fbpx

إعادة اكتشاف تاريخ الثوّار الأرمن سينمائياً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم، صارت الحركة الثورية الأرمنية والمناقشات السياسية الغنية التي دارت في القرن التاسع عشر في طي النسيان، إذ لم يعد لها مكان بين الخطابين الرئيسيين في القرن العشرين: وهما الخطاب القومي والإسلامي

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
قادر أكين وفيكين شيتريان

بدت القاعة في جامعة جنيف مكتظة بالحضور، بينما كنت أقدم لقادير أكين، وفيلمه الوثائقي “الإنكار” RED. قد يبدو هذا المشهد غير عادي قبل عقد من الزمان: فمن المستغرب أن يُقدم محاضر جامعي أرمني مُفكراً تركياً، عمل سنوات عدة على دراسة التاريخ الأرمني. إذ إن مجرد التبادل الفكري بل وحتى الصداقات الشخصية، لم يكن لها وجود على الإطلاق بين الأرمن والأتراك.

علاوة على ذلك، مثل التاريخ الذي يستعرضه الفيلم الوثائقي أحد أكثر الصفحات إثارة للجدل في التاريخ الأرمني التركي، ألا وهو تاريخ الحركة الثورية الأرمنية. فبالنظر إلى الطريقة التي دون بها العثمانيون التاريخ ومن بعدهم الأتراك، نجد أن المجموعات الثورية الأرمنية لم تكن أكثر من مجرد مرتزقة، تعاونوا مع العدو والإمبراطوريات الاستعمارية (الروسية والبريطانية والفرنسية) لتدمير الإمبراطورية العثمانية. وعلى النقيض من ذلك، بالنسبة إلى الأرمن، فقد كانوا أبطالاً قاتلوا ضد الظلم، من أجل حرية الأمة. يحمل عنوان الفيلم الوثائقي “RED” معنيين مختلفين، إذ إنه يعني في اللغة الإنكليزية “اللون الأحمر”، بينما في اللغة التركية يعني “الإنكار أو الرفض”.

أوضح أكين في مقابلة أجريتها معه بينما كنا نتناول القهوة، قبل عرض الفيلم أنه “لم يقم بصناعة هذا الفيلم من أجل الدفاع عن الأرمن، بل من أجل الأتراك”. فقد بدأ اهتمامه يزيد عندما علم لأول مرة عن باراماز، وهو أحد الثوار الأرمن، الديموقراطيين الاشتراكين، الذي أُعدم مع 19 من رفقائه شنقاً في ميدان بايزيد في مدينة إسطنبول عام 1916. وكان ذلك عام 2010 عندما قرأ في أحد الصحف اليسارية في إسطنبول مقالاً بعنوان: “دعونا لا ننسى باراماز”. فضلاً عن ذلك، لم تكن هناك معلومات إضافية متوفرة باللغة التركية حول هذا الأمر. بيد أن المعلومات القليلة المتوفرة على شبكة الإنترنت باللغة الإنكليزية، جعلته يدرك أن هناك حركة ماركسية نشأت في قلب الإمبراطورية العثمانية قبل 33 عاماً من تأسيس أول حزب شيوعي تركي، عام 1920. على رغم وجود أحزاب يسارية كثيرة في تركيا، سأل أكين، لماذا تعرض الاشتراكيون الأوائل في الدولة العثمانية للتعتيم والتجاهل؟

دفعه ذلك الشغف إلى المضي في رحلة طويلة من البحث استغرقت 8 سنوات، لكي يستكشف تاريخ “حزب الهنشاك الاشتراكي الديموقراطي الأرمني”، وهو أول حزب اشتراكي في الشرق الأوسط، سعى إلى تقديم الفكر الماركسي إلى الإمبراطورية العثمانية وإيران، إضافة إلى تاريخ “الاتحاد الثوري الأرمني”، والمعروف اختصاراً باسم “حزب الطاشناق”. تطلب ذلك منه السفر إلى خارج إسطنبول، إلى العاصمة الأرمنية، يريفان، وكذلك إلى بيروت، لمقابلة المؤرخين وأعضاء حزب الطاشناق، وإلى جنيف حيث أسس 7 طلاب جامعيين “حزب الهنشاك” عام 1887.

عمل قادير أكين لأول مرة على كتاب بعنوان “باراماز – الثوري الأرمني، بدايةً من السلطان عبد الحميد، ثم إلى جمعية الاتحاد والترقي للاشتراكيين الأرمن، وصولاً إلى الإبادة الجماعية”. نُشر هذا الكتاب في البداية عام 2015، ولاقى نجاحاً كبيراً في تركيا، وقد صدر بالفعل في طبعته الخامسة. يتسم الفيلم الوثائقي ذو الميزانية المنخفضة بأنه كثيف، مثله في ذلك مثل الكتاب، فهو يوثق تاريخ الأحزاب السياسية الأرمينية.

قال أكين: “حتى الآن لم نكن نعرف كيف أثرت الإبادة الجماعية في الحركات الاشتراكية التركية”. وحقيقة أن اليساريين الأتراك استمروا على مدى عقود في تجاهل المتشددين الاشتراكيين الذين سبقوهم”، تُبين أن أصول الاشتراكية التركية لم تنبع من الفكر الأممي، الذي يدعو إلى تعاون سياسي أو اقتصادي أكبر بين الأمم والشعوب. ومن ناحية أخرى، كان “حزب الطاشناق” و”حزب الهنشاك” عضوين في المنظمة الأممية الاشتراكية”. يعتقد أكين أن المناقشات التي دارت في الماضي، وبخاصة حول برنامج “حزب الطاشناق”، لا تزال مهمة إلى يومنا هذا: “فقد دعا حزب الطاشناق إلى تأسيس شكل من أشكال الحكم الفيدرالي، تكون السلطات فيه مُقسمة دستورياً بين حكومة مركزية (أو حكومة فيدرالية او اتحادية) ووحدات حكومية أصغر في منطقة الأناضول -آسيا الصغرى”، وهي قضية لا تزال تتردد أصداؤها في تركيا اليوم، إذ إن تدمير الأرمن لم يُنهِ الجدل بشأن الكيفية التي يُمكن من خلالها لدولة مركزية أن تدير تنوّع الانتماءات الذي تتسم به هذه المنطقة.

لماذا قد يُبدي مفكر تركي اهتماماً مفاجئاً بالتاريخ الأرمني (الثوري)؟ والجانب الآخر من السؤال (الذي طرحته في كتابي “الجروح المفتوحة”) هو: لماذا صمَّت الآذان عن تاريخ الأرمن لفترة طويلة؟ قال أكين، “لقد تسببت الإبادة الجماعية للأرمن في تدمير هذه الذكرى، التي تتمثل في التجربة التاريخية للهنشاك والطاشناق، من المنظور السياسي السائد اليوم”.

ازداد اهتمامي بالثوريين الأرمينيين، لا سيما تاريخ “حزب الهنشاك”، أثناء قراءتي أضخم أعمال حنا بطاطو، “الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق” – والذي لا يزال إلى اليوم من أهم المؤلفات عن تاريخ ذلك بلد. يذكر بطاطو في كتابه أن أول من قدم الأفكار الاشتراكية إلى الشباب العراقي، ربما كان أرسين كيدور، وهو مدرس أرمني شاب ابتُعث للعمل في بغداد، وكان عضواً في “حزب الهنشاك”. كتب بطاطو، الذي أجرى مقابلات طويلة مع كيدور في بيروت في ستينات القرن الماضي، أن الهنشاك كانوا أيضاً “رواد الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان”، إضافة إلى الأحزاب الماركسية والشيوعية في تركيا وبلغاريا وإيران.

اليوم، صارت الحركة الثورية الأرمنية والمناقشات السياسية الغنية التي دارت في القرن التاسع عشر في طي النسيان. إذ لم يعد لها مكان بين الخطابين الرئيسيين في القرن العشرين: وهما الخطاب القومي والإسلامي. يصنف الثوريين الأرمينيين القلائل الذين يذكرون إلى اليوم، إلى حد كبير، ضمن الخطاب القومي – إما باعتبارهم منقذين للأمة الأرمنية، أو أكثر من ذلك، كما في حالة ميساك مانوشيان- الذي قاد مجموعة من الشيوعيين المهاجرين من أوروبا الشرقية ومن أصول يهودية وإسبانية، وأرمينية لمقاومة الاحتلال النازي لفرنسا. بل الأدهى من ذلك، لا يتذكر أحد النشطاء الأرمن والجورجيين الذين شاركوا في الثورة الدستورية الإيرانية بين عامي 1905 و1911، وكيف كانت قوة الشرطة (الثورية) في طهران، لفترة وجيزة، تحت قيادة ميليشيات أرمينية بقيادة يبريم خان. ولا أحد يتذكر “تجمع باكو” – تلك الحكومة الأممية التي لم تدم طويلاً في المدينة الصناعية، بقيادة الزعيم البلشفي الأرمني ستيبان شاهوميان. أصبح التاريخ الثوري الأرمني يُشكل جزءاً مهماً في الرواية الوطنية الأرمنية، ولهذا السبب لا يوجد مكان لشاهوميان، لا في الرواية الوطنية الأرمنية ولا الآذربيجانية.

ومع ذلك، يخبرنا الفيلم الوثائقي الذي قدمه قادير أكين أن الثوار الأرمن شكلوا أيضاً جزءاً من التاريخ العثماني والتركي. وبقيامه بذلك، فإنه يهدم التاريخ الحديث للشرق الأوسط بالكامل، والطريقة التي يكتب بها التاريخ حتى الآن. كما أنه يتمتع بالقدرة على تقديم مراجعة جذرية للطريقة التي يُروى ويُكتب بها التاريخ الحديث للشرق الأوسط، محولاً كتابة التاريخ إلى نشاط يُحلل روايات الهيمنة، ويناضل ضد الرقابة والإنكار.

لا تزال تجربة الحركات السياسية الأرمنية ومناقشاتها والإجراءات السياسية التي اعتمدتها، ذات صلة بالوضع الحالي في الشرق الأوسط: فقد نظم حزب الهنشاك أول تظاهرة سياسية في إسطنبول عام 1894، تطالب بالإصلاحات السياسية، قبل 116 عاماً من الربيع العربي. ونظم “حزب الطاشناق” أول عملية إرهابية رئيسية عام 1896، وذلك عبر احتلال المصرف العثماني للمطالبة بوقف المجازر المعادية للأرمن.  ونظمت الأحزاب الأرمنية حركة كبرى للمسلحين عام 1890، أي قبل 70 عاماً من ظهور منظمة التحرير الفلسطينية. إعادة النظر في تلك الصراعات يبرز الكثير من الدروس التي تم تجاهلها لفترة طويلة.

وهناك ما هو أهم من أساليب النضال السياسي، وهو مضمونها: الذي يتمثل في العلاقة بين الفرد الذي أرادوا له أن يصبح “مواطناً” له حقوق سياسية، والدولة، أي الدولة العثمانية. ومع ذلك، لا يمكن فهم الثوار الأرمن، “الأبناء”، من دون فهم الحركة التأسيسية، التي بدأها “الآباء”: وهي حركة إصلاح انطوت على إجراء إصلاحات للتنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر، وتميزت بمحاولات عدة لتحديث الدولة العثمانية، التي لعب فيها الأرمن العثمانيون دوراً محورياً. ومع ذلك، هذه قصة منسية أخرى تحتاج إلى مناسبات أخرى للحديث عنها.

أرمينيا: ماذا بعد الثورة؟