fbpx

العراق: “من البلوكة إلى السجن” مجتمع الميم عين في يُقتل مرتين 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن القانون الجديد إضافة إلى الهجمات المتزايدة على أفراد مجتمع “الميم عين” الذين يصورهم الوعي الجمعي الذكوري العراقي، على أنهم أفراد يؤنثون أنفسهم، مجرد مقدمة للهجوم ولمعاقبة كل الهويات المختلفة في المجتمع العراقي، من ضمنها النساء اللواتي منعن حتى من استخدام مصطلحات علمية ومعرفية، وبداية لتشريع قوانين أكثر قمعاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من أين ابدأ؟ 

سؤال راودني مرات عديدة، وأجبرني على ترك الكتابة، والبحث عن زاوية في رأسي وفي غرفتي، حتى أبدأ منها بكتابة الفصل الجديد من الفجوة الزمنية، التي علق فيها مجتمع “الميم عين” في العراق منذ عام 2003.

من تاريخه إلى اليوم، يعيش مجتمع “الميم عين” في العراق أزمة حادة، أعمق بكثير من مجرد العداء للحقوق الفردية، التي تصدرها الدولة على أنها ثقافة غربية، أو بقايا الاستعمار كما يسميها اليسار. mما القانون الجديد الذي أقره البرلمان تحت اسم قانون مكافحة البغاء مؤخراً سوى تبريكات لعمليات الملاحقة والقتل والعنف الذي جرى ويجري أمام أعين الجميع وبات يتحكم في مصير كثيرين. 

استلهم القانون الجديد تهمة “التخنيث” التي تستخدمها الميليشيات الحاكمة لوصف السلوكيات الجنسية غير المعيارية، وأعاد توظيفها في النص بالطريقة ذاتها، من دون وضع تعريف واضح لها، سوى التشبه بالنساء، مؤسساً بذلك لقانون جنساني انضباطي يلاحق الأفراد على أساس مظهرهم.

علق المحامي والخبير القانوني محمد جمعة على هذه الفقرة من قانون “مكافحة البغاء”، وكشف أنها “نصت على الحبس 3 سنوات لكل فعل فيه تخنث”، وقال: “إن القانون عرّف التخنث بأنه تشبه بالنساء، وهي عبارة مطاطة تعني أنه سيتم منع الشعر الطويل والأكسسوارات الرجالية في المستقبل القريب، واعتقال من يفعل ذلك”، مضيفاً “من عاش في بغداد في زمن الطائفية يعرف حقيقة هذا”، وهو يذكر هنا بفترة “البلوكة”، وهي عمليات الإعدام الميدانية التي نفذتها الميليشيات التي حكمت بين عامي 2006-2009، برمي قطعة خرسانية على رأس الضحية المستهدفة، وغالباً ما كان الضحايا رجالاً غير معياريين اتهموا  بالتخنث/التشبه بالنساء، بسبب شعرهم وملابسهم وأكسسواراتهم.

وعلى الرغم من أن القانون موجه بشكل مباشر لسلوك جنوسي معين؛ غالباً ما يتم تصنيفه على أنه مؤنث، إلا أنه بأبويته يلاحق النساء المثليات كما الرجال العابرين، ذلك أنه لا توجد تراتبية في القمع داخل هذا الشكل المؤسساتي للهيمنة والممارسات العنفية للأنظمة الأبوية، فالذكورية بإيمانها بتفوق نوع واحد، يملك حق السيادة على حيوات الآخرين وأجسادهم وعلى الغيرية الجنسية، وبنوع وشكل واحد للحب، هي انعكاس لهذا النظام ولهيكله المؤسساتي. 

إيفان

“لا يتوقفون عن إخباري أنني امرأة” يقول إيفان (اسم مستعار) وهو رجل عابر، ويضيف: “أنا أعيش في خوف مستمر، وأقمع هويتي الحقيقية خوفاً من الموت، قبل تشريع القانون كنت إذا أظهرت شعري القصير وملامحي الحادة وكففت أكمامي لأظهر شعر يدي، أسمع همس الناس، بعد القانون لن أقوى على فعل ذلك مجدداً، خوفاً من أن يبلغوا عني، أو ينتهي بي الحال مثل صديقي”، مشيراً هنا إلى صديقه المقرب الذي قُتل قبل تشريع القانون. يروي إيفان أن صديقه تعرض “للتعذيب من عائلته بعد اكتشافهم ميوله الجنسية، لينتهي به الأمر مقتولاً، من دون أي تحرك لمعاقبة المجرمين”.

يبدو أن القانون الجديد إضافة إلى الهجمات المتزايدة على أفراد مجتمع “الميم عين” الذين يصورهم الوعي الجمعي الذكوري العراقي، على أنهم أفراد يؤنثون أنفسهم، مجرد مقدمة للهجوم ولمعاقبة كل الهويات المختلفة في المجتمع العراقي، من ضمنها النساء اللواتي منعن حتى من استخدام مصطلحات علمية ومعرفية، وبداية لتشريع قوانين أكثر قمعاً.

الـ”PASSING” لم يعد طريقة نجاة بعد الآن 

لطالما كانت محاولة المرور من خلال معيارية المجتمع الغيري، حاضرة بين أفراد مجتمع “الميم عين” في العراق، خصوصاً المثليين والعابرات، نتيجة لأشكال العنف الممنهج ومحاولات التصفية، التي تطال السلوكيات الجنوسية غير المعيارية؛ والتي تظهر بوضوح على العابرات وجزء كبير من المثليين..

ببسب ذلك، يعيش عامر حالة ذعر يومية، ليس فقط بسبب تشريع القانون الذي يهدد بسجنه ما بين 10-15 عاماً، كونه مثلياً، بل بسبب والده الذي هدده عدة مرات، بالتبليغ عنه بأنه “شاذ”، انتقاماً منه ومن والدته التي يعيش معها بعد انفصالها عن والده، كما يقول. 

يخشى عامر علاقات والده بأحزاب سياسية ومراكز شرطة، كون أخاه الأصغر مر بتجربة تأديبية، كما يصفها والده، لذلك يسعى دوماً لتجنب والده، ومحاولة مطابقة المعايير السائدة.

يقول عامر : “أراقب نفسي دوماً، طريقة كلامي وطبقة صوتي وملابسي، لكن حتى مع الشكل الرجولي الذي وصلت إليه، يتوعدني أبي أنه “بمكالمة واحدة يمكنني إخبارهم؛ أي قوى السلطة المقرب منها، أنك “غاي” فيأخذونك ولن تخرج سالماً”. 

ويضيف: “والدتي لديها بعض الشكوك أيضاً”،  ويكشف عامر أن ما يضاعف ذعره هو تمسك والدته بإكمال دراسته، مما لا يتيح له أي فرصة للعمل، وكشخص لا يملك الكثير من الخبرات، يضطر كباقي العراقيين للعمل بأعمال شاقة ساعات عمل طويلة وأجر زهيد وبفترات معينة من السنة، مما يعرقل سعيه للهروب وإكمال دراسته، التي يدعي متابعتها، لكنه تركها من أجل  البحث عن عمل يخرجه من دائرة الخطر في عائلته على الأقل.

دوائر العنف الأولى التي تبدأ من داخل العوائل المتشددة، تلاحق نور أيضاً، وهي امرأة عابرة وطالبة جامعية، نجت في وقت سابق من كشف عائلتها لهويتها الجندرية، الذي كان يعني موتها.

وجدت نور نفسها تخفي هويتها، فتركز على تفاصيل غير مهمة، حتى أنها لم تتلقَ أي علاج هرموني، لكنها كانت تدرك أن كل تفصيل في جسدها وسلوكها يتعرض للفحص المستمر، وتقول: “وجدت نفسي أتخذ الاحتياطات اللازمة كمسألة روتينية، أنا وغيري من المثليين نحاول بشكل محموم، محو كل أثر مرئي لكويريتنا، فأنا أقوم بقص شعري وأترك شاربي ينموان كي أبعد الأنظار عني”، وتضيف: “طالما أنك تعيشين في العراق، ستجدين نفسك تتخذين هذه الاحتياطات، لدرجة أنها تصبح طبيعة ثانية لهويتك، لأنك لا تستطيعين المقامرة حتى بإيماءات بسيطة”. 

في وقت سابق، تعرضت نور لما شعرت أنها تهديدات مباشرة، حتى بعد إخفائها هويتها، وعدم قدرتها على الانفصال التام عن هويتها كامرأة عابرة، فكانت تسمع تعليقات من المارة، مثل: “دير بالك أبو الديلفري إذا يلزمك لن يرحمك”، وهي إشارة إلى طريقة مقتل البلوغر نور بي أم العام الماضي.

لا تطال هذه التهديدات العشوائية نور فقط، إنما أفراد مجتمع “الميم عين” والأفراد الذين لا يخضعون للمعيارية الغيرية.

سابقاً، قبل حادثة مقتل البلوغر نور، كانت التهديدات التي تصل لأغلب الأفراد في الواقع وعبر الميديا وأحياناً حتى تعليقاً على مقالاتي تلوح “بالبلوكة”، التي أشرنا إليها، كتعبير صارخ عن القتل، ولا يخشى من يصرح به أو يرميه على مسامع أحد في الشارع، لأنه يملك السلطة والقدرة على فعله، والمبرر أيضاً، ويعلم أنه سيفلت من العقاب إذا اقدم عليه. 

القوانين المجحفة التي فرضتها الدولة، مقيدة بحدود النموذج الأخلاقي للمنظومة الذكورية،  أي الإيمان بتفوق أحد الأجناس، بناءً على تحيز معياري جنوسي تسري سلطته على أجساد الآخرين، وهو بدوره نموذج يفترض وجود هوية واحدة مبنية على معطى بيولوجي، وتحيز يسعى لخلق هوية رجولة مرتبطة بالأعضاء التناسلية حصراً، كما يفترضها هذا النموذج، تُخضع أفراد المجتمع للهيمنة الذكورية والقواعد المعيارية لهرمية الجنسانية العربية.

هذه القوانين لا تهدد أفراد مجتمع “الميم عين” فحسب، بل تمتد إلى المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، والباحثين عن العدالة والمساواة، وصولاً إلى الأطباء الذين سيفقدون وظائفهم في حال قدموا المساعدة الطبية أو النفسية، والنقطة الأخيرة بالذات. 

هذا الواقع يخيف نور والكثير من أفراد “الميم عين”، الذين يرغبون في متابعة برامج علاج نفسي، تخفف عنهم قلق التعرض لفقدان الحياة أو الحرية، تقول نور: “لا توجد أية معلومات عن وجود أطباء أو معالجين نفسيين حلفاء لمجتمعنا، خاصة بعد تعديل القانون ممؤخراً، أنا لا أستطيع أن أشعر بالراحة معهم، وأشك بمدى التزامهم بالسرية مع المرضى”.

عدد كبير من الأفراد الذين تحدثنا إليهم، وبشكل شخصي، تركز خوفهم على الطريقة التي سيتم بها ملاحقتهم، أكثر من نتيجة تطبيق القانون بحقهم، أي السجن، فالطريقة التي كانوا يمرون فيها من خلال المجتمع، على الرغم من عدم فعاليتها بشكل كامل، وتترتب عليها أشكال مختلفة من العنف، إلا أنها كانت تؤمن لهم النجاة. 

 في المقابل نجد أن مواد القانون الجديد، ركزت على إغلاق كل مجالات التنفس، وضيقت حبل المشنقة أكثر على رقاب مواطنين/ات مهمشين/ات يهربون من عنف لآخر، فـ”التخنث” أو التشبه بالجنس الآخر وحتى الترويج له، هي مفاهيم مطاطة، لم تسعَ الدولة لتعريفها حتى، لأنها عازمة على استخدامها في سياقها الاجتماعي. هذا تماما ما يخيف أفراد مجتمع “الميم عين” الذين وجدوا أنفسهم في دائرة أكثر ضيقاً، أفقدتهم القدرة على التعبير عن الرأي، وليس عن أنفسهم فقط، فهل سيكون قول إن كل إنسان له الحق بالوصول إلى المساعدة الطبية، بمن فيهم العابرين و العابرات، وإنه حق إنساني و جزء من مواثيق الأمم المتحدة، التي وقع عليها العراق، جريمة؟ لأن الدولة تعتبره ترويجاً؟   

المثليات بين مشنقة الذكورية و الغيرية الجنسية

“لن أستطيع مسك يد شريكتي مرة أخرى” تقول شهد، وهي امرأة مثلية، لم تُحرم من مشاركة لحظة حميمية بالنسبة لها مع شريكتها، بل حتى من الحديث عن هواجسها، فمنذ القراءة الأولى لتعديل قانون “مكافحة البغاء”، تتجنب شهد الحديث أو الدفاع عن مجتمع “الميم عين” مع أفراد عائلتها؛ الذين لا يشكلون خطراً مباشراً عليها، ومع أصدقائها في الجامعة.

كما تخشى شهد، ليس حرمانها من مشاركة لحظات عاطفية وحميمية، أو دفاعها عن مثليتها فقط، بل من إجبارها وإجبار شريكتها على الزواج التقليدي، وهو ما تراه شهد في المستقبل القريب، فالتعبيرات الحميمية لعلاقات النساء ببعضن بعضاً، التي تظهر علناً وبشكل طبيعي بينهن، حتى لدى الغيريات منهن، ستعرض النساء لخطر مضاعف، كنتيجة للتشريعات المطاطة التي تفترض مثلية الأفراد بناء على سلوكياتهم.

تعيش النساء المثليات قمعاً واضطهاداً مضاعفين، بالنظر إلى الخيارات المتاحة؛ الهروب ليس من ضمنها، وإضافة إلى خطر الاغتصاب، بتن يواجهن خطر السجن أو القتل. 

القانون الجديد والعادات والتقاليد الاجتماعية، وصولاً إلى المؤسسة الأبوية، لا يعرض النساء للتمييز فحسب، بل يعاديهن أولاً كنساء، وثانياً كمثليات، حيث تكون أجسادهن هي أعباؤهن،  أجساد حولتها الهيكلية الاجتماعية- السياسية الى ملكيات خاصة، تُفرض عليها الوصاية، لاستخدامها في تحقيق استمرارية النوع، حيث يُسمح بوجود هرمية قهرية وعنف قسري، ضمن هيكلية لا يمتلكن فيها أقل الحقوق، ليس فقط لأنهن إناث بيولوجيات، بل بسبب إعادة تأسيس الجسد المؤنث بفعل الأيديولوجيات البشرية- الاجتماعية- السياسية، التي تفترض أن الإنجاب فقط، هو وظيفة هذا الجسد..