fbpx

العقل والحرّيّة قبل الوطنيّة والتحديث!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن عبد الحميد الثاني ذاك المستبدّ الجهول والأعمى الذي رسمته الخرافة. فالسلطان العثمانيّ، أنجز العديد من الإصلاحات وأعمال التحديث، وليس من المبالغة، كما رأى المؤرّخ برنارد لويس في كتابه التأسيسيّ “قيام تركيّا الحديثة”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن عبد الحميد الثاني ذاك المستبدّ الجهول والأعمى الذي رسمته الخرافة. فالسلطان العثمانيّ، أنجز العديد من الإصلاحات وأعمال التحديث، وليس من المبالغة، كما رأى المؤرّخ برنارد لويس في كتابه التأسيسيّ “قيام تركيّا الحديثة”، اعتبار السنوات الأولى من عهده الفترة التي بلغت فيها التنظيمات – القانونيّة والإداريّة والمتعلّقة بالإصلاح التعليميّ – ذروتها، لا سيّما تكثير المدارس وتوسيعها وافتتاح جامعة اسطنبول في آب (أغسطس) 1890 لتكون أوّل جامعة حديثة ووطنية في العالم الإسلاميّ. والشيء نفسه يقال في تحديث المحاكم وتحسين المواصلات وتوسيع العمل بالتلغراف، لا بل، وعلى رغم الرقابة وشبكات التجسّس، تعاظم في عهده نشر الصحف والكتب كما ازدهرت محاولات جديدة في الكتابة والتعبير.
وهو، إلى ذلك، رفض بيع فلسطين لثيودور هرتزل وحركته الصهيونيّة، كما قاوم الدول الغربيّة التي اتُّهمت بالتآمر عليه وعلينا، نحن سكّان السلطنة، كما اتُّهمت بالمضيّ في تشجيع الجماعات والشعوب على الاستقلال عن إمبراطوريّته المتمادية الأطراف.
هذا مجتمعاً، يجعل عبد الحميد بطلاً نموذجيّاً لكارهي الإمبرياليّة التحديثيّين في يومنا، إذ هل نتخيّل حاكماً وطنيّاً أفضل في “تصليب الداخل ومقاومة الخارج”؟
وتثمين إيجابيّ كهذا لعبد الحميد، وجد ما يعزّزه في تطوّرات العقود الخمسة الماضية: ذاك أنّ القوميّة العربيّة في شكلها العلمانيّ والثقافيّ المبكر، حيث لعب المسيحيّون وأبناء الأقلّيّات دوراً ملحوظاً، إنّما تراجعت أمام القوميّة السياسيّة والنضاليّة كما مثّلتها الناصريّة، قبل أن تنطوي في شعبويّة إسلاميّة لا تكفّ عن الاحتفال بالسلطنة وتراثها.
لكنّ عبد الحميد، من جهة أخرى، وضمن عمليّة التحديث ذاتها، دفع مَرْكَزة الاستبداد وفعاليّته إلى حدّ الكمال. لأجل هذا الغرض، وفضلاً عن إجراءات أخرى، كان لا بدّ من التحكّم بالعقول عبر التحكّم بالمعرفة وبالتعبير.
ويضرب برنارد لويس مثلاً على الإعلام السائد في عهده: “فالرقابة، التي كانت قد أنشئت في زمن [السلطان] عبد العزيز، حوفظ عليها وتمّ تعزيزها، كما تمدّدت من الصحف إلى كلّ ما هو مطبوع تقريباً. ففي البداية، سُمح للصحافة والنشرات الدوريّة بدرجةٍ ما من حرّيّة التعليق – لكنّ هذا إنّما قُلّص سريعاً لتُفرض رقابة غالباً ما اتّسمت بتشدّد مثير للسخرية. فاسم السلطان المخلوع مراد الخامس لا يُذكر – هكذا جاء في تقرير صحافيّ عام 1904 عن ترميم جامع مراد الثاني في بورصة، وهو الذي يعود إلى القرن الخامس عشر، أنّه “جامع الأب المقيم في السماء جلالة السلطان محمّد الفاتح”. لا بل كان قتل الملوك موضوعاً أخطر – هكذا ردّت الصحف التركيّة الموت المفاجىء لملك صربيا وملكتها في 1903 إلى سوء الهضم. وبالطريقة نفسها، ماتت امبراطورة النمسا إليزابيث بالتهاب رئويّ، والرئيس [الفرنسيّ] كارنوت بالسكتة الدماغيّة، والرئيس [الأميركيّ] ماكِنلي بمرض الجمرة الخبيثة”.
والحقيقة أنّ هذه كلّها أكاذيب من النوع الأردأ. فملك صربيا ألكسندر وزوجته دراغا اغتالهما عدد من ضبّاط جيشهما، كما أنّ الإمبراطورة إليزابيث، زوجة الإمبراطور الهبسبورغيّ فرانز جوزيف، قضت على يد الفوضويّ الإيطاليّ لويجي لوشيني، بينما اغتال فوضويّ إيطاليّ آخر حمل اسم سان جيرونيمو كاسيريو الرئيس كارنوت، وتولّى فوضويّ ثالث، هو الأميركيّ البولنديّ الأصل ليون شولغوش، اغتيال الرئيس ماكِنلي. يومها، بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، حلّ العصر الذهبيّ للإرهاب الفوضويّ الذي تعدّى قتل الحكّام إلى تفجير الصالات والقطارات وما تقع عليه اليد.
لكنّ السلطان عبد الحميد رأى في فكرة قتل الملوك أمراً ينبغي أن يكون محرّماً، أمراً ينبغي ألاّ “يحدث” حتّى لو حدث في الواقع، وإلاّ بات قتله هو نفسه فعلاً محتمل الحدوث. وما دام وجود الشيء لا يكتمل بغير معرفته، وما دام اكتشاف كولومبوس أميركا هو وحده ما “أوجد” أميركا، على رغم وجودها قبل كولومبوس، فالمطلوب هو ألاّ تقوم المعرفة على ذاك الوجود.
لا شكّ أنّ في وسع العرب وبعض الشعوب الأخرى ضرب أمثلة كثيرة على هذه المواقف الحميديّة في تجارب بلدانهم. فإعلام الأكاذيب في البلدان التوتاليتاريّة غذّى وجدّد ما هو متراكم عندنا من خبرات “شرقيّة” في الاستبداد. هكذا، مثلاً، ضجّت صحافة معمّر القذّافي وصدّام حسين وحافظ الأسد ونجله بشّار بعيّنات تشبه تلك التي امتلأت بها صحافة كيم إيل سونغ ونجله كيم جونغ إيل وحفيده كيم جونغ أون. ولا يزال المثل الأبرز في التجارب العربيّة “تغطية” الإعلام المصريّ لحرب الخامس من حزيران (يونيو) 1967. حينذاك تحوّلت الطائرات الإسرائيليّة، التي كانت تدكّ المطارات المصريّة وتدمّر طائراتها ومدرّجاتها، إلى طيور ذبيحة تتساقط من الجوّ بالعشرات.
وفي هذه الأنماط من الأنظمة، غالباً ما يتّخذ العدوان على المعرفة شكلاً آخر هو المنع من السفر إلى الخارج، أو الحدّ منه وتعقيده. فهنا أيضاً، وأمام التعرّف إلى العالم، تحصل المقارنات، فيما المقارنة مذمومة لا تُحمَد عقباها. فالسفر، في هذه الحدود، هو “اطّلاع” مثله مثل الخبر الصحيح، ولهذا نُسبت إليه فوائد في عدادها توسيع المدارك وتكبير العقول بقدر ما خافته الأنظمة التي أرادت للمدارك أن تضيق وللعقول أن تصغر.
ولحسن الحظّ أنّ التطوّر الديمقراطيّ مصحوباً بالتقدّم التقنيّ وسهولة السفر المستجدّة حدّت جزئيّاً من استمرار العدوان الراسخ على العقول، فبات من المستحيل تقديم رواية كرواية الإعلام المصريّ عن حرب 1967. صحيح أنّ نظاماً كنظام فلاديمير بوتين في روسيا لا يزال يجد إحدى دعاماته في تزوير الحقائق وفي تلفيقها، لكنّ الأهمّ أنّ تكاثر الأخبار الزائفة جعل القدرة على التحقّق من صدقها تتضاعف أيضاً. كذلك، وباستثناء الأنظمة القليلة المُحكمة الإغلاق، لم يعد الكذب الرسميّ ملزِماً لمن يتلقّونه.
مع هذا هناك احتقار متمادٍ للعقول لا يتوسّل المعلومة بقدر ما يتوسّل “التحليل” الذي يتعرّى من كلّ معلومة. يندرج في هذه الخانة حديث بعضنا عن انتصاراتـ”نا” وهزائم “أعدائـ”نا” ممّا تدحضه الوقائع النافرة تحت أعيننا وأنوفنا. وما دمنا استشهدنا بحرب 1967 في تزييف المعلومات، فقد قدّمت الحرب نفسها عيّنة باهرة على احتقار العقول من خلال “التحليل”. فكما بات معروفاً جيّداً، ما إن وقعت الهزيمة واحتُلّت الأرض، حتّى ظهرت النظريّة القائلة بفشل إسرائيل في إسقاط “الأنظمة التقدّميّة”.
وهذه العجالة لا تتّسع لكافّة أشكال العدوان على العقل، مرّة عبر احتكار المعرفة، ومرّة عبر تزييف دمقرطتها والتلاعب بها، ومؤخّراً تهكيرها، ومرّة ثالثة عبر “التحليل”. لكنّ المؤكّد أنّ أكلاف هذا “النهج”، بغضّ النظر عن تراجع أعداد ضحاياه، صارت أكبر بكثير.
فالاقتصاد السائد اليوم الذي يوصف بـ “اقتصاد المعرفة”، يرفع الأفكار وحرّيّة المخيّلة إلى شرط شارط لمعاصرة عصرنا، فضلاً عن تحسين مستويات المعيشة للسكّان المعنيّين. هكذا يصير نزع العقل بمبضع الأكاذيب، سياسيّة كانت أم دينيّة، جريمة كاملة، بل جريمة محضة تفضي إلى الإفقار الذهنيّ والماديّ معاً. فمدرسة عبد الحميد بالتالي هي اليوم أخطر ممّا كانت في زمن عبد الحميد، لا يخفّف منها تحديث أداتيّ أو عداء للاستعمار والصهيونيّة يراد منهما مصادرة الحرّيّة وحجب المعرفة والتفكير والمقارنة.
هذه “المكاسب” التي يصفها “مناهضو الإمبرياليّة” بالوطنيّة هي، في أحسن أحوالها، تفاصيل تنوي الأنظمة أن تقايضنا بها، سالبةً عقولنا وحرّيتها وحائلةً دون سعينا إلى مستويات حياة أفضل. أمّا الحرّيّة فتبقى وحدها أساس الحكم على صلاح الأنظمة وطلاحها. وهل نحتاج إلى التذكير بمصائر الحميديّة وسلطنتها، وبمصائر كلّ “السلطنات” الأحدث عهداً التي عرفها القرن العشرون؟
وبعد كلّ حساب، فإنّ وطنيّة العبيد، وتحديث البله، أمور لا يُعتدّ بها كثيراً.
[video_player link=””][/video_player]