أو منعي من الحضور لأي سبب كان، فإنه ليس أمامي سوى الامتناع كلياً و نهائياً عن تناول أدويتي (سكري + ارتفاع ضغط الدم + القلب) ثم الدخول في إضراب جوع وحشي للمثول أمام القضاء. اللهم قد بلّغت فاشهد. الله المستعان”.

الصحافية شذى حاج مبارك هي الأخرى سجينة منذ تموز 2023 في سجن المسعدين بمحافظة سوسة الساحلية. دائرة الاتهام في المحكمة وجهت في التاريخ ذاته جملة من التهم الى المشمولين بالبحث التحقيقي في القضية المعروفة إعلامياً بـ”أنستالينغو”، والتي أثارها نظام قيس سعيد بعد أيام قليلة من انقلاب 25 تموز 2021، متهماً أصحاب هذه الشركة بـ”التآمر عليه والتخطيط لقلب نظام الحكم، وتبديل هيئة الدولة والاعتداء على أمن الدولة الخارجي، وحمل السّكان على مهاجمة بعضهم البعض وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة”. وشُملت مبارك بالتهم بحجة استخدامها منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بها للترويج.

المحامي مختار الجماعي في تصريحه لـ”درج”، اعتبر أن إيقاف شذى حاج مبارك كان المفاجأة الأكبر، وأن التهم الموجهة إليها ثقيلة جداً قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، ولا يوجد خيط رابط بين عملها الصحافي وبين هذه التهم.

أضاف الجماعي: “نعتبر مجرد سجنها هذه المدة كلها انتهاكاً صارخاً لحرية التعبير والصحافة، وظلماً كبيراً واقعاً على صحافية عُرفت منذ سنوات بمهنيتها ونظافة يدها. كما أن هذا السجن تسبّب في تعميق حالتها الصحية والتنكيل بها، لا سيما أنها تعاني من مشكلة في السمع قبل دخولها إليه، وتعكرت صحتها أكثر من مرة فيه”.

إضافة الى محمد بوغلاب وشذى حاج مبارك، مثل مدير تحرير موقع “انحياز” غسان بن خليفة، في 5 نيسان الحالي، أمام المحكمة الابتدائية بتونس في قضية ذات شبهة إرهابية تعود إلى  أكثر من سنة، حول تدوينة نشرتها صفحة لا علاقة له بها، واعتبرها القضاء “جريمة إرهابية”. وكان بن خليفة وفريق الدفاع أكدوا في أكثر من مناسبة عدم وجود أي علاقة له بتلك الصفحة.

وعلى الرغم من الإبقاء عليه بحالة سراح، إلا أن الملف لم يقفل. واعتبرت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، في بيان لها، أن القضاء التونسي وصل إلى مرحلة خطيرة، بخاصة مع  تواصل  استعمال قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال لتخويف الصحافيين وتهديدهم، في تجاوز سافر لإجراءات التتبع في الجرائم الصحافية. كما سبق ونددت النقابة بسجن بوغلاب وسرعة إحالته، في قضية رأي وليست ذات صبغة إرهابية تستوجب سرعة الإيقاف.

سياسيون وناشطون في السجن بتهمة “الرأي”

بخلاف تواصل الملاحقات القضائية للصحافيين ووجود آخرين في السجن، تقول جبهة الخلاص الوطني المعارضة إن هناك تقريباً أكثر من 100 معتقل سياسي في سجون نظام قيس سعيد، وإن جل التهم ملفّقة، ولعل من أبرزهم، رئيس حركة النهضة المعارضة ورئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي (إسلامي) وعشرات المنتمين الى الحركة، والقيادات فيها.

تقبع في السجن أيضاً، رئيسة الحزب الدستوري الحر المعارض عبير موسي، وقيادية أخرى في الحزب نفسه تدعى مريم ساسي (يمين)، وعصام الشابي وغازي الشواشي وجوهر بن مبارك ورضا بالحاج وغيرهم.

هؤلاء فُتحت ضدهم قضايا تصل عقوباتها إلى الإعدام، بتهم “التآمر” و”تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على حمل السلاح” إلى آخره من التهم الخطيرة. في حين أنهم مارسوا المعارضة السياسية ضد نظام قيس سعيد، وكل الإجراءات التي تلت 25 تموز 2021، والاستحواذ على السلطات وحل المؤسسات الدستورية واستبدال تركيبتها وإقرار دستور جديد في البلاد كتبه قيس سعيد بنفسه.

القائمة تطول ونكاد نجزم أن المنظمات الحقوقية لم تغلق إلى حدّ الآن قائمة نهائية بمعتقلي الرأي، بخاصة مع تسليط المرسوم 54 المتعلق بـ”مكافحة الجرائم الالكترونية”، والذي أسلفنا ذكره أعلاه، وبموجبه لا يحاكم محمد بوغلاب فقط بل عشرات المدونين وحتى السياسيين المودعين بالسجن، والذين فُتحت ضدهم قضايا بدعوى “نشر الأخبار المزيفة ونسبة أمور غير صحيحة الى موظف عمومي”.

 لعل أبرز المشتكين، وزارة العدل والهيئة المكلفة من قيس سعيد بتنظيم الانتخابات، الذين أثاروا دعاوى ضد عبير موسي وجوهر بن مبارك وغازي الشواشي بسبب تصريحات إعلامية فقط.

السجن في تونس يلاحق حرية التعبير والصحافة وحق الانتماء إلى الأحزاب وممارسة الشأن العام. وبخلاف السياسيين، نجد أسماء مثل عبد منعم حفيظي، موظف عمومي من الجنوب الغربي، ورشاد طمبورة، شاب من محافظة المنسيتر الساحلية، الذي رسم صورة لقيس سعيد وبجانبها عبارة فاشية، انتقاداً له على موقفه الرامي إلى ترحيل المهاجرين من تونس، وحُكم بعدها بالسجن سنتين.

هناك أيضاً هود بعزاوي، مواطن تونسي يجد نفسه محالاً منذ أسبوع على الدائرة الجنائية، إثر نشره مقطع فيديو انتقد فيه غلاء المعيشة وارتفاع المحروقات والمواد الغذائية، التي تكاد تكون موجودة، بالإضافة إلى الحديث حول افتقار منطقته الى المواد الأساسية المفقودة في غالبيتها. 

تضمن مقطع الفيديو الذي بثه بعزاوي، نقداً للنظام الجبائي الذي يتّسم باللاعدالة حسب ما جاء على لسانه، وأن الدولة تُفقر الفلاحين والمواطنين وتثقل كاهلهم بالضرائب المجحفة، موجهاً اللوم والمسؤولية إلى رئيس الجمهورية الذي يعتبره السلطة المسؤولة بالبلاد. كما عبّر في الفيديو موضوع الشكاية عن ندمه على انتخاب الرئيس الحالي عام 2019. 

وعلى إثر ذلك، فتحت السلطات بحثاً تحقيقياً ضد بعزاوي، وفي 30 تشرين الثاني/ نوفمبر أذنت النيابة العمومية بالاحتفاظ به مدة 48 ساعة، ليتقرر في ما بعد حفظ تهمة “ارتكاب أمر موحش” ضد رئيس الجمهورية، والاكتفاء بالإحالة على معنى الفصل 24 من المرسوم 54.

اعتبرت جمعية “تقاطع من أجل الحقوق والحريات” في بيان لها في 7 نيسان الحالي، أن إحالة المواطنين على القضاء وتهديدهم بالسجن يعدان انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان، كما يمثلان ضرباً صريحاً لحرية الرأي والتعبير، إذ إن إيقاف المواطن هود بعزاوي والتحقيق معه وعرضه على القضاء يعتبر انتهاكاً لحقه في حرية الرأي والتعبير المكفول بنص الدستور التونسي في فصله السابع والثلاثين، الذي ينص على “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة”،   والمحمي بموجب الاتفاقيات والمواثيق الإقليمية والدولية.

وجاء في بيان المنظمة: “إن استعمال المرسوم عدد 54 في جميع قضايا الرأي وتكييفها على أنها إشاعات وأخبار كاذبة، لا يعكس سوى النية الحقيقية للسلطة من توظيف هذا النص في ضرب الحقوق والحريات وهرسلة المواطنين”.

ومع تزايد تضييق يد السلطة عبر الأجهزة التنفيذية والقضائية على الصحافيين والسياسيين والمواطنين عموماً بسبب آرائهم وأفكارهم، يبقى التساؤل مشروعاً عن أي انتخابات رئاسية ممكن تنظيمها في مثل هذا المناخ في تونس، الذي يشوبه التخويف وسطوة العصا الغليظة وتكميم الأفواه والسجن، لا سيما إن تذكرنا تصريحاً لقيس سعيد منذ سنة بالقرب من قبر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قائلاً: لا أشعر أنني في منافسة مع أحد”. ناهيك بتصريحه الأخير من المكان نفسه منذ أيام معدودة، لمناسبة ذكرى وفاة بورقيبة، إذ قال: “نحن نخوض حرب تحرير وطني، فإما البقاء وإما الفناء”.