fbpx

الكوميديا: شرّ لا بد منه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

تختلف الكوميديا عن الجنون كون الأخير يحضر ضمن خطاب السلطة وتتبنى مكافحته أو احتضانه أو معالجته، سواء عبر الطب النفسي أو مؤسسات حَجر “المجانين” أو عبر تحويلهم إلى مادة للترفيه، ومنحهم سلطة الاعتراف بهم بوصفهم “مسليّن” كحالة المجاذيب والبهاليل وغيرهم ممن تذخر الثقافة العربيّة بهم

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تختلف الكوميديا عن الجنون كون الأخير يحضر ضمن خطاب السلطة وتتبنى مكافحته أو احتضانه أو معالجته، سواء عبر الطب النفسي أو مؤسسات حَجر “المجانين” أو عبر تحويلهم إلى مادة للترفيه، ومنحهم سلطة الاعتراف بهم بوصفهم “مسليّن” كحالة المجاذيب والبهاليل وغيرهم ممن تذخر الثقافة العربيّة بهم، في حين أن الكوميديا تواجه إشكالية أن منتجيها لا يمكن اعتبارهم مجانين، هو مواطنون يتمتعون بحقوقهم، مخربون من نوع ما يسخرون من خطاب السلطة وتكوينها للحقيقة، ليكونوا موضع عداوة السلطة وتقنياتها لقمع حرية التعبير وحرية السخريّة.
تكمن خطورة الكوميديا كونها على علاقة عدائية مع الشكل الطبيعي الذي تنظمه السلطة، وخصوصاً أنه لا كوميديا دون سلطة منظّمة وشرعيّة، فالكوميديا قائمة على اللعب بوصفه تشكيكاً بـ”النظام”, وتحدياً لأِشكال التقنين والنمذجة، فهي احتمالات جديدة من جهة وسخرية من النظام القائم من جهة أخرى، وذلك عبر تخريبه, mالتلاعب بمقولاته دون ضرورة التحول إلى احتجاج.
أحد الأمثلة على ذلك ما حدث في العراق أواخر العام الماضي، حيث قام ناشط في محافظة المثنى جنوبي العراق, باكتشاف عامود كهرباء تحول إلى مزار ديني تلتف حوله عدد من قطع القماش لطلب البركات، إلى جانب وجود صندوق تبرعات بجانبه. وبالرغم من جديّة الخبر وتداوله على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذا الحدث يحمل سخريّة عميقة من الشرعيّة الدينية، ومن عبثيتها في بعض الأحيان، وخصوصاً أن العامود لا تصله الكهرباء، أي لا ضوء ينبعث منه.
قد تكون قصة العامود مرتجلة، لكنها تحمل في داخلها تهكماً من أنظمة التقديس التي ترفع الشيء سواء كان بشرياً أو لا إلى منزلة فوقيّة.
آليات التخريب
تكمن خطورة نزع القدسية عبر الكوميديا كونها تنتقد ما هو محتفى به وتبيح للجميع تداوله، فالكوميديا أِشبه بمساحة لغوية للأخطاء و”سوء الاقتباس”، والمقصود بسوء الاقتباس هو التخريب، خلخلة المشرعن بهدف نسف شرعيته هذه، وذلك عبر تبنيّ ذات أدواته و إزاحتها عن أداءها الطبيعيّ. هذا يشبه ما حدث مرة في سوريا، في محافظة حمص في منطقة البيّاضة بدايات الثورة في سوريا، حيث قام البعض بتأدية عملية اعتقال لبعض من يتهمهم النظام السوري بـ”الإرهابيين”، لنكتشف أنهم ليسو إلا مجموعة سلميّة تستخدم أسلحة من الخضراوات “كقاذف كوسا” على سبيل المثال. الكوميديا هنا عميقة كونها تسخّف السلطة وأدواتها، وتهزأ من خطاب المؤسسة الرسميّة بأكمله، عبر إعادة إنتاجه وتتهكم من الوسوم التي يدمغ بها أعدائه، هي لا تكتفي بالشتم ولا تمتلك صيغة كرنفالية، بل هي كوميديا تحاكم الواقع و”الحقيقة السياسيّة” ، أشبه بأصول الكوميديا الغربيّة، فعلنية هذا الأداء الكوميدي تفضح آليات الهيمنة وتهزأ من سياسات الدمغ التي تتبعها السلطة ضد أعدائها المخربين/الكوميديين، وهذه السلطة لا تعني فقط النظام الحالي بل أيضاً بديله، فشرعنة الكوميديا ضمن احتمالات نظام بديل هي إفناء لها، فالتخريب الكوميدي الممنهج إذا تبنته السلطة يتحول إلى أداة هيمنة أيديولوجيّة، ويبتعد عن جوهر الكوميديا النقديّ.
سوء الاقتباس السابق يقودنا إلى شكل كوميدي أِشد احترافاً وهو المحاكاة الساخرة، والتي يتم عبرها إعادة إنتاج بنية بأكملها، ” نص، مسرحية ، خطاب سياسي..”، وتبني أدوات إنتاجها للمعنى في سبيل انتقاد شرعية هذه البنيّة ومحركاتها، سواء بصيغة جديّة أو ساخرة. فمثلا الفيلم الفرنسي الساخر “اليوم الذي توقفت فيه الأرض عن الاستمناء”الصادر عام 2012، يتضح من اسمه أنه ينتقد الهيمنة السياسية والدينيّة التي تمارسها السلطة على الظاهرة الجنسانيّة، والتي تنتهك وتحرم وتقنن حتّى سوائل الجسد، إذ يساءل منظومة القوى الاقتصادية والسياسية التي  تستفيد من الخصائص الحيويّة للجسد البشري في سبيل الربح، كما يوجه الانتقاد لمفاهيم الطبيعة البشريّة المصنّعة ثقافياً في سبيل تقنين اللذة الذاتية، والتي لا يمكن ضبطها حتى لو كان يعني ذلك إنقاذ البشريّة من الموت كما في الفيلم. البعد الكوميدي يكمن بأن الفيلم يحافظ على شكل النظام الاجتماعيّ واستراتيجيات السلطة، ثم يرسم معالم خرابه في حال لم يتم ضبط ممارسات اللذة الذاتيّة، محولاً السلطة و أدواتها إلى كيانات هشة تزعزعها العادة السريّة كما كان الأمر في القرن السابع عشر في أوربا.
أما أشكال المحاكاة الساخرة والتي تتهكم وتنتقد بصورة مباشرة فهي تشابه موقع “الحدود” الساخر الذي يتبنّى شكل موقع إخباري رسمي، لكنه ينتج مواد ذات مرجعيات وهمية للتهكم من المنظومات الإعلامية المهيمنة، وكلا شكلي المحاكاة الساخرة-parody يمتلكان مرجعية معروفة وواضحة لدى المتلقي، مرجعية شرعيّة لا يمكن أن تحضر البارودي وأنظمة الإضحاك التي تحويها دون وجودها.
تشكل الكوميديا الوسيط بين التخريب وبين النظام القائم. هي الحد الفاصل الذي يحاكم ما هو حاضر أمامنا وبين ما هو تخريبي، ومهمة الكوميديا كوسيط أنها تفتح احتمالات لبدائل أخرى أكثر انفتاحاً لكنها مستحيلة التطبيق، إذ لا يوجد خطاب كوميدي لتفسير العالم، ولا يوجد مزحات كبرى، كونها الكوميديا بالأصل تراهن وتحضر على أساس هشاشة أي نظام وعيوبه. هي تحاول تقديم نسخة من العالم، علاقات الهيمنة فيها تنهار وتحاكم علناً، كحالة العديد من المسرحيات منها “رجل الثلج المبني للمجهول” للسوري عمر بقبوق، والتي عُرضت في بيروت مؤخراً، والتي يقدم فيها معادلاً بصرياً كوميدياً للحرب في سوريا والتعقيدات المرتبطة بها، إذ نرى مجموعة من الجنود السوريين النظاميين يرتدون بذلات عسكرية زهرية اللون ويلعبون بالثلج، ليموت أحدهم بعدها برداً، ثم نراهم يسعون لإيجاد وسيلة للاستفادة من موته ونشر صورته على وسائل التواصل الاجتماعيّ. العرض مليء بالألوان الزاهية والألعاب الطفولية ويحاول رسم دور  وسائل التواصل الاجتماعي بالأطراف المتصارعة في سوريا، كما يرسم فضاءات ساخرة تكشف حقيقة الحرب ووحشيتها وآليات صناعة ضحايا الحرب وتسييس جثثهم، لتحضر الكوميديا الأقرب إلى الغروتيسك بوصفها دليل غير عمليّ لتخريب العالم وحقائقه المصطنعة.
الكوميديا و إشكالية حريّة التعبير
تطرح السخرية المرتبطة بالكوميديا إشكاليّة مرتبطة بحرية التعبير، بصورة أدقّ حق السخرية، وما هي المقدسات التي لا يحق لنا السخريّة منها. وحقيقة لا نمتلك حدود واضحة، لكن هناك جوانب يمكن مناقشتها مرتبطة بإحدى اعتبارات ما بعد الحداثة ، كونها حقبة تاريخيّة واستراتيجيات تعبير تنزع القدسية والمركزية. لكن مع ذلك، نرى أنها حافظت على مركزية هامة في تاريخ أوروبا وهي  “الهولوكوست”، بصورة أدق قدسية الضحايا، بعيداً عن التفسيرات وعلاقات القوة المرتبطة بالحفاظ على هذه الحكاية من المساس. فما هي المعايير التي تضبط حدود السخريّة؟ هل هو انتهاك الجسد البشري؟  صناعة آلات ومعامل للموت ؟
وعلى النقيض لم يباح استخدام ضحايا من مكان ما ضمن سياقات ساخرة أو تهكميّة ؟ هذه التساؤلات التي قد تبدو ساذجة، تنعكس على المنطقة العربيّة وثورات الربيع العربي.
هل ستقام “نظرياً” الأنظمة الجديدة على أساس حماية فئة اجتماعية من الضحايا وجعلها حصينة ضد السخريّة، أي هل المأساة البشريّة وضحايا فشل الأنظمة “القائمة” هم وحدهم المنيعون ضد الكوميديا واحتمالاتها ؟[video_player link=””][/video_player]