fbpx

“التشيّع” في شقاق : لماذا لن تنحاز إيران الى أذربيجان في حربها مع أرمينيا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا كان التشيع يجمع ما بين إيران وآذربيجان، فإن القومية تفرقهما، ولطالما تسبب الصراع على السلطة، بين قوميتيهما (التركية والفارسية) بحروب طاحنة، أريقت فيها دماء كثيرة، وما الصراع الدائر الآن، في ناغورنو كراباخ، إلا أحد شواهدها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في النزاع المتجدد ما بين جمهوريتي أرمينيا وآذربيجان، حول إقليم ناغورنو كراباخ، ضد آذربيجان، إلى جانب أرمينيا، رغم أن نشاطها الدبلوماسي، لجذب الطرفين نحو محادثات سلام، بغية تجنيب المنطقة الانزلاق نحو حرب حقيقية، يدل على أنها اختارت الحياد. 

في الواقع، لا يمكن لإيران إلا أن تكون في هذا النزاع، منحازة إلى أرمينيا، معادية لآذربيجان، لأسباب متشعبة ومعقدة، لها علاقة بالتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها.

فالعلاقة مع أرمينيا تؤمن لإيران، سوقاً مثالياً لبيع النفط والغاز، خاصة في زمن العقوبات الحالية، كما أنها توفر لها ممراً تجارياً برياً آمنا ووحيداً نحو أوروبا، وجيباً متقدماً، يطلّ على منطقة القوقاز (آذربيجان، جورجيا وأرمينيا) ويجاور دول آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمنستان، تاجيسكتان، كازخستان وقرقيزيا). 

وفي حال، سيطرت آذربيجان على إقليم ناغورنو كراباخ، تفقد إيران حدودها البرية الوحيدة مع أرمينيا، وتخسر بالتالي، كل هذه الخارطة الاستراتيجية.

أذربيجان والشيعة

بينما، تشكل آذربيجان، ببعديها المذهبي والقومي قلقاً وجودياً لإيران، فهي تعدّ الدولة الثانية في العالم، التي يشكل الشيعة غالبية سكانها، لكن الشيعة العلمانيين أو اللادينيين، النابذين للحكم الديني، تأثراً بالحقبة الشيوعية طبعاً، في حين تفرض إيران، الدولة الشيعية الأولى في العالم، على مواطنيها، برغم تنوعهم، حكماً دينياً (ولاية الفقيه) مبنياً على رأي فقهي اثني عشري مهمل.

وجود هكذا تناقض حول شكل الحكم، ضمن المذهب الواحد، يشكل، بحد ذاته، تهديداً مصيرياً لفكرة الدولة، التي رست عليها إيران بعد الثورة الإسلامية.

وإذا كان التشيع يجمع ما بين إيران وآذربيجان، فإن القومية تفرقهما، ولطالما تسبب الصراع على السلطة، بين قوميتيهما (التركية والفارسية)، في كثير من الحقب التاريخية، بحروب طاحنة، أريقت فيها دماء كثيرة، ودُمرت مدن وحضارات وخلفت وراءها أحقاداً، مازالت ماثلة في الذاكرة الجمعية لشعبيهما، إلى يومنا هذا، وما الصراع الدائر الآن، في ناغورنو كراباخ، إلا  أحد شواهدها.

ما سبق من دلائل، يحتم على إيران أن تكون منحازة علناً لأرمينيا، لكن هناك ما يجبرها على ادعاء الحياد، وهو الخوف من ردة فعل ملايين الأتراك الآذريين، الذين يشكلون ثاني أكبر قومية على أراضيها بعد الفارسية.

وبرغم الجهود الدبلوماسية التي تبذلها، للتوصل سريعاً إلى صيغة مُرضية، وإن موقتة، لطرفي النزاع، تفضي إلى إنهاء المعارك، فوراً، يعتقد أتراك إيران، أن الحكومة المركزية تمارس التقية، في هذه القضية، لذلك تشهد المحافظات الآذرية في شمال غرب البلاد، مظاهرات يومية ضد أرمينيا “المعتدية” على “الأشقاء الآذريين”، و”المغتصبة لأرض آذربيجانية”، إضافة إلى اتهامات علنية للحكومة المركزية، بالوقوف إلى جانب المعتدي (أرمينيا).

تختلف القومية التركية الآذرية في إيران، عن باقي مكونات المجتمع الإيراني، من حيث العدد والتأثير والدور، لذلك لا يوافق الأتراك الإيرانيون، على شملهم ضمن جدول الأقليات، فهم أكثرية، تنافس الأكثرية الفارسية، من حيث العدد، وربما تتجاوزها، لكن لا يمكنهم تأكيد هذا الأمر، بسبب امتناع الحكومات الإيرانية المتعاقبة، عن إجراء إحصاء شفاف لأعداد القوميات والاثنيات الموجودة على أراضيها.

ويؤكد مهتمون بهذا الشأن، أن مجموع الأفراد المنتمين إلى القومية التركية (أتراك آذريون، تركمن، قزاق، قشقائي وغيرهم) يناهز 30 مليون نسمة، من أصل 80 مليون إيراني، وبحسب إحصاءات أخرى، فإن نسبة الشعوب غير الفارسية، التي يتكون منها المجتمع الإيراني، تبلغ 70%، مما يعني أن القومية الفارسية لا تتعدى نسبتها 30%.

ويشكل الأتراك الإيرانيون أكثرية طاغية في محافظات شمال غرب إيران: آذربيجان الغربية، آذربيجان الشرقية، زنجان، أردبيل وقزوين، وأقلية في مناطق شمال كردستان وخراسان ومركزي وأجزاء من مدن همدان، كيلان، إصفهان، كرج وقم، كما يشكلون في طهران ثاني أكبر تجمع للناطقين بالتركية بعد استانبول وقبل أنقرة.

تاريخياً، حتى وصول الأسرة البهلوية إلى الحكم، كانت القومية التركية، هي الطبقة الحاكمة، لكل الدول التي مرت على إيران، الغزنوية والسلجوقية والصفوية والقاجارية، وحين خلف محمد رضا بهلوي والده رضا شاه، على عرش المملكة، اختار بعد زيجات متعددة فاشلة، الزواج من فتاة تركية آذرية هي فرح ديبا، التي أنجبت ولي العهد رضا الثاني.  وبعد الثورة الإسلامية، شكل المهندس مهدي بازركان التبريزي الآذربيجاني حكومته الموقتة، التي أمنت انتقال إيران من الفوضى الثورية إلى الانتظام، وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية، كانت السلطة السياسية تدار من قبل رجلين من أصل تركي: علي خامنئي في رئاسة الجمهورية، مير حسين موسوي في رئاسة الحكومة، أما السلطة الدينية، فكانت رئاسة أول مجلس خبراء القيادة، الذي ينتخب المرشد، في عهدة المرجع علي مشكيني التركي الآذري.

 يتذرع النظام الإيراني، بكثير من الحجج غير المنطقية، لناحية حرمان الشعوب غير الفارسية من حقوقها الثقافية، أبرزها أن اللغة هي إحدى أهم الأدوات التي تغذي العصب القومي

إضافة إلى ذلك، قدم الأتراك الإيرانيون، على مدى تاريخهم، نخباً ثقافية وعلمية وفنية، وكانوا ضمن الطليعة الفكرية والتحررية في إيران، عدا أنهم كانوا جنود الممالك التي حكمت البلاد، فقد شاركوا في انتفاضة التبغ ضد ناصر الدين شاه قاجار (التركي) وفي الثورة الدستورية (المشروطة)، ووقفوا بكل طاقاتهم وإمكاناتهم إلى جانب محمد مصدق، فترة تأميم النفط في العام 1953، كما انضموا باكرا إلى صفوف الثورة ضد الأسرة البهلوية، وكان لمدينة تبريز، أعرق حواضرهم، فصلا دمويا في شهر حزيران السابق لانتصار الثورة، حين قمعت الشرطة الملكية المظاهرات الشعبية بالرصاص الحي.

آثار القصف في ناغورنو كاراباخ

كل ما سبق وغيره، يمنح التركي الإيراني، شعوراً بالمظلومية من جهة، وبوعي حقه في الحصول على مناصب متقدمة في الدولة وفي الإدارات من جهة أخرى، وبعيدا عن الفلكلور الذي يستخدمه نظام طهران، ليثبت تسامحه واعترافه بحقوق “الأقليات”، فلا خامنئي ولا موسوي، ولا غيرهما من المسؤولين الذين حصلوا على بركة النظام، بنظر الأتراك الإيرانيين، يمثلون قوميتهم المضطهدة والمهمشة، فخامنئي من مواليد مشهد ولا يتقن التركية وقد ألف كل كتبه باللغة الفارسية، أما موسوي فهو طهراني ولد وعاش في بيئة فارسية، أما إذا كان النظام يطمع لإنصافهم فعليا، فيجب عليه على الأقل، أن يسمح لهم بإدخال لغتهم الأم إلى مناهج التعليم، فهم رغم الوعود المتكررة في هذا الشأن، حالهم كحال كل القوميات والاثنيات الإيرانية، مازالت لغتهم محظورة في مدارسهم وجامعاتهم، ومازالوا محرومين من طباعة الكتب والروايات والشعر باللغة التركية داخل الأراضي الإيرانية.

يشكل الأتراك الإيرانيون أكثرية طاغية في محافظات شمال غرب إيران: آذربيجان الغربية، آذربيجان الشرقية، زنجان، أردبيل وقزوين، وأقلية في مناطق شمال كردستان وخراسان ومركزي وأجزاء من مدن همدان، كيلان، إصفهان، كرج وقم، كما يشكلون في طهران ثاني أكبر تجمع للناطقين بالتركية بعد استانبول وقبل أنقرة.

الحساسية الفارسية من الثقافة التركية، لغة وتراثاً، تشكل بنظر الأتراك الإيرانيين، أحد أكثر التحديات خطراً على وجودهم، فما من قومية يمكنها البقاء على قيد الحياة، ما لم تمتلك ذاكرة جمعية مكتوبة، تحفظ رموزها وقيمها وتنجز منظومتها الاجتماعية المعبرة عنها.

 في المقابل، يتذرع النظام الإيراني، بكثير من الحجج غير المنطقية، لناحية حرمان الشعوب غير الفارسية من حقوقها الثقافية، أبرزها أن اللغة هي إحدى أهم الأدوات التي تغذي العصب القومي، وكون كل الشعوب غير الفارسية، ومن بينها التركية، بطبيعة الحال، تسكن مناطق الأطراف، وتشكل مجتمعاتها امتداداً لمجتمعات ودول خارج الحدود، فلربما ينشأ عن ذلك، انسجام وتآلف يضعف السلط المركزية البعيدة، ويفتح الشهية على التقسيم أو الحكم الذاتي، ويهدد بالتالي وحدة إيران.

على صعيد الإنتاج والثروات، من حظ إيران العاثر، أن أكثر ثرواتها الطبيعية أهمية، تتركز في مناطق الأقليات، النفط في المناطق العربية مثلا، السهول والغابات والأنهار في المناطق الكردية، أما في المناطق التركية، فتكمن أهم ثرواتها سحراً، السجاد اليدوي، ففي تبريز وحدها، هناك حوالي 500 ألف حائك تركي، ينتج سنوياً مليوني سجادة عجمية، تدر أرباحاً خيالية على الخزينة الإيرانية.

شعبياً، تنعكس هذه السلبية على العلاقة بين الأتراك والفرس كمواطنين، ويتداول كلاهما الكثير من النكات المؤذية والعبارات التي تسخر من اللغة والشخصية والعادات عند الطرفين، وعلى سبيل المثال، من الرائج بين العامة أنه حين ينتهي الفارسي من تناول طعامه يقول: “خدا رو شُكر، كه نه شدم تُرك”، أي “لله الشكر، أني لست من الترك”، أما التركي فيقول: “خدار رو با سپاس، كه نه شدم  پارس”، أي “لله الحمد، أني لست من الفرس”.