fbpx

“في الشام خبز”: من دير الزور إلى دمشق بحثاً عن ربطة وسرفيس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

بعد 10 سنوات منهكة ما زال السوريون يختارون الليل ليداروا به هويّاتهم ويعملوا ومن ثم يخرجون نهاراً بحثاً عن قوتهم، في حياة لا تبدو عادلة وإن سئلوا، لكن أهذه حياة؟ يردون بخيبة: لا نريد أن يجوع أطفالنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دمشق اليوم مزيجٌ من مدنٍ وطوائف وديانات وحتى جنسياتٍ أجنبية وعربية، تبدو العاصمة السوريّة صورة صغيرة وحزينة للعالم، بكلّ ألمها هي مكانٌ للجميع، تستطيع دوماً أن تجد فيها مساحة لأحلامك، لفقرك ولبحثك عن الحياة، في “السرفيس” من ساحة باب توما أسمع على الأقل أربع لكنات، من أربع مناطق متباعدة جغرافياً في سوريا، حتى “السرفيس” يغدو مدينة يختلط فيها الناس من خلفيات مختلفة، وهذا ما يجعل دمشق مدينةً متناقضةً وحادّة في طباعها فكلّ شيء ملحوظ ومسموع. إنّها مدينة تتعرف إليها من أصواتها، صراخ باعتها، قرقعة فناجين القهوة لبائع متجول، وضجيج سياراتها.

إكرامية لا رشوة

على لوحة السيارة كُتِبَ “دير الزور،” بحروف بهتت وتقشرت من أماكن عدة، حتى كادت تتلاشى دير الزور، سائقها رجلٌ ستينيّ، اتفقتُ معه على أجرة غالية نسبياً نتيجة انقطاع الوقود، لا تستطيع تخفيض الأجرة مع معرفتك بساعات الانتظار الطويلة جداً التي يمضيها السائقون على محطات الوقود. لم تسرْ بنا السيارة دقائق قليلة حتى أشار شرطي المرور للسائق بالوقوفِ جانبَ الطريق حيث يقابلنا سوقٌ شعبيّ. طلب الشرطي بعض الأوراق التي لم تقنعه فللسيارة نمرة مدينة دير الزور ويمنع أن تعمل سيارات تعود أوراقها إلى محافظات أخرى في غير مدنها. “كنت رايح جيب خبز وقلت بطلعا ع طريقي وبكسب طلب”. لم يُقنع كلام السائق الشرطي، فتنحنح وردد بثقة: “أنا تقاعدتُ من عملي في الشرطة منذ شهرين، نحن زميلان”، حتى هذه العبارة لم تشفع لسيارة دير الزور التي تجوب دمشق. وحين عرف السائق أن عبارته السحرية لم تصنع فارقاً مدّ يده وناول شرطي المرور عملةً ورقية لم أحدد قيمتها إلى حين رماها الشرطي وسقطت فبانت المئتي ليرة سورية المهترئة. رحل الشرطي ومعه أوراق السيارة وتركني أنا والسائق المتعب تحت شمس أيلول/ سبتمبر اللاذعة، بالطبع لن يرضى بمئتي ليرة زهيدة لا تشتري هذه الأيام كيلو من الخضار. لحقه السائق وغاب الرجلان وأنا وحيدة في سيارة صفراء باهتة أراقب الخارجين من السوق الشعبي بأكياسهم القليلة، يرتاح بعضهم عند عربة رخيصة يصيح صاحبها: “تع بورد”، تحوي عصائر صناعية بألوان فاقعة أكثر من الفاكهة الطبيعية، وحدها عربة العصائر الاصطناعية الباردة كانت ألوانها واضحة من عشرات الأمتار.

بعد 10 سنوات منهكة ما زال السوريون يختارون الليل ليداروا به هويّاتهم ويعملوا ومن ثم يخرجون نهاراً  بحثاً عن قوتهم، في حياة لا تبدو عادلة وإن سئلوا، لكن أهذه حياة؟ يردون بخيبة: لا نريد أن يجوع أطفالنا.

عاد السائق بعد بعض الوقت وانطلقت بنا السيارة مجدداً. لم تكن مشكلة السائق أن الشرطي رفض المئتي ليرة ولم يمنحه أوراقه إلّا حين زادها إلى 500 ليرة سورية والتي لا تساوي في الحقيقة 25 سنتاً، ما عزّ على السائق أن ذلك الشرطي لم يحترم الزمالة التي جمعتهما خلال عملهما في السلك ذاته، وعامله كأيّ مواطنٍ عادي، بعدما كانا يتشاركان المهنة ذاتها، وكان يردد بين وقت وآخر: “لم يعد للشرطي المتقاعد احترام، لو احترم أنني زميله على الأقل لكنه لم يرضَ إلا بـ500 ليرة!”.

وهكذا بطبيعة الحال تسير أمور الناس في هذا البلد فالعملات الورقية الموضوعة مع المصنفات أو الأوراق التي تُعطى للموظفين في الكثير من الدوائر، يغدو إنجازها أسرع ويختصر الناس أوقاتهم، فباتت الرشوة جزءاً من حياة السوريين، وكلما كان المبلغ أكبر أُنجِز عملكَ أسرع. وفي ظل الرواتب القليلة التي يتقاضاها عناصر شرطة المرور في سوريا، يعتمد البعض على ما يستطيعون الحصول عليه من السيارات التي ترتكب المخالفات وبدل تحرير مخالفة قد تكلف السائق الآلاف، يمكن أن يتغاضى الشرطي عن ذلك بمبلغ مالي، ويتجنب الاثنان تسميتها “رشوة”، فهي إكرامية صغيرة تيسّر حال الطرفين من دون أن تؤذي الطرف الأضعف وهو السائق بشكل مباشر، فيضطر لدفع مبالغ أكبر أو تُحجز سيارته.

عندنا خبز!

 الرجل الذاهب لجلب الخبز والمهجّر من دير الزور منذ 5 سنوات يدرك قسوة المدن لكنه يردد أن دمشق أرحم من “الدير”، على الأقل فيها خبز، ما المدن هنا سوى ربطة خبز ساخنة نعود بها إلى عائلاتنا؟ بعد أن ندفع رشوة تفوق سعر الربطة منها ليرافق جلب الخبز عبء إضافي قد يظهر فجأة. يجرب السوريون اليوم الحرمان من الخبز وتقنينه ويشعرون بدوائر الحياة وهي تضيق، ويسألون لماذا يُقنن الخبز؟ يريدون أن يقتنعوا أن هذا التقنين سيحاصر سارقيه، يودون تصديق أن المشكلة هي في سارقي الخبز وفيمن يحولونه إلى علف للحيوانات، الحيوانات التي تُربى كذلك على الأسطح. فللحظة لم أصدق أنني سمعت صياح ديك وحين خرجت إلى الفسحة وسط منزلي أدركت أن الصوت من سطح الجيران، نعم الدمشقيون يربون الدجاج على سطوحهم، إنّه كرم الأسطح في لحظات الحرمان، ديوكٌ توقظ المدن المتعبة وتذكّر الفقراء كلّ يوم بوصول الصباح.

حين فُقِد الخبز وراحت ساعات الانتظار تطول أمام المخابز لم يخيّل للسوريين أن حصّة كلّ فرد ستصبح في اليوم الواحد ثلاثة أرغفة ونصف الرغيف، محسوبة برسالة نصية تصل إلى هواتفهم، وتُعلِمُهم بانتهاء حصصهم لهذا اليوم، اليوم الذي يمر ثقيلاً وكئيباً كرائحة الخبز خلف الكوّات المتسخة. وبحسب القرار الجديد الذي طبق في دمشق يحق لكلّ شخصين بربطة خبز واحدة يومياً يحصلان عليها عن طريق البطاقة الذكية، وهكذا يغدو من حق السوريّ ثلاثة أرغفة ونصف الرغيف يومياً يستطيع تناولها بالطريقة التي يودها، وتعبئتها بما يشاء، أو تناولها “ناشفة”. وهكذا ستقف العائلات يومياً أمام الأفران بدل الذهاب لمرة واحدة وجلب احتياجهم من الخبز لأسبوع أو أيام. وهذا في حد ذاته تقييد ليومهم وتضييق لأعمالهم مع عدم مراعاة خصوصيتهم، وكأنّ عليهم أن يفعلوا ما يُملى عليهم وإلّا جاعوا. هل يصعب على المسؤولين التفكير بهذه التفاصيل حقاً وهم يصدرون هكذا قرارات؟

لا يبدو هذا القرار هادفاً إلى تخفيف الهدر وحسب، فالسوريون يدركون أن كلّ ما يُقنن يعني أن مواده الأولية بدأت تُفقد، وهذا ما يدفعهم للتفكير بأن هناك نقصاً في مادة القمح وصعوبة في الحصول عليها، بسبب العقوبات الاقتصادية على سوريا من جهة، وبسبب انتشار وباء “كورونا” من جهة أخرى، فهل سترفع الحكومة الدعم عن مادة الخبز، المصدر الرئيس لطعام السوريين لا بل الوحيد للكثير منهم؟ وما البديل لعائلات باتت لا تملك سوى الخبز والشاي؟

هكذا يغدو من حق السوريّ ثلاثة أرغفة ونصف الرغيف يومياً يستطيع تناولها بالطريقة التي يودها، وتعبئتها بما يشاء، أو تناولها “ناشفة”. وهكذا ستقف العائلات يومياً أمام الأفران بدل الذهاب لمرة واحدة وجلب احتياجهم من الخبز لأسبوع أو أيام.

غرباء في دمشق

أفكر بعبارة السائق “أقله يوجد خبز في دمشق” وأن هذا الخبز لم يعد كافياً وأفكر بالدير المدينة المنسية الواقعة في شرق سوريا، والتي لا خبز جيداً فيها، كما دمشق، فهي المدينة البعيدة من العاصمة والحياة، وقد تقاتلت على أرضها دولٌ وجماعات كثيرة، وباتت بعد الحرب مدينة منسية وموحشة.

زرتها قبل نحو 12 عاماً، أتذكرها كجسر كبير وعالٍ معلق فوق نهر الفرات، شعرت باهتزازات تكاد لا تظهر، وكنت مبهورة بشبان الدير وهم يقفون على أعمدة الجسر العالية ويرمون بأنفسهم نحو الماء. كنت آتية من مدن لا أنهار فيها أتابع الشبان وهم يرمون بأنفسهم الواحد تلو الآخر ثم يلوحون لنا من وسط الماء. أتذكر الفتيات الآتيات من دير الزور واللواتي عرفتهن خلال دراستي بقاماتهن الممشوقة وسمارهن الآسر، اليوم لا جسر معلق ولا شبان يرمون أنفسهم في الماء وينجون ونبتسم لهم، وبعد سنين من النزاعات والحروب على أراضيها لا أتذكرها سوى بهذه الطريقة، مدينة يرمي شبابها أنفسهم في الأنهار الضخمة وفتياتها صلبات وجميلات.

وحين تشتت سكانها في بقاع الأرض وفي المدن السوريّة بقوا هشّين كنهرها، يُظلمون في كلّ مكان، يعاملون بعنصرية في بعض الأحيان ويُشكَّك بقدراتهم في أحيان أخرى، في النهاية كلّ المدن السورية لا ترحم ساكنيها فكيف حال الغرباء؟ هكذا يعمل السائق الديري ليلاً حين لا تستطيع الشرطة أن توقفه وتخالفه. في الليل تنام المدن الخائفة باكراً ولا يبقى سوى العائدين من أمسيات متأخرة والعاملين في البارات واللواتي يعملن في “الكازينوهات” أو اللواتي تبدأ أعمالهن ليلاً في مطاعم رخيصة. في الليل هناك أعمال أخرى تنشط بينما يذهب المتعبون إلى بيوتهم بانتظار يوم آخر طويل، وحده السائق الآتي من دير الزور يعرف أن الليل يحميه وسط دمشق ويحمي سياراته من الحجز، ولا يخرج نهاراً سوى لإحضار الخبز لعائلته وقد يوصل فتاة في طريقه إلى هناك.

يبقى الغرباء غرباء في المدن وقد تكشفهم نمرة سياراتهم أو لكنتهم، وبعد 10 سنوات منهكة ما زال السوريون يختارون الليل ليداروا به هويّاتهم ويعملوا ومن ثم يخرجون نهاراً  بحثاً عن قوتهم، في حياة لا تبدو عادلة وإن سئلوا، لكن أهذه حياة؟ يردون بخيبة: لا نريد أن يجوع أطفالنا.