fbpx

Gavin Ford الذي مات بين أيدينا فصوّرْنا جثّته وصوّرْنا نفوسنا البشعة أيضاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد رحل غافين فورد في ذروة أزمة سياسية في لبنان تمظهرت في موجة شتائم وبذاءات وانحدار جديد ينزلق فيه البلد. بدا النيل منه امتداداً للإسفاف العام الذي يطاول كل شيء .. بالنسبة إلي، مثل موت غافين القاسي إصابة خاصة لشخص أضفى ملامح محببة على يومياتي، ورحل عنوة وبقسوة..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا أذكر متى باشرتُ الاستماع إلى غافين فورد عبر إذاعة راديو وان، لكن أعرف تماماً أن هذا الشخص، بصوته الهادئ ومزاجه المختلف وأخباره اللطيفة والموسيقى التي كان يختارها، بات جزءاً من طقوسي اليومية لما يفوق العشر سنوات. أستمع إليه وأنا أمشي باكراً في الحديقة، وإن فاتني خلال المشي، أوافيه حين أقود سيارتي إلى العمل، وهكذا.

لم يكن صحافياً ولا مقدماً سياسياً ولا يتحدث أصلاً عن قضايا كبرى إلا على نحو مقتضب وعابر. كان صوتاً خفيفاً سهلاً، يقدم لنا أخباراً وحكايات وثرثرة ومعلومات عن الموسيقى والمشاهير والغذاء والطقس وأين يمكن أن نذهب لتناول العشاء مع الأصدقاء. يروي نكاتاً حيناً وأخباراً حزينة عن مشاهير رحلوا بشكل مفجع في أحيان أخرى…

حين أجد نفسي في زحمة السير بعد الظهر في الطريق إلى المنزل أبحث عن إذاعة أتابعها فيغلبني الحنق: لماذا لا يقدّم غافين برنامجه مساءً أيضاً! لو فعل لأراحني من لحظات استفزاز لا تنتهي حين أحاول عبثاً أن أجد من يستحق الاستماع إليه من مقدمي ومقدمات الإذاعات المحلية، من دون أن أنجح!

لم يكن غافين لبنانياً، لربما هذا ما حماه من سماجة الاصطفافات التي يمارسها علينا مقدمو برامج الإذاعات. لم يكن سطحياً أو خفيفاً أبداً، على رغم أن المادة التي كان يبثها لنا تصنف ضمن خانة “اللايف ستايل”…

كثيراً ما قلت لنفسي أود التعرف إليه، وكتابة قصة هذا الشاب الذي قرر ترك لندن ليعيش في لبنان. يتحدث عن بيته في بيت مري وعن الطقس البارد هناك، يزعجه الازدحام ويعاني مثلنا من بطء الانترنت وانقطاع الكهرباء، يخبرنا عن رحلاته وعن نظامه الغذائي وعن القهوة التي يعدها يومياً وعن الأماكن التي يذهب إليها وعما يشتريه من حاجيات…

كان لبنانياً لكن من دون الثقل الذي نحمله نحن أبناء هذا البلد.

 

شعرتُ بحزن هائل كيف أن حياة غافين الخاصة، باتت مادة للتندر والتهكم والإدانة والكثير من الجهل، فقد سلبت منه حياته وانتهك جسده وبات الجميع يتحدث عن حياته الشخصية وعن هويته الجنسية

 

حين وصلني الخبر العاجل بأن غافين وجد ميتاً في شقته في بيت مري، تذكرتُ كيف كان صوته يخفت حين يقرأ علينا أنباء موت قاس مثل انتحار روبن ويليامز ومشاهير كثر، ويختم بعبارة very sad.

كان الخبر في لحظاته الأولى، ورجوت ألا يكون رحيل غافين مماثلاً لميتات فظيعة كثيرة تحيط بنا، فأخبار الموت البشع تتسرب أمام عيوننا كالنعاس، وبالكاد نحدث صوتاً…

كنت في منزلي اتحدث مع ابني آدم الذي سمع بموته وشاع أنه قتل بداعي السرقة. خرجتُ إلى موعد وحين عدت إلى المنزل كان الباب مقفلاً فقرعت الجرس وفتح لي آدم. قال لي “ماما لقد أقفلت الباب، لا أريد أن يقتحم باب بيتنا أحد كما حصل مع غافين”…

عانقته وابقيته إلى جانبي مساء حتى غفا. في تلك اللحظة بدأت تصل إلى هاتفي صور مفزعة، فمن دون مقدمات قرر أحدهم تسريب صور جسد غافين وقد انتهك حياً وميتاً. ووجد كثيرون أن لا مانع من مشاركة تلك الصور الفظيعة عبر “واتساب” مرفقة بمعلومات التحقيق والعبارات المخزية التي استعملتها قوى الأمن وفيها فائض من الهوموفوبيا.

لم أستطع النوم بتاتاً. كنت أنظر إلى آدم النائم بقربي وأفكر كيف يمكن أن أتأكد من أن صوراً مثل هذه لن تصله عبر “واتساب”…

شعرتُ بحزن هائل كيف أن حياة غافين الخاصة، باتت مادة للتندر والتهكم والإدانة والكثير الكثير من الجهل، فقد سلبت منه حياته وانتهك جسده وبات الجميع يتحدث عن حياته الشخصية وعن هويته الجنسية وعن علاقاته المفترضة وعن أشرطة مسربة.

إنه بريطاني ومثلي ويعيش وحيداً وقد قتل خنقاً وبعنف ونشرت صوره على الملأ. معطيات مثالية للثرثرة ونسج القصص وللتدخل في الخيارات الشخصية. وأول من ارتكب الانتهاك هم قوى الأمن الذين سمح عناصر منهم بتسريب الصور واستخدام لغة مقززة للحديث عن الضحية. شارك كثر في تعميم الرهاب من المثلية ومن اللاجئين بعد أن تبين أن المشتبهين في قتله سوريون.

 

بالنسبة إلي، مثل موت غافين فورد القاسي إصابة خاصة لشخص أضفى ملامح محببة على يومياتي، ورحل بقسوة، مذكراً إياي بأن فقاعات العيش الصغيرة التي نلجأ إليها هرباً من يومياتنا الصعبة، باتت تضيق بنا وبمن نحب…

 

فات من سارع للنيل من السوريين أن مواطنة بريطانية أيضاً قبل نحو عام تم الاعتداء عليها وقتلها من قبل سائق تاكسي لبناني. واللافت أن قوى الأمن وحين ألقت القبض على المشتبه فيهم، صوّرتهم من الخلف، لم تظهر وجوههم ولم تذكر الأسماء كاملة وهذا فعل صائب بالتأكيد، لكن لماذا لم تفعل الأمر نفسه مع غافين وهو الضحية مرتين في هذه الجريمة؟

في اليوم الذي قتل فيه غافين، ماتت امرأة لبنانية معروفة هي أمل حمادة، والمفارقة أن أمل اشتهرت في لبنان قبل بضع سنوات من خلال فيديو لها انتشر عبر “السوشيال ميديا” تقول فيه “انقرضوا الرجال”. كان تلميح أمل في هذا الفيديو هو أن المثلية باتت شائعة وأن الرجال بالمعنى التقليدي باتوا قلة ولهذا لم تتزوج بعد.

الهوموفوبيا كانت سلم شهرة أمل فباتت ضيفة الشاشات حيث تكرر عباراتها ومعها كم آخر من المقاربات النمطية للنساء والحياة. كانت أمل سيدة بسيطة تكرر قول عبارات نمطية النظرة حيال المرأة والمجتمع وقد تفاعلت معها شرائح من الرأي العام واعتبرتها “ظريفة”…

انشغل لبنانيو “السوشيال ميديا” برحيل الشخصيتين غافين فورد وأمل حمادة، فمنحت حمادة صك الظرف والبراءة، على رغم التنميط الهائل الذي كانت تقوله، فيما نال غافين حصة مروعة من التعليقات الشائنة لأشخاص قرروا أن من حقهم اقتحام حياته الشخصية حتى وهو جثة عارية تسبح في دمائها…

لقد رحل فورد في ذروة أزمة سياسية في لبنان تمظهرت في موجة شتائم وبذاءات وانحدار جديد ينزلق فيه البلد. بدا النيل منه امتداداً للإسفاف العام الذي يطاول كل شيء ويشوه حتى المساحات الصغيرة التي نلوذ بها بعد إحباطاتنا اليومية…

بالنسبة إلي، مثل موت غافين فورد القاسي إصابة خاصة لشخص أضفى ملامح محببة على يومياتي، ورحل عنوة وبقسوة، مذكراً إياي بأن فقاعات العيش الصغيرة التي نلجأ إليها هرباً من يومياتنا الصعبة، باتت تضيق بنا وبمن نحب…

 

إقرأ أيضاً:

لقد دفع حياته ثمناً فليرقد بسلام

أنا متأهبة للمعركة .. دائماً