fbpx

قصص التحرش الإلكتروني في تونس: لا قوانين رادعة كفاية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ثروة البيانات التي قد يضعها البعض عبر صفحات التواصل الاجتماعي من صور ومعلومات قد تتيح للمتحرش فرصة ابتزاز الضحية وتهديدها للحصول على مكسب مادي أو معنوي، أو استغلالها جنسياً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ماذا تريدين أن أفعل لك الآن؟”، 

“أودّ أن تنامي بين ذراعيّ”، 

“افتحي كاميرا لأراك ونمارس الحب”… 

بعبارات سلسلة فيها مزيج من الإغواء والاستدراج المبطن لدفع الطرف الآخر للقبول بإرسال صور أو فيديوهات حميمة أو جريئة عبر الإنترنت. 

هذا ما حصل مع رحاب، وهي طالبة جامعية، روت لـ”درج” تجربتها مع التحرش الإلكتروني. تعترف بأنها لم تكن في البداية تملك معرفة واسعة بمعنى التحرّش الإلكتروني وأبعاده وكيفية معالجة الأمر. سيناريو التحرش تكرر معها، وإن طرأت بعض التعديلات و”الروتوش” من متحرّش إلى آخر.

تقول رحاب: “أحدهم كان يسأل عني كل يوم، يهتم لأمري، يحاول تهدئتي إن غضبت. عندما كان يوجّه إلي إيحاءات جنسية أو يطلب صورة لي وكنت أرفض بشدة، كان يختفي أياماً، هكذا بدأتُ أفهم من هو تحديداً وماذا يريد مني”.

لا يختلف التحرّش الالكتروني عن أنواع التحرّش، فهو من الجرائم الالكترونية الخطيرة، وتبرز مخاطره في أنه يهدد فتيات ونساء كثيرات في مجتمعات تقليدية محافظة من خلال نشر معلومات وصور وفيديوات من شأنها أن تدمّر حياةً كاملة. 

ثروة البيانات التي قد يضعها البعض عبر صفحات التواصل الاجتماعي من صور ومعلومات قد تتيح للمتحرش فرصة ابتزاز الضحية وتهديدها للحصول على مكسب مادي أو معنوي، أو استغلالها جنسياً، وتقع ضحية ذلك كثيرات، بينهنّ قاصرات، يتمّ استغلال براءتهنّ وقلة خبرتهنّ، إضافة إلى الضغط الاجتماعي الذي قد يمنع الضحية غالباً من فضح المتحرّش والبوح بما حصل لها.

تقول رحاب”أصبحوا يختارون ضحاياهم بعناية، يتقصون معلومات عنهن، إن كنّ مرتبطات رسمياً أو عاطفياً، ويبدأ المتحرّش طريقه في سبيل نقل الصورة من العالم الافتراضي إلى الواقع.”. 

في تونس على رغم أن قضايا التحرش الإلكتروني ما زالت لا تلقى اهتماماً واسعاً، إلا أن قضية في أيار/ مايو 2020، أثارت جدلاً بعدما ادّعت إعلامية مشهورة تدعى عربية بن حمادي على سليم شيبوب، صهر الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وسردت على “فايسبوك” كيف كان يتحرش بها برسائل في “واتساب”. كانت هذه سابقة في تاريخ تونس، أن يتم توقيف رجل أعمال صاحب سلطة في قضية تحرّش، وليس لسؤاله عن الأموال المنهوبة.

استغلال الجهل بالتقنيات

هادية (اسم مستعار، 60 سنة)، أرملة تعرضت للتحرش الإلكتروني، من شاب أربعيني. كان يحاول التقرب منها عبر “فايسبوك” عبر رسائل ورد وأمنيات في الأعياد والمناسبات. إلى أن فُتحت محادثة جدية بينهما. هادية ملأت فراغها وتوقعت أن هذا الشاب هو مجرد صديق يهتم لأمرها، حتى بدأ يطلب منها إرسال صور لها بملابس النوم، ويرسل لها صور عضوه الذكري عارياً.

“كلما كنت أرفض، كان يقفل في وجهي المحادثة ويختفي أياماً، إلى أن أتاني مرة وقال لي، إن لم ترسلي لي صورة، سأبعث رسالة لابنك على فايسبوك وأخبره بأنك مارست الجنس معي، وهذا لم يحدث البتة.”

هادية لم تكن ضليعة في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ولم تعرف كيف تتصرف، ولا حتى كيف تلغي صداقته نهائياً، لكنها اضطرت إلى إبلاغ ابنتها بتفاصيل القصة، فتولت أمر الشاب بعدما هدَّدته بالتشهير والفضيحة، وأخبرته أنها تعرف عنه الكثير.

هل تحميهنّ القوانين؟

وفق القوانين التونسي، يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة واحدة وسنتين وبغرامة من 100 إلى 1000 دينار كل من يتعمد الإساءة إلى الغير أو إزعاج راحته عبر الشبكات العمومية للاتصالات. كما تفرض القوانين عقوبة بالسجن لمدة ستة أشهر وبغرامة قدرها ألف دينار على كل من يعتدي علناً على “الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة بالإشارة أو القول أو يعمد علناً إلى مضايقة الغير بوجه يخل بالحياء. ويستوجب نفس العقوبات المذكورة بالفقرة المتقدمة كل من يلفت النظر علنا إلى وجود فرصة لارتكاب فجور وذلك بكتابات أو تسجيلات أو إرساليات سمعية أو بصرية أو الكترونية أو ضوئية”. 

هذه الفصول وغيرها من الترسانة القانونية التونسية بما فيها القانون الجديد الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة، لم تأتِ صراحة على تسمية “التحرش الإلكتروني” مباشرة، ولم تتناوله بتفصيل، كما يوضح الدكتور في القانون الدستوري أيمن الزغدودي. ويشير الزعدودي لـ”درج” إلى الاعتماد على الدستور نفسه في مثل هذه القضايا، وهو ينص على أن الدولة تحمي الكرامة البشرية وحرمة الجسد.

وبحسب الزغدودي يتحدث القانون بشكل ضمني غير صريح عن التحرش الإلكتروني وذلك عندما أشار المشرع الى مضايقات بكتابات أو تسجيلات أو إرساليات سمعية أو بصرية أو الكترونية أو ضوئية.

ولئن لا يمكن تطبيق الفصل 86 من مجلة الاتصالات على جرائم التحرش الجنسي، نظراً إلى وجود نص متعلق بها، فيمكن في كل الأحوال اللجوء إليه لمعاقبة الأفعال المسيئة والتي تزعج راحة الأشخاص بخاصة في ظل صعوبة إثبات التحرش الجنسي.

“كلما كنت أرفض، كان يقفل في وجهي المحادثة ويختفي أياماً، إلى أن أتاني مرة وقال لي، إن لم ترسلي لي صورة، سأبعث رسالة لابنك على فايسبوك وأخبره بأنك مارست الجنس معي، وهذا لم يحدث البتة.”

كما ينص الفصل 16 من قانون أساسي عدد 58 لسنة 2017، والمتعلق  بالقضاء على العنف ضد المرأة على إضافة الفصل 226 ثالثاً (جديد): “يعاقب بالسجن مدة عامين وبخطية قدرها خمسة آلاف دينار مرتكب التحرش الجنسي.

ويعتبر تحرشاً جنسياً كل اعتداء على الغير بالأفعال أو الإشارات أو الأقوال تتضمن إيحاءات جنسية تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغبات المعتدي أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغط خطير عليه من شأنها إضعاف قدرته على التصدي لتلك الضغوط.”

ويؤكد الزغدودي أن هذا الفصل يشمل جميع أشكال التحرش الجنسي بصرف النظر عن الوسيلة المعتمدة في الواقع، أو حتى في العالم الافتراضي، والتي يمكن أن تكون عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي أو بصورة مباشرة في مكان خاص أو عام.

وعليه فإن مرتكب التحرش الالكتروني يكون عرضة للعقاب المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 226 (ثالثاً جديد) المذكور سلفاً من المجلة الجزائية.

عشرات القضايا

هالة بن سالم وهي محامية وعضوة في الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات تؤكد لـ”درج” تلقيها عشرات القضايا الخاصة بالتحرش الإلكتروني، على رغم اعتبارها هذه التسمية مصطلحاً غير قانوني. بن سالم تفيد بأن عدد هذه القضايا زاد بشكل كبير لا سيما مع انتهاء فترة الحجر الصحي الإجباري، ومعظم رافعيها من النساء.

“على رغم أن القانون الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة عرَّف التحرش ويشمل تعريفه القانوني، التحرّش الإلكتروني أيضاً بوسائله كافة، إلا أن الإشكال الأكبر يكمن في القضاء وطريقته الكلاسيكية في الحكم بخصوص هذا الشأن”.

بن سالم ترى أنه على رغم المكاسب التشريعية التي تصب في مصلحة المرأة وحقوقها، في ما يتعلق بأشكال العنف ضدها، والتحرش ضمناً، إلا أن القضاء التونسي ما زال يعد عقبة أخرى أمام نيلها حقوقها ضد المتحرش أو المعتدي عليها. وقدمت بن سالم مثالاً على القضية الأخيرة التي ترافعت فيها في هذا الشأن بعدما عمد صديق موكلتها إلى نشر رسائل نصية وصورة لها على “فايسبوك”، وباتت منبوذة اجتماعياً وعائلياً، وأطلق القاضي سراح المذنب الذي لم يتلق أي عقاب رادع.

معاناة مجتمع الميم

معاذ (اسم مستعار، 26 سنة) من محافظة ساحلية تونسية، يهوى التصوير، وهو من مجتمع الكوير، وعانى من مشكلات نفسية وجسدية في محيط ما زال مغلقاً، إضافته إلى معاناته من التحرّش.

“عندما رفضت الانصياع لأوامره، أنشأ حساباً وهمياً على فايسبوك باسمي وأصبح ينشر صوري شبه عارٍ ويعرضني للبيع، وكأنني أمارس الجنس مقابل المال. كان هذا من أسوأ المواقف التي تعرضت لها في حياتي”.

كان معاذ يثق بالشخص الذي ابتزه كثيراً ولم يتوقع أن يتحوّل من صديق إلى كابوس مزعج. قبلَ ذات يوم صداقته على “فايسبوك”، إذ لم يثر حسابه وقتها أي ريبة، فقد ظهر بصورته واسمه الحقيقيين. وهكذا بدأت المحادثات بينهما كصديقين.

“أنا أرفض بشدة أن أمارس الجنس مقابل المال، لأنني إنسان حرّ وليس من حق أي شخص تصنيفي أو إخضاعي إلى ما لا أريده انطلاقاً من هويتي الجندرية”.

لم يلجأ معاذ إلى القضاء، بل عمدَ إلى تهديد المتعدي بالتشهير به في الصفحات الافتراضية لمجتمع الميم، وأبلغ الجمعيات العاملة في هذا المجال. يقول لـ”درج” إن هذا الأسلوب كان الطريقة الوحيدة التي حمته وأبعدت الأذى منه. 

محمد علي جعفر مسؤول في الجمعية التونسية للوقاية الإيجابية في محافظة المنستير، يؤكد لـ”درج” توثيق 35 حالة تحرش إلكتروني في الساحل التونسيّ ككلّ، وتراوحت أعمار الناجين غالباً بين 22 و29 سنة.

يشير جعفر إلى أن معظم أفراد مجتمع الميم لا يلجأون إلى القضاء مباشرة بقدر ما يطلبون استشارات قانونية، في حين أنهم لا يواصلون إجراءات التقاضي خوفاً من كشف هوياتهم الجندرية الحقيقية لدى السلطات التونسية وتعريضهم للخطر، علماً أن الفصل 230 من المجلة الجزائية يجرم المثلية الجنسية في تونس .

“حلاوتهم” اسم مستعار لشاب مثلي (22 سنة)، هو أيضاً من منطقة ساحلية في تونس، كان على علاقة مع شاب، إلى أن بدأ الأخير يرسل له صوراً ومقاطع فيديو حميمة، لم يكن يعلم وجودها.

الصدمة التي أصابت “حلاوتهم” كبيرة وكانت أكبر من قدرته على التحمّل، فهو كان يخفي هويته الجندرية الحقيقية عن العائلة والجيران، علماً أنه كان ناشطاً في المجتمع المدني ومنخرطاً في حزب سياسي.

“حتى اليوم أجهل سبب ما فعله بي، كان يرسل عشرات الرسائل فيها العبارة التالية أنا من سأجعلك تتوب عن “الوبنة” أي المثلية… لا أعلم ربما أزعجته المكانة الاجتماعية المرموقة التي وصلت إليها، لا سيما أنني أديت عملاً جباراً أثناء انتشار كورونا في واجهة العمل الإنساني والسياسي في المحافظة التي أعيش فيها.”

لم يكن أمام “حلاوتهم” سوى تهديد المعتدي، فهدده بفضحه وفضح أفعاله، مدّعياً أن عائلته على علم بهويته الجندرية، حتى يكفّ عن ابتزازه.

كثيرون تعرّضوا لتحرّش إلكتروني أو غير إلكترونيّ، وفي غياب القوانين الواضحة والصريحة في هذا المجال والتطبيق الفعلي والصارم لها، وفي ظل هشاشة المجتمعات، يبدو أن السلاح الأقوى يبقى مواجهة المتحرّشين، إلا أنّ ذلك تشوبه أيضاً معوقات اجتماعية، تضع غالباً اللوم على الضحية…