fbpx

صراع قصري قرطاج والقصبة بين سعيد ومشيشي… لمن الكلمة الفصل؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما جد هذه الأيام يشي بأن السيناريوات السياسية في تونس باتت محصورة في خيارين اثنين أولهما احتداد الصراع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وثانيهما أن تضيق الأفق أمام رئيس الحكومة لا سيما في ظل المطالب الكبيرة المنتظرة للأحزاب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكتمل الشهر بعد على مباشرة هشام المشيشي مهماته رسمياً كرئيس للحكومة، ليعود مجدداً إلى دائرة الجدل التي أثيرت منذ اختياره لتولي هذا المنصب. اعتقد الرجل أن الطريق باتت سالكة بعدما ضمانه دعم بعض الأحزاب الوازنة برلمانياً، كـ”حركة النهضة” و”قلب تونس”، وانقلب على إرادة الرئيس قيس سعيد الذي اختاره، لكن الأخير فاجأه خلال لقاء جمعهما برد غاضب كان أشبه بالتوبيخ بشأن تعيينه عدداً من المستشارين الذين تلاحقهم تهم فساد لم يتم البت فيها بعد.

موقف أربك المشيشي لا سيما أن مضمونه قد نُقل مباشرة على صفحة رئاسة الجمهورية وتابعه طيف واسع من التونسيين، وكشف عن بوادر صراع بين قصري قرطاج والقصبة اللذين بدأت ملامح القطيعة بينهما تظهر قبيل جلسة منح الحكومة الثقة.

استقبل سعيد المشيشي للحديث عن الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ولكن ما حدث أن الاجتماع أخذ منعطفاً آخر عندما جعل سعيد من التعيينات الأخيرة في ديوان المشيشي والتي شملت مستشارين مصنفين على أنهم رجالات الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، محور اللقاء. وبلهجة حادة وغاضبة أكد أنه لن يقبل بدخول الذين أجرموا في حق الدولة أو لديهم ملفات قضائية لم تحسم بعد، مذكراً رئيس الحكومة بنشاطه سابقاً داخل لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد وبالتالي إدراكه حجم الاختلاسات التي أقدم عليها هؤلاء.

هشام المشيشي

وسرت أنباء عن عزم المشيشي تعيين مجموعة من المستشارين في ديوانه، أبرزهم المحافظ الأسبق للبنك المركزي توفيق بكار كمستشار للشؤون الاقتصادية الذي يعد وفق هيئة الحقيقة والكرامة من رموز منظومة الفساد وعلى ذمته جملة من قضايا الفساد في المجال المصرفي (تقديم قروض بلا ضمانات أو بضمانات وهمية، وعدم استرجاع القروض، وتمويل مشاريع وهمية وتبييض أموال)، وقضايا أخرى كبرى وفق تقارير الهيئة. والمنجي صفرة المستشار الاقتصادي السابق لبن علي والمتهم بالفساد والاعتداء على المال العام قبل الثورة، وتشمل قائمة الانتهاكات الموجهة إليه التفويت في أراضي دولية والفساد في مجالات الديوانة، والتهرب الضريبي والامتياز الجبائي والصفقات العمومية بحسب تقرير الهيئة.

وقال سعيد: ”هؤلاء ليس لهم أي ضمير، لقد عبثوا بالدولة ويريدون العودة اليوم ويتسللون باسم الخبرة، ولا خبرة لهم إلا في السطو والسرقة والتحايل، ليتأكدوا أن العقاب آت”.

وأضاف: “المحاكم تصدر أحكامها باسم الشعب وإذا كان صاحب السیادة أدان منظومة كاملة بمؤسساتها وأشخاصها وثار علیها وسقط الشهداء والجرحی من أجل إزاحتهم، فلا مجال لأن یعودوا الیوم بعدما  كانوا قد تواروا عن الأنظار وما زالت قضایاهم منشورة أمام القضاء”.

وعلى رغم وجاهة موقف سعيد إزاء هذه التعيينات المريبة، إلا أن ما حدث كشف الشرخ الكبير بين خيارات رئيس الدولة ورئيس الحكومة بل يبين أن الرجلين يسيران وفق أطروحات متناقضة تثير التساؤل، عما إذا كان الصراع بينهما قد انطلق فعلياً وأخذ أبعاداً أكبر مما يعتقد التونسيون؟

تعزز هذه الفرضية مجازفة المشيشي في هذا التوقيت باختياره أسماء يعي جيداً أنها لن تقبل على الصعيد الشعبي وستجعله محل انتقاد واستهداف واسعين، كمستشارين في خطط اقتصادية ومالية بعد قرابة الأسبوع من حديث سعيد عن ملف الأموال المنهوبة والمصالحة الاقتصادية وتأكيده أنه لن يسمح بالتساهل في إدارتها، وأنه سيشهر بمن يدفع في اتجاه عدم استرجاع أموال الشعب.  

بمعنى أن اختيار المشيشي الاسمين السالف ذكرهما وتكليفهما بهذه الملفات لم يكن اعتباطياً، إنما أراد من خلاله تمرير رسالة مفاده أنه لن يكتفي بعدم اتباع مقاربة تتماهى مع خيارات رئيس الجمهورية، بل سيسير وفق خيارات مناقضة له كلياً. وليؤكد بذلك ما راج بشأن خروجه من جلباب الرئيس وارتمائه في أحضان الأحزاب السياسية الوازنة على غرار “حركة النهضة” و”حزب قلب تونس”، بحثاً عن حزام سياسي متين مكنه في البداية من تمرير حكومته في البرلمان ويضمن له فرص تجسيد طموحاته. ويبدو أن المشيشي بات مستعداً للإيفاء بتعهداته التي أطلقها قبيل منح الثقة لحكومته والقاضية بإحداث تغيير سريع على قائمة الحكومة وضم مقربين من الحزبين إلى الحكومة مقابل الاستغناء عن وزراء محسوبين على الرئيس ومستشاريه.

لكن يبدو أن سعيد تلقف رسالة المشيشي بسرعة واختار أن يرد عليها بشكل علني أي أمام التونسيين، دعامته الوحيدة الآن بعدما خابت آماله بالأحزاب السياسية وانقلاب المشيشي عليه، على رغم أنه كان من اختياره. ولأن الرئيس يدرك أن صلاحياته لا تسمح له بمنع رئيس الحكومة من اختيار مستشاريه، فقد قرر أن يخاطبه مباشرة أمام الجميع ويكشف تاريخ من وقع عليهما خياره لتولي خطة دقيقة ويحرجه بشدة ويرد هو الآخر برسالة مفادها، إذا كان حزامك أحزاب سياسية فإن دعامتي الشعب.

كما لم ينس سعيد أن يلمح إلى عزم هذه الأحزاب السياسية التي ارتمى في أحضانها المشيشي على تغييره في أول فرصة سانحة، بقوله “هناك من يتربص بالدولة للوصول إلى رئاسة الحكومة وأعرفه بالاسم وأعرف ماذا يفعل وكيف يرتب الأمور للمرحلة المقبلة”. كلمات سعيد هذه اعتبرها متابعون بمثابة دعوة للمشيشي إلى العودة إلى جلباب الرئيس وتحذيره من السيناريوات يرتبها الحلفاء  الجدد.

على رغم وجاهة موقف سعيد إزاء هذه التعيينات المريبة، إلا أن ما حدث كشف الشرخ الكبير بين خيارات رئيس الدولة ورئيس الحكومة بل يبين أن الرجلين يسيران وفق أطروحات متناقضة تثير التساؤل.

ويبدو أن النهضة تحسست ما أشار إليه سعيد فبادرت إلى دعم المشيشي سعياً منها للحفاظ عليه ضمن دائرة توافقاتها. جاء ذلك من طريق رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الحركة، راشد الغنوشي الذي رد على مداخلة الرئيس قائلاً في تصريحات صحافية “إذا كانت تعيينات المشيشي وفق القانون ووفق الدستور فهي نافذة”، في اصطفاف واضح إلى جانب رئيس الحكومة ومن دون مراعاته سجل المستشارين الحافل بالفساد. 

مدير الديوان الرئاسي الأسبق والمحلل السياسي عدنان منصر وعلى رغم تحفظاته على شكل تدخل الرئيس سعيد إلا أنه أعرب عن تأييده موقف الأخير لأن الأمر برأيه يتعلق بتجاهل المشيشي إساءة المستشارين الذين وقع عليهما اختياره لأبناء هذا البلد على مدار سنوات.

وقال منصر لـ”درج”: “هناك من رأى في كلام قيس تدخلاً في أمور لا يحق له التدخل فيها دستوراً وقانوناً، وهذا ربما له ما يبرره شكلياً، لكن سعيد عبر عن قناعة تشمل كثيرين من أبناء هذه البلاد ولا تهم السياسة في معناها الضيق، وإنما تهم السياسة من ناحية أنها ذوق أولاً، وأنها غاية ثانياً. الدول ليست شركات محدودة المسؤولية ولهذا فإن القوانين والدساتير في الدول ليست غاية في حد ذاتها. هي طريقة لتنظيم العمل بما يضمن تحقيق الغايات من وجود الدولة، أي تحقيق العدل. القوانين والممارسات غير العادلة، ولو كانت رسمية ومطابقة للصلاحيات، تفقد مشروعيتها عندما تكون في اتجاه معاكس تماماً للغاية من الدولة، أي العدل”.

وأضاف: “لنركز في مضمون ما ورد في موقف سعيد بدل التوقف عن الشكل فالأمر يتعلق بتعيينات لها لون سياسي، بل لون سياسي فاقع. الأمر يتعلق بأشخاص كان لهم دور أساسي في سلب الدولة ونهب الاقتصاد طيلة عشرية كاملة ولفائدة طغمة عائلية وسياسية حاكمة أكلت الأخضر واليابس. كان يفترض بالمشيشي أن يعي تبعات هذه التعيينات بخاصة أنه لا يستطيع ادعاء الجهل بالملفات. لكن ما حدث أنه وعلى رغم هذه العوامل أصر على موقفه ولهذا فعليه تحمل التبعات السياسية، وموقف قيس هو من هذه التبعات السياسية. لقد تحدث قيس مع التونسيين وأشهدهم على موقفه من المنظومة السابقة، وأشهدهم أيضاً على رئيس الحكومة وهذه تسمى سياسة ربما هذا ما بقى للرجل، لكن هذا ليس قليلاً”.

وأوضح منصر أن تدخل سعيد هو محاولة منه لتلافي خسائر أكبر لصورته عند التونسيين وفي دوره وفي محافظته على ما بقي من الأمانة، مرجحاً أن يزيد نسق هذا النوع من التدخلات في الفترة المقبلة، لأنها ستكون في صميم طبيعة العلاقة بينه وبين المشيشي. “وهذا الوضع سيرسخ حرج رئيس الحكومة الذي سيجد نفسه بين ضغطين من جهة قيس سياسياً، والترويكا البرلمانية التعيسة من جهة أخرى”.

خلاصة القول إن ما جد هذه الأيام يشي بأن السيناريوات السياسية في تونس باتت محصورة في خيارين اثنين أولهما احتداد الصراع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة الذي انطلق مذ أبدى المشيشي تودداً لـ”حركة النهضة” و”حزب قلب تونس” صاحبي الكتل البرلمانية المهمة والراغبين في الحد من نفوذ الرئيس. وثانيهما أن تضيق الأفق أمام رئيس الحكومة لا سيما في ظل المطالب الكبيرة المنتظرة للأحزاب فيعود إلى مربعه الأول الذي اختاره لمنصبه الحالي قيس سعيد.