fbpx

ماتت شادية ، هزّها الخبر لكنها لم تبكِ ..

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ماتت شادية، يختنق صوت صديقتها وهي تخبرها عبر الهاتف. تمر لحظة صمت، تطول لحظة الصمت، لا شيء يسمع على طرفي الهاتف سوى بكاء مكتوم. تبعد السماعة عن أذنها، تجعلها في مواجهتها، تحدق فيها مذهولة، ثم ترميها جانبا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ماتت شادية، يختنق صوت صديقتها وهي تخبرها عبر الهاتف. تمر لحظة صمت، تطول لحظة الصمت، لا شيء يسمع على طرفي الهاتف سوى بكاء مكتوم. تبعد السماعة عن أذنها، تجعلها في مواجهتها، تحدق فيها مذهولة، ثم ترميها جانبا. تهب من مقعدها، تفتح شباك الغرفة، تسرح بعينيها في كل الاتجاهات. الشارع هادئ، الناس في أعمالهم، الأولاد في مدارسهم. زوجها أيضا ذهب منذ الصباح الباكر إلى عمله مصطحبا معه أولادهما كالعادة، وهي انصرفت إلى أعمالها المنزلية. أتقنت لعب دور ربة البيت، لم يجبرها زوجها الطيب على ذلك، ترك لها حرية اختيار ما يناسبها. لا، هي التي عودته منذ البداية على عدم استشارته، تقرر وتنفذ من دون الرجوع إليه.
زوجها “عاقل” كما تردد أمها على مسمعها دائما، كما يصفه كل من يعرفهما، حتى أولادها يلمحون لها باستمرار أنها باردة العواطف اتجاه أبيهم، وهي تجيب على كل ذلك إما بالصمت وإما بنظرة متحجرة.
تبتعد عن حافة الشباك، تمسح دموعها، تفسح المجال لدموع أخرى بالهطول وتهمهم “يا حسن يا خولي الجنينة” حتى آخر الأغنية، حتى أول الذكرى. ماتت شادية، غدا سيوارون جسدها في الثرى، أما اليوم، الآن، ستنبش هي كل الذكريات التي وارتها منذ ثلاثين هاما، في تربة الماضي.
كانت في سنتها المدرسية الأخيرة، حين سكن في الشقة المقابلة لغرفة نومها. جار الرضا كما كانت تصفه نساء البناية التي يسكنها. ومذ رأته جالسا على شرفته أول مرة، مكبا على كتبه وأوراقه، ساهيا عما حوله، عرفت ما معنى أن تتضاعف دقات القلب وتصاب اليدان بالارتجاف وتسري في الجسد رعشة دافئة. وكفراشة تحوم حول الضوء، أخذت تدور حول نفسها فوق أرض الغرفة وتغني “فارس أحلامي حبيب قلبي وحبيب أيامي”، ثم توالت الأيام، وصارت شادية أو أغنياتها ترتب تفاصيل حبها له.
ظل حبها له وقتا طويلا من طرف واحد. هو غارق في دروسه الجامعية، وهي وشادية تعومان فوق بحر من الأحلام الوردية. تتلصص على مواعيد خروجه وعودته، أوقات درسه واستراحته وأكله ونومه وقهوته الصباحية. إذا حانت منه التفاتة عفوية صوب شباكها تغني “شباكنا ستايره حرير من نسمة شوق بتطير”، إذا خرج نهارا تغني “قولوا لعين الشمس ما تحماشي”، وإذا عاد مساء تغني “شفت القمر على طلعتك”.
وأتى ذلك اليوم…كانت تقف قبالة شرفته جامدة مثل تمثال، وخلفها يتسع الكون لكثير من الفرح الذي يصنعه صوت شادية وهي تغني “مين قال لك تسكن في حارتنا”. ثم تلتقي العيون فجأة، تتعانق النظرات، وتتدحرج كرة من لهب في المساحة الفاصلة ما بين شباكها وشرفته. قال لها عن تلك اللحظة: “كانت عيناك تغنيان”، أما هي فغنت له “وحياة عينيك وفداها عينيا”.
واستيقظ قلبها من سباته، ورفرفت في صدرها أحاسيس مكبوتة كطائر حبيس يصارع للإفلات، خافت، ثم بددت شادية خوفها، ثم خافت وحاولت أن تهرب منه فلم تجد نفسها إلا قد عادت إليه، إلى أن اعترفت يوما وهي تستحم أنها تحبه وكتمت ضحكة معربدة.
والتقيا مرة، التقيا مرات، وفي كل مرة كانت تشرح له كيف تؤرخ شادية بأغنياتها يوميات حبهما، ثم تهديه أغنية، تكون قد اختارتها إما لإيصال رسالة تخجل من البوح بها، وإما لوصف سعادتها بما يحصل بينهما.
وأتى يوم آخر. كان لشادية حصتها في هذا اليوم أيضا، رافقتها أغنية “سونة يا سنسن” طوال الطريق من المدرسة إلى بيته. عرجت على منزل صديقتها تركت عندها كتبها ومريلتها، وارتدت فستانا أبيض قصيرا بفتحة عند الصدر، وانتعلت كعبا عاليا، ثم ذهبت إلى “الكوافير” رتبت شعرها ووضعت قليلا من “المكياج” وركضت مسرعة إليه، قرعت باب بيته كانت “مكسوفة لكن ملهوفة”. أخبرها أنه سوف يسافر “للبلد الغريب”، ووعدها أنه سيعود ويطلب يدها ويسافران معا، وهي صدقته. صدقته لأنها تحبه، وكذب عليها لأنه لم يحبها، كذب بأنه يحبها. ودت لو أنها اكتشفت ذلك قبل أن تهبه جسدها كما وهبته قلبها، لكن كان ما سوف يكون.
سافر، غاب، اختفى كأنه لم يكن. تركها فريسة الانتظار والخوف والفضيحة. مرت أيام، أعقبها أيام، تراكمت حتى أصبحت سنوات، حتى اعتادت على فجيعتها، فتوقفت عن البكاء وعن الخوف وعن الحب. أخرجت من بين أوراقها الصورة الوحيدة التي تحتفظ له بها، تأملتها مليا وسألت نفسها “أهذا الذي لم أر قمرا يضاهيه ولا قامة تدانيه؟”، ثم مزقتها وقامت إلى كاسيتات شادية أتلفتها كلها.
لم يعد يهم أنها مغدورة، الأيام كانت كفيلة بأن تنسيها ألم الطعنة. لم يعد منطقيا أن تظل متقمصة دور الضحية، لقد فعلت ما فعلته بملء قلبها وإرادتها. لا بد إذا، أن تنطلق من اعتراف بحقيقة ما، أنها لن تكون صادقة مع أحد بعد اليوم، حتى مع نفسها. سوف تكذب وتكذب وتكذب حتى يصدقها الناس.
أول ما قامت به، بعدما انتصرت على قهرها، زيارة الطبيبة النسائية برفقة صديقتها، رممت بكارتها في عيادتها وعادت إلى البيت، شخصا لا تعرفه، شخصا على الحياد من كل شيء. ذهبت مباشرة إلى المرآة، كانت عيناها فظتين حادتين تخلفان شعورا مثل صفعة مدوية على الخد، لكن فيهما قوة لا عهد لها بها، سوف تكون سندها في مقبل الأيام.
وتعرفت إلى زوجها، الذي قبلت بالارتباط به بعد اللقاء الأول. كان رجلا واضحا، شفافا حد الانكشاف، كريما إلى درجة التبذير، وطيبا بما يكفي أن تبدأ حياتها معه بالخديعة والكذب.

عاشت معه حياة أسرية تقليدية، هو يعمل خارج المنزل وهي داخله، هو يجني المال وهي تصرفه، هي تأمر وهو ينفذ، كلما حاول التقرب منها نفرت منه وصدته. أفهمته منذ اليوم الأول أنها ستؤدي وظائفها الزوجية كما يجب، لكن خارج السرير، ستتصرف كغريبة. اللمس ممنوع، القبل ممنوعة، الكلام العاطفي ممنوع، وهو لفرط تعلقه بها وافق على شروطها.
وعاش معها، يبذل يوميا، كل جهوده وعواطفه ليحرك سواكنها، وهي تزداد تحجرا، ولم يصبه اليأس، بل ازداد تعلقا بها، مرجعا كل ما تمر به إلى الخجل والتهذيب والتربية الصالحة. كثيرا ما كان يحنو عليها في لحظاته الحميمة معها، ويهمس في أذنها أنها ستظل صغيرته التي لا تكبر.
ضميرها لم يؤنبها مرة، لا حين خدعت ذكورته بادعاء البكارة ولا حين تطعن رجولته يوميا، بادعاء العفة. صحيح أنها تعاقب بريئا، لكنها لو باحت له بالحقيقة لأصبح ذئبا. هي لا تكذب، إنما تتجنب أمرا تعلم أنه سيفعله إذا صدقت، وستعاقب مرة أخرى. ثم مم يشكو الكذب؟ أليس الكذب صفة إنسانية مثل الصدق؟ وهي إنسان، مرت بظروف سيئة لكنها ليست سيئة. أن تضطر للكذب لا يعني أن بها عيبا، العيب في من حولها إلى كاذبة، في من اضطرها إلى فعل ذلك. لم تحب زوجها، ولن تحبه، لأنها لن تستطيع أن تبوح له بسرها، وهو لن يتقبله ولن يتقبلها، حتى لو كان نبيا. أما ذاك الذي علمها الغدر، فقد توقفت عن حبه، بعدما تفوقت عليه.
ماتت شادية…هزها الخبر، آلمها أن ترحل قبل أن تتصالح معها. أدارت مفتاح الراديو كانت كل الإذعات تبث أغانيها، قلبت الأبرة وثبتتها على “بكرا الخميس” ولم تبك…

[video_player link=””][/video_player]