fbpx

مريم و”فتيات مصر”: ضحايا التفلّت الأمني والدولة الغائبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

وكأنّ النقاش في جريمة المعادي التي قُتلت فيها ومريم وسُحلت في أحد الشوارع، يتّجه إلى مكانٍ واحد، وهو محاولة تمييع القضية عبر الغرق في البحث في نوعها، أهي تحرّشٌ أم سرقة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لفت ذلك النظر إلى المضاربات التي تحصل بسبب هذا التصنيف القصدي، ونيات السلطة الراهنة  في سحب يدها من مسؤوليتها عن الانفلات الأمني الكبير الذى يمتدّ إلى كل بقعة، كانت تعدّ آمنة، وإن نسيبياً في مصر.

وبات واضحاً منذ إعلان حادثة مقتل مريم محمد علي أن الإعلام المصري المملوك للدولة يصر على اعتبار مقتلها نتيجة تعرضها للتحرش، مع محاولة سرقة أدت إلى القتل، وهذه “التلفيقة” دليل واضح على استخدام الدولة بأجهزتها الإعلامية جرائم التحرش منفذاً للهروب من مسؤوليتها عن حالة التفلّت الأمني العارم، فجريمة التحرش اعتاد النظام في مصر على اعتبارها مسؤولية المجتمع والعائلات، لا مسؤولية الدولة، وهي طبعاً ليست ذات طابع أمنيّ يستدعي التحرّك، مقارنةً بالسرقة والسحل في وضح النهار  في واحدة من أكثر مناطق القاهرة هدوء وأماناً. وكأن جسد مريم الذي تملأه السحجات كان يحتاج إلى مزيد من السحل والقهر حتى بعد رقوده، لتتملّص الدولة من مسؤوليتها، ملقيةً إياها على المجتمع!

الضحية مريم محمد علي

ما أظهرته كاميرات المراقبة أن الفتاة لم تتعرض للتحرش، بل لاعتداء بهدف سرقة حقيبتها، ومع تشبثها بها سحلها المتهمون على الرصيف، حتى اصطدم رأسها بسيارة ونزفت حتى الموت.

موت مريم بعد جريمة سرقة لا ينفي تعرض النساء في مصر لجرائم تحرش واغتصاب واختطاف مروع، لكن ما يحصل هنا هو محاولة تشويه الحقيقة لتظهر الجريمة بثوب اجتماعي لا أمني، حتى لا حقيقة الدولة وتفلتها الأمني، واللافت أنه في صبيحة مقتل مريم، تعرضت سيدة ثلاثينية في الاسماعيلية للاغتصاب أمام زوجها من 4 رجال مسجلين في قوائم الخطر، وروجت الأجهزة الأمنية ووسائل الاعلام أن هذا الحادث أيضاً حادث اجتماعي مروع، وليس ناتجاً عن إهمال الدولة وتراخيها في ملاحقة متورطين في جرائم عدة منذ سنوات.

توجيه أصابع الاتهام إلى الدولة في المقام الأول وليس إلى المجتمع “المنحل” فقط، هو تصويب دقيق إذا أردنا أن نمضي آمنين في شوارعنا، من دون تبرئة المجتمع من نظرته الدونية إلى المرأة واستضعافها، غالبية جرائم السرقة والسطو في مصر تستهدف نساء وفتيات على اعتبار أنهن غير قادرات على الدفاع عن أنفسهن، وهذا النوع من الاستهداف يسحب من المرأة مساحات أمانها الشخصي في المجال العام، أكثر وأكثر.

تبعات تبرير الدولة المبطن، حوادث السطو،  لا يخلق سوى مناخ أكثر ذعراً للعيش، مناخ يسلم بالمهانة والرضا بالكارثة، وهذه المشاعر لا تعبُر بسلاسة من ممرات الوطنية الحماسية التي تحاول الدولة تأجيجها طوال الوقت، فهذه الوطنية الحماسية  وبسبب هذه الكوارث تبقى وطنية مطفأة لا ترقى إلى مستوى الدعابة.

ما أظهرته كاميرات المراقبة أن الفتاة لم تتعرض للتحرش، بل لاعتداء بهدف سرقة حقيبتها،

ومع تشبثها بها سحلها المتهمون على الرصيف، حتى اصطدم رأسها بسيارة ونزفت حتى الموت.

يبدو إميل سيوران الفيلسوف الفرنسي وكأنه يطل على المشهد المصري في تلفيقاته المتعددة للتهرب من المسؤولية. يقول سيوران في “تاريخ ويوتوبيا “، “بدل أن نحمل أنفسنا المسؤولية، وأن نحاسب أنفسنا، فإننا نحمل الآخرين مسؤولية وضعنا ونتّهمهم بأننا ندفع ثمن عافيتهم، وكم يلذ لنا أن نرى مرضنا ينتشر ويمتد إلى جوارنا، ولو أمكن إلى البشرية جمعاء، وحين تخيب توقعاتنا نحنق على الجميع ونضمر لهم مشاعر فتاكة، متمنين أن تدق ساعة احتضارهم معلنة عن أروع إبادة جماعية لكل الأحياء”.

قتلت مريم وسحلت في أحد شوارع المعادي، فيما تزين الدولة شوارعها بلافتات المرشحين لمجلسي النواب والشيوخ، في حالة استنفار لاقتناص مناصب إدارية تمنح سلطات وحصانة، شوارب محملة بالمال السياسي تتنازع، فيما الأصوات النسائية المشاركة في ماراثون كراسي النواب لا تقل ذكورية عن الذكورة العلنية التي تطفح من اللافتات والشوارع  وتعتبر النساء “ظاهرة” ثانوية في الدولة، نذكر هنا المرشحة وفاء صلاح الدين صاحبة الرمز  الانتخابي “الموز” التى صرحت بأن الزواج أفضل من العمل العام.

سحلت مريم في منطقة المعادي لتلقب بعد رحيلها بـ”فتاة المعادي”، وينضم اللقب الى جوار ألقاب بائسة كثيرة لفتيات أخريات، فتاة العتبة، فتاة المول، فتاة التحرير، فتاة المنصورة، فتاة الإسماعيلية وغيرهن، حتى تبدو خريطة الأماكن في مصر مفتوحة على الألقاب المقترنة بحوادث اغتصاب وتحرش مروعة و لا يستبعد أن تحوز كل مصرية  لقب “فتاة مصر”، اللقب الأكثر  تعاسة لوصف الذات المصادرة بسبب تعرضها للانتهاك الجنسي والاجتماعي يومياً.

جريمة “فتاة المعادي” تعيد إلى الذاكرة شريط جرائم مشابهة كادت تُنسى، كقصّة فتاة المنصورة التي تعرضت لتحرش واعتداء جماعي، وهنا، يبدو تذكر هذه الجرائم صادماً ومحاطاً بالغرابة والأسى كأنها بالكاد حدثت، في مجتمع يحرض النساء على النسيان والعيش في عالم فصامي مكتئب، يُشعرهن بأن إعدامهن وشيك ومستقبلهن  مهدد حتماً.