fbpx

مدينة “نيوم”: طموح بن سلمان أبعد من معضلة اقتصاديّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“لا تزال المملكة تواجه معضلة أن المستثمرين يريدون أن يروا مزيداً من الأدلة على التغيير حتى يلتزموا باستثمارات طويلة الأجل في السعودية”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن مباغتاً انحسار طموحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مدينة “ذا لاين” ضمن مشروع “نيوم”. فوعود ولي العهد بـ”ثورة حضارية” في المدينة التي ستقدم بدائل جديدة للحياة لنحو 1.5 مليون شخص نهاية العقد، فضلاً عما سبق وكشفه من تصاميم المدينة المستقبلية، تواجه معضلات اقتصادية جمة على خلفية ضخامة المشاريع، وتكاليفها الهائلة، مثل ناطحة سحاب يصل طولها الى نحو 170 كيلومتراً وبعرض 200 متر تمتد الى البحر الأحمر.

هذه المعضلات ناشئة بفعل عدم واقعية الطموحات، وربما سوء التخطيط الاقتصادي، مع جعل الإقبال الاستثماري فيها ضعيفاً مقارنة بحجم التسويق الذي رافقها. 

وصفت صحيفة “تلغراف” نتائج ومآلات المشروع بأنها “ضربة غير مفاجئة”. بل ذكرت أن هذه الضربة التي طاولت مشروع بن سلمان وخططه، تُعزى إلى الإخفاق في كسب المستثمرين الأجانب، ثم التأثيرات السلبية على الاقتصاد السعودي نتيجة التباينات في أسعار النفط التي تهيمن على ثلاثة أرباع إيرادات ميزانية المملكة، منذ عام 2010.

وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن “الاقتصاد السعودي عام 2023، شهد عجزاً في الميزانية نحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي… وللاستثمار في مشاريع مثل “نيوم”، ولدعم هذا المستوى من الإنفاق، فإنهم بحاجة إلى سعر أعلى للنفط”. 

فيما نقلت الصحيفة عن جيم سوانستون من “كابيتال إيكونوميكس”، قوله إن المملكة بحاجة “ليكون السعر 93 دولاراً على الأقل لتحقيق التوازن في ميزانيتها”، مضيفاً أنه “لم يصل النفط إلى هذا السعر حتى مع الارتفاع الذي شهدناه هذا العام مع تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس”.

بحسب الصحيفة البريطانية، فإن الأزمة الرئيسية للمشروع تتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر، لافتة إلى حصول المملكة على قرابة 11 مليار دولار من هذا الاستثمار قبل عام، وهو يمثل 1 بالمئة أو أقل من إجمالي الناتج المحلي. غير أن المملكة تتطلع إلى أن يتضاعف هذا الرقم بنحو “10 أضعاف في الاستثمار الأجنبي المباشر”، وفق ما ذكرت عن توربيورن سولتفيدت، المحلل الرئيسي في شركة مابلكروفت لاستشارات المخاطر.

ويردف سولتفيدت: “الأموال الأجنبية تتدفّق على المملكة لشراء الديون السيادية والأوراق المالية، لكن محمد بن سلمان فشل في إقناع المستثمرين بتوجيه الأموال مباشرة إلى مشاريعه. لا تزال المملكة تواجه معضلة أن المستثمرين يريدون أن يروا مزيداً من الأدلة على التغيير حتى يلتزموا باستثمارات طويلة الأجل في السعودية”.

يؤكد سولتفيدت أن الاستثمارات الأجنبية لا تزال تمثل “مشكلة مستمرة في جميع مشاريع رؤية 2030″، ما يعني أن “الحكومة فشلت بشكل مؤسف في تحقيق أهدافها. وما زاد من صعوبة الأمر هو الحرب بين إسرائيل وغزة التي أثارت المخاوف بشأن الأمن في المنطقة. ولذلك يجب على المملكة إيجاد طرق لطمأنة المستثمرين بشأن تحسين سجل حقوق الإنسان”.

“الاقتصاد السعودي عام 2023، شهد عجزاً في الميزانية نحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي… وللاستثمار في مشاريع مثل “نيوم”، ولدعم هذا المستوى من الإنفاق، فإنهم بحاجة إلى سعر أعلى للنفط”. 

إعادة النظر في “نيوم”

إذاً، يخضع “نيوم” لمراجعة تامة في ظل تتالي الإخفاقات المالية، وانخفاض عدد الأشخاص المتوقع إقامتهم بالمدينة لنحو 300 ألف. وقد كشف تقرير آخر في صحيفة بلومبيرغ الأميركية عن تسريح قسري للعمال، فضلاً عن عدم اعتماد ميزانية عام 2024 من صندوق الاستثمارات العامة، الذي يقوده ولي العهد ويتولى تمويل الإنشاءات العمرانية وتطوير البنية التحتية لمشاريعه وبنائها.

ووصف التقرير الأميركي مشاريع ولي العهد السعودي، بأنها تقوم على بنى ضعيفة وهشة، وترغم المملكة على تحمّل نفقات تؤدي إلى استنزافها المالي لصالح المستثمرين بدلاً من حدوث العكس. وأردف: “تهدف المملكة على رغم ذلك، إلى الحصول على مئة مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر سنوياً عام 2030، وهو هدف أكبر بكثير من إنجازاتها التاريخية ونحو 50 في المئة أكثر مما تجتذبه الهند حالياً”.

فيما تباعد مخاوف المستثمرين الأجانب وحذرهم بين أحلام ولي العهد وإمكانية تحقيق رؤية 2030، ما اضطر الحكومة السعودية، التي “تحرق الأموال” وفق تعبير “بلومبيرغ”، الى تحمّل النفقات لتمويل المشاريع الضخمة ودعمها، وأيضاً الى طلب تمويل من الكويت بقيمة تتجاوز الـ 16 مليار دولار.

من بين تلك المشاريع الضخمة التي عرّج عليها التقرير، “تجميع أول سيارة كهربائية بالمملكة، حيث اجتمعت نخبة من رجال الأعمال والسياسيين في البلاد العام الماضي لحضور إطلاق سيارة “لوسيد”، في خطوة سعت من خلالها الرياض إلى إظهار أن مملكة قائمة على إيرادات النفط يمكنها أن تجذب رأس المال الأجنبي لتصبح مركزاً عالمياً لصناعات المستقبل. لكن الواقع كان أكثر تعقيداً، فشركة لوسيد التي تتخذ من كاليفورنيا مقراً لها، تستنزف الأموال السعودية بشكل متزايد للصمود في سوق العمل. وفي الأسبوع الماضي، حصلت على دفعة نقدية بقيمة مليار دولار من المملكة، بالإضافة إلى 5.4 مليار دولار ضخّها صندوق الاستثمارات العامة السعودي بالفعل”.

كان واضحاً منذ البداية، أن “جوهرة مشاريع  ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مدينة نيوم، بالصورة التي روّج لها عبر مقاطع المحاكاة ثلاثية الأبعاد، تفتقر إلى الواقعية وتتطلب استثمارات ضخمة وتمويلاً مستمراً من دون انقطاع لسنوات طويلة لتذليل التحديات التقنية سواء في بناء المنشآت أو الحد من التأثيرات البيئية على الحياة البحرية” وفق الباحث العراقي المتخصص في الشؤون السياسية والإقليمية منتظر القيسي.

يقول القيسي لـ”درج”، إن تلك التحديات كلها سبق وحذّر منها الخبراء والمراقبون، وكشفوا عن “صعوبة تأمين النفقات والاقتصاديات حتى من دولة غنية وقليلة السكان مثل المملكة، الأمر الذي لم يجد أي صدى عند صانع القرار الفعلي في المملكة، الذي بدا أن حماسة الشاب وطموحه قد طغيا على تفكيره وألجما أقرب مستشاريه عن التصريح بآراء عقلانية”.

تحديات 2030

لذا، لم يكن مفاجئاً الإعلان عن تقليص حجم المشروع بصورة جذرية، وقد تكون خطوة أولى على طريق التخلي عنه نهائياً، مع انخفاض احتياطيات صندوق الاستثمارات العامة السعودية إلى 15 مليار دولار أميركي، الذي يبدو أن أرصدته استهلكت قبل انتهاء المرحلة التمهيدية من المشروع. في حين أن التكلفة المبدئية لإقامة المشروع كانت 500 مليار دولار، فضلاً عن أنه من المتعارف عليه عالمياً أن مشاريع تحديثية كهذه حتى في ظل أكثر الدول شفافية وديمقراطية، غالباً ما تتجاوز تكاليفها النهائية كل التوقعات الأولية.

يرجّح القيسي أن “الإقدام على هذه الخطوة، ربما يعكس إدراكاً أفضل من ولي العهد السعودي لحجم التحديات المحيطة برؤية 2030، ما فرض مراجعة للأولويات لصالح المشاريع التنموية المدرّة للدخل على حساب المشاريع المستهلكة للمال. وإعادة الحسابات بهذه الطريقة غير المتحفظة،  صار نمطاً يلحّ على ولي العهد السعودي الذي دخل في مغامرات عدة منذ وصوله إلى سدة الحكم الفعلي، من حرب اليمن إلى المواجهة مع إيران، وصراع كسر العظم مع تركيا والإخوان المسلمين”.

يبقى السؤال الأهم، وفق القيسي: هل سيواصل بن سلمان مشوار مراجعة خياراته الداخلية والخارجية؟ أم أنها مجرد انعطافة مؤقتة ريثما يعود حليفه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؟

يتفق والرأي ذاته الباحث المتخصص في العلوم السياسية، الدكتور سامح مهدي، والذي يرى أن المملكة السعودية تعاني اقتصادياً بتقليص المشروع إلى هذا الحد، إذ كان متوقعاً أن يمتد المشروع الى مسافة 105 أميال (170 كيلومتراً)، لكنه تقلّص إلى ميل ونصف الميل فقط بحلول عام 2030.

تراجُع حلم المدينة، التي كان من المقدر لها أن تتّسع لحوالى بضعة ملايين شخص، إلى مساحة 13 ميلاً مربعاً فقط، يبعث على التشاؤم، وفق ما يقول مهدي لـ”درج”، بخاصة وسط تقارير أكدت إنهاء المقاولين عقود العمال. وقد بدأت الشكوك مع تقارير أكدت إعدام الكثيرين من أفراد قبيلة الحويطات الذين احتجوا على خطط البناء على أراضيهم. أضف إلى ذلك، ما تعانيه المملكة من صعوبات اقتصادية وربما سياسية تتعلق بمستقبل محمد بن سلمان بعد والده في الحكم.

في المحصلة، لم تصمد عبارات ولي العهد السعودي طويلاً بـ”أن أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط. وأعتقد أن هذا الهدف سيتحقق بنسبة مئة بالمئة”، وتراجعت الحماسة المفرطة والنشوة الزائدة لجهة يقينه التام بتحقق مشروعاته الهائلة منذ عام 2018، وظلّت الأعوام اللاحقة تؤشر إلى انحسار ذلك كله.  

هيئة الترفيه و”الحفلات” لا تكفيان لبناء اقتصاد

بعفوية، باغت بن سلمان، لحظتها، وهو ما زال بكامل حيويته بفعل الحماسة والنشوة، رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري، في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار 2018″، المنعقد في الرياض، وقال: “دولة الرئيس جالس يومين بالسعودية، فأرجو ما تطلع شائعات أنه مخطوف”، ليرد الحريري باقتضاب وهو ينتزع رد فعل مصنوعاً وثقيلاً على مستوى مزحة ولي العهد: “بكامل حريتي”.

المفارقة أن متلازمة القمع والسجل الحقوقي، الذي يحفل بخروقات عدة بحق المعارضين والشيعة والمرأة، مع الطموح الاقتصادي لبن سلمان، الذي لا يخلو، بدوره، هو الآخر، من تلاعبات وانتهاكات مماثلة، راكمت هواجس ومخاوف عدة لدى المستثمرين الأجانب، بما يضع النفقات المالية واقتصاديات المملكة الجديدة المطلوبة أمام معضلة حقيقية.

وقد باشر ولي العهد السعودي، منذ عام 2017، مشروع تطوير مدينة نيوم في الصحراء المطلة على البحر الأحمر، وهي المدينة التي تقع ضمن رؤية 2030، بينما تحتاج إلى ما لا يقل عن خمسمائة مليار دولار لاستكمال البناء الضخم، وإدارة باقي مشاريع الاستثمار حتى تتحقق وفق رؤية الأخير تنويع مصادر الدخل بعيداً من النفط.

مع هذا، سعى بن سلمان الى خطوات إجرائية عدة لتخفيف الصورة التقليدية التي رافقت المملكة، خلال عقودها الماضية، لا سيما في ما يتصل بأوضاع المرأة والأقليات وهيمنة الفكر الوهابي والرؤية الأصولية المتشدّدة للدين.

ظاهرياً، عمل على تقويض نفوذ “هيئة الأمر بالمعروف”، ثم تمكين المرأة من قيادة السيارات للمرة الأولى.

من ثم، قبض تركي آل الشيخ، حفيد “الداعية” محمد بن عبد الوهاب على حد وصف بن سلمان له لإخفاء دوره الآخر أو بالأحرى تحالفه التاريخي مع محمد بن سعود لتأسيس الدولة السعودية في ما عرف بـ”ميثاق الدرعية”، على “هيئة الترفيه”.

وقد صعد الحفيد من مكاتب ولي العهد بخلفيته الأمنية والعسكريتارية (بوزارتي الداخلية والدفاع)، ليبعث مشاهد فنية يختلط فيها الصخب بالبذخ وترضية أو تهدئة السلطة التي تجمع حولها عروض قوة وفروض الإذعان والطاعة بينما الفن ذاته مجرد إطلالة باهته من كادر ضيق وبعيد.

لذا، لم يخفِ بن سلمان في لقاءاته كافة صدامه مع الموروث السلطوي الذي يشكل بنية الحكم في المملكة، تاريخياً، سواء كان اجتماعياً أو دينياً، وذلك بدرجة رغبته في التحديث نفسها. فيما ظل التحديث المحدود والهش في الأفكار والعمران الاجتماعي والسياسي يرتبط بمشاريعه الاستثمارية، وهي متلازمة لم تنجح في إخفاء البطش وماكينة القمع التي لم تتعطل، وقد راكمت أجساداً متهالكة.

فذكر ولي العهد السعودي في منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض: “لن نضيع 30 سنة من حياتنا بالتعامل مع أفكار مدمرة، سندمرها اليوم وفوراً، وسنقضي على التطرف”.

يقول الأكاديمي الأميركي في جامعة فلوريدا والمتخصص في الشؤون السياسية والإقليمية، إرك لوب، إن واقع الحال في السعودية من ناحية رغبتها في التحول عن القطاع النفطي إلى غيره سواء التكنولوجيا أو السياحة، يحتاج إلى ما هو أكثر من “هيئة ترفيه” “لإدارة حفلات” و”عقد صفقات مافياوية”، فضلاً عن تسويات سياسية وإقليمية لأزمات في اليمن أو العلاقة مع إيران.

يشير لوب لـ”درج”، إلى أن بناء مدينة حتى لو توافرت لها النفقات، ليس بمقدوره تدشين قاعدة اقتصادية جديدة لها بنى ومرتكزات وتتعين لها قاعدة اجتماعية، بل هي “أشبه بمنتجع. وسياسة الكمبوندات والضواحي لا تخرج عن الفواصل الإسمنتية. ثم إن هذه السياسة هي هامش تجميلي في بيئة لا تؤمن بالتنوع أو وجود بدائل في السياسة وربما الحكم. فأي اقتصاد أو استثمارات يمكن أن تجد بيئة منفتحة للعمل داخلها؟”.

ووفق الأكاديمي الأميركي في جامعة فلوريدا، فإن الدعاية التي روّج لها ولي العهد السعودي “ربما تبدو رائعة في خطابها وتصوراتها، لكنها، على الأرجح، بعيدة من الواقع الجيواستراتيجي للمملكة وما يحكمها من روابط خارجية، فضلاً عن العقد الاجتماعي الذي لم يتغير على رغم سياسات الانفتاح كلها”.

وتوضيحاً للنقطة الأولى، يجيب إرك لوب: “بوصلة العلاقات الخارجية بين المملكة والولايات المتحدة التي لا تزال تقوم على الأمن مقابل المال، من أبرز الشواهد على أن حديث ولي العهد السعودي بخلاف ذلك يتصادم وحقائق الواقع”.

بالتالي، كان تدني فائض الميزان التجاري في منتصف العام الماضي بالتزامن مع انخفاض الصادرات البترولية لنحو مئة مليار ريال، أمراً له دلالة، بخصوص استمرار اعتمادها النفطي الكامل على رغم محاولات تنويع مصادر الاقتصاد، وإلا فستواجه تأزماً بفعل الانكماش الاقتصادي والتضخم والبطالة، يقول لوب.