fbpx

ماذا يعني انحياز السودان لمحور التطبيع؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قد لا يحقق التطبيع تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية أي مصلحة للسودان، ولا يساعد في إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب… بمعنى أن ما تقوم به إدارة ترامب ما هي إلا مناورات لمصالح تخصها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسارعت في الأسابيع الأخيرة خطوات السودان نحو التطبيع مع إسرائيل ليصبح الدولة الأقرب لتوقيع اتفاق ديبلوماسي مع تل أبيب بعد الإمارات والبحرين. وما كان يتسم بالسرية ويُدار خلف الأبواب المغلقة لم يعد كذلك بعد الآن. فالشارع السوداني أصبح مهيأ للإعلان عن تطبيع كامل للعلاقات بين الخرطوم وتل أبيب في أي لحظة.

قبل الثورة التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير من السلطة في نيسان/ أبريل 2019، كان النظام في السودان يجاهر برفضه أياً من أشكال التطبيع مع إسرائيل مدافعاً عن حق الشعب الفلسطيني العيش في سلام. لكن، وفي سني حكمه الأخيرة، تنازل البشير عن مبادئه حول القضية الفلسطينية، فالوضع الاقتصادي ضيق الخناق على حكومة المخلوع وبدأت تعلو الأصوات المطالبة برحيله، فكان الحل في البحث عن حل يمكنه من الاحتفاظ بكرسيه، ولم يجد مخرجاً سوى التطبيع مع تل أبيب مقابل إزالة اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب التي وضع فيها منذ عام 1993. البشير كان يأمل في دفع عجلة الاقتصاد بعد رفع اسم السودان من القائمة وبالتالي عودة المعونات الدولية التي ستساعد على استقرار نظامه، لكن الثورة قطعت الطريق أمامه.

بعد توقيع الوثيقة الدستورية في آب/ أغسطس 2019، أتى الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيساً  لمجلس السيادة السوداني ليكمل ما بدأه البشير من تقارب مع إسرائيل. فهو يعلم أن الطريق لكسب رضا الولايات المتحدة الأميركية يمر بإسرائيل. في 3 شباط/ فبراير الماضي فوجئ السودانيون بلقاء غير معلن جمع بين البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في عنتيبي بأوغندا، عاد بعدها ليمهد لبدء مفاوضات. وبعد أقل من أسبوعين من هذا اللقاء أعلنت حكومة نتنياهو فتح الأجواء السودانية لرحلات الطيران الاسرائيلية.

لقاء “عنتيبي” أثار وقتها جدلاً سياسياً كبيراً في الخرطوم، فرئيس الوزراء عبد الله حمدوك نفى علمه بلقاء البرهان ونتانياهو، ووزيرة الخارجية السودانية آنذاك صرحت بأنها علمت باللقاء عبر وسائل الإعلام، ومنذ ذلك الحين لا إجابة عن سؤال ظل يشغل ذهن المواطن السوداني، من يدير السياسة الخارجية للبلاد مجلس السيادة أم رئاسة الوزراء؟

ثمن التطبيع

لم ينتهِ جدل التطبيع عند لقاء أوغندا، فالسودان كان محطة من ضمن المحطات التي زارها وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو في جولته الشرق أوسطية  في آب 2020، لإقناع عدد من الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل. زيارة بومبيو التاريخية إلى الخرطوم، وكما كان متوقعاً، لم تكن لدعم الانتقال الديموقراطي بعد الثورة بل الغرض الأساسي منها إضافة اسم السودان إلى مجموعة الدول العربية التي دشنت علاقات رسمية مع تل أبيب. مباشرة بعدما حطت طائرته في مطار الخرطوم، التقى بومبيو رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وحاول إقناعه بالسير على خطى شريك الحكم العسكري “البرهان” والقبول بالتطبيع، مقابل رفع اسم بلاده من قائمة الإرهاب. كان رد حمدوك بأن هذا القرار “الحساس” ليس من سلطة الحكومة الانتقالية، ولن يتمكن من تمريره قبل اكتمال هياكل السلطة. وبالطبع لن يجد بومبيو مراده عند حمدوك، فالأخير لا يجرؤ على الموافقة العلنية على طلب الإدارة الأميركية فقوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسة التي أتت به رئيساً للوزراء، لديها موقف واضح تجاه التطبيع وبأنه ليس من ضمن أولويات ما بعد الثورة.

ما كان يتسم بالسرية ويُدار خلف الأبواب المغلقة لم يعد كذلك بعد الآن.

بعد مغادرة بومبيو الخرطوم بنحو ثلاثة أسابيع، توجه وفد رفيع المستوى في أيلول/ سبتمبر 2020، إلى دولة الإمارات العربية يترأسه الفريق البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي للاجتماع بوفد أميركي من مجلس الأمن القومي. اصطحب معه في هذه الزيارة وزير العدل نصر الدين عبد الباري ليتفاوض حول رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول راعية الإرهاب وإعفائه من الديون الأميركية. وبعد ثلاثة أيام من الاجتماعات المستمرة عاد الوفد السوداني وأصدر بياناً أشار فيه باقتضاب إلى القضايا التي تمت مناقشتها في مفاوضات أبوظبي، من ضمنها قضية رفع السودان من قائمة الدول راعية الإرهاب، مستقبل السلام العربي الإسرائيلي، ودور السودان في تحقيق هذا السلام. لم يجب البيان على السؤال المطروح بقوة، هل ستلحق الخرطوم ركب العواصم العربية التي أعلنت أخيراً التطبيع مع إسرائيل؟

لم تمر ساعات على عودة البرهان والوفد المرافق له حتى بدأت الصحافة الأميركية والإسرائيلية تتحدث بلسان مسؤولين من الجانبين عن قرب التطبيع الذي قد يكون خلال أيام. وتناولت الصحافة تفاصيل ما دار في اجتماعات أبوظبي المغلقة. بالطبع لوح الأميركيون بورقة حذف اسم السودان من قائمتهم للدول الراعية للإرهاب مقابل التطبيع مع الكيان الإسرائلي، مع وعود بدفع مساعدات بقيمة 650 مليون دولار. في المقابل، رهن البرهان موافقته بتنفيذ مجموعة من المطالب، أهمها رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للإرهاب وأن لا تقل المساعدات المالية عن 10 مليارات دولار. ومن ضمن المطالب أيضاً ضمان تمرير تشريع من الكونغرس يحصّن السودان من أي مقاضاة مستقبلية. مع إعفاء ديون الخرطوم لواشنطن بما فيها الالتزام بدفع 300 مليون دولار تعويضاً لأسر القتلى الأميركيين في الهجمات التي استهدفت سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي عام 1998، إضافة إلى تعوضيات لأسر قتلى الهجوم على المدمرة الأميركية يو إس إس كول في ميناء عدن.

توزيع مكاسب الصفقة

الجميع يعلم أن مساعي الرئيس الأميركي لإنجاح ملف التطبيع بين الدولتين تهدف إلى تحقيق نجاح آخر في السياسة الخارجية، ما ينعكس إيجاباً على فرصه في الفوز بولاية ثانية ضد منافسه جو بايدن في الانتخابات التي ستجرى في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. فترامب يتعرض لضغوط كبيرة متمثلة في تراجع الاقتصاد وانتشار مرض كوفيد-19 وزيادة معدل البطالة. وعلى رغم أن السياسة الخارجية ليست من ضمن أولويات الناخب الأميركي، إلا أن هناك ناخبين واقعين تحت تأثير اللوبي الإسرائيلي قد يرون في نجاح التطبيع سبباً للتصويت لمصلحة المرشح الجمهوري.

أما على الجانب السوداني والمتمثل في رئيس مجلس السيادة، فكل المؤشرات تدل على محاولة البرهان الاستحواذ على ملف العلاقات الخارجية، الانفتاح على إسرائيل ضمناً. فهو يجتهد في حذف اسم السودان من القائمة لنيل مكسب سياسي يتيح له الترشح للانتخابات الرئاسية، بعد انقضاء الفترة الانتقالية. وانتعاش الاقتصاد سيقوي من حظوظه في الفوز، خصوصاً أن عدداً مقدراً من رجال الأعمال السودانيين هم من  منتسبي حزب المؤتمر الوطني المنحل.

يُضاف إلى ذلك أن البرهان تلاحقه مزاعم بالمشاركة في عمليات إبادة في دارفور خلال توليه قيادة القوات المسلحة في وسط دارفور. البرهان الآن رئيس المجلس السيادي وبالتالي لديه الحصانة من الملاحقات القضائية ولكن بعد تسليمه الرئاسة للشق المدني لن تكون هذه الحماية أمراً مضموناً. لهذا يرى مراقبون أن البرهان يصر على وضع كرت الحصانة على طاولة المفاوضات الذي يمثل طوق النجاة له من أي محاسبة في المستقبل.

زيارة بومبيو التاريخية إلى الخرطوم، وكما كان متوقعاً، لم تكن لدعم الانتقال الديموقراطي بعد الثورة بل الغرض الأساسي منها إضافة اسم السودان إلى مجموعة الدول العربية التي دشنت علاقات رسمية مع تل أبيب.

إسرائيل تبحث عن موطئ قدم في السودان الذي لا يملك اقتصاداً تستفيد منه، إنما يملك موقعاً جغرافياً مهماً في أفريقيا، خصوصاً الموقع الاستراتيجي لميناء بورتسودان الذي يطل على البحر الأحمر. كما أن الخرطوم تمثل رمزياً عاصمة اللاءت الثلاث “لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض” الذي أطلق في القمة العربية التي انعقدت في العاصمة السودانية عام 1967. التطبيع، إذاً، يعد نصراً معنوياً لتل أبيب، كما لبنيامين نتنياهو الذي تلاحقه  تهم بالفساد.

أما الإمارات العربية المتحدة التي استضافت اللقاء الأخير فلا تسعى إلى أي مكسب مادي من دعم هذا التقارب وهي الدولة الثرية التي لا تعاني مشكلات اقتصادية، لكنها تهدف إلى كسب ودّ الولايات المتحدة للمساعدة على تقليص النفوذ الإيراني في بعض الدول العربية أضف إلى ذلك سعيها إلى تمرير صفقات شراء الأسلحة التي تعزز من قوتها في المنطقة.

ترحيب ورفض

في الخرطوم، تعالت بعض الأصوات من الداخل مؤيدة للتقارب مع إسرائيل أسوة بالدول العربية والأفريقية. فالسودان في أمس الحاجة لإنعاش اقتصاده حتى وإن كان على حساب القضية الفلسطينية. هذا التيار يرى أن مصلحة السودان تأتي أولاً وأن خلق علاقات ديبلوماسية مع تل أبيب يجب فصلها من مسار السلام الفلسطيني.

على الجانب الآخر، يرى مراقبون أن التطبيع تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية لن يحقق أي مصلحة للبرهان ولا للسودان ولن يساعد في إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب، وأن ما تقوم به إدارة ترامب ما هي إلا مناورات لمصالح تخصها. فالتطبيع لا علاقة له بالسلام، والابتزاز الذي تمارسه برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب مقابل التطبيع لا يتماشى مع مرحلة ما بعد الثورة من منظور سوداني داخلي. أما السياسيون الرافضون للتطبيع فوصفوا التعامل مع إسرائيل بالخيانة، ومن أبرز هؤلاء رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي الذي قال إن العلاقة مع إسرائيل “خيانة وطنية وإسلامية”.

الثابت في الأمر أن السودان يتجه نحو التطبيع في القريب العاجل وقبل انقضاء الفترة الانتقالية أملاً في دفع عجلة الاقتصاد بالإضافة إلى مصالح أخرى. هذه الخطوة تشكل تهديداً للفترة الانتقالية وستكون المسمار الأول في نعش التحول الديموقراطي. فالسودان يمر في مرحلة هشة وحرجة ويواجه تحديات جسيمة، وأي حديث عن تقارب مع إسرائيل في هذا التوقيت قد يفتح الباب على مصراعيه أمام الجماعات المتشددة التي تتربص بحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.