fbpx

الصناعة العراقية عاجزة عن “الإقلاع”: نسرٌ مكسور الجناحين!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كان مصنعنا مع مصانع عراقية أخرى، يغطي حاجة السوق العراقية من الزجاجيات. كنّا متفوقين بجودة وغزارة ما نُنتِج”… معظم مصانع العراق تحوّلت إلى مستودعات لتخزين البضائع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

على الرصيف المقابل، يقف كميل حنّا وهو يتأمّل المبنى الذي كان يوماً ما مصنعاً للزجاج، والذكريات تتزاحم في خاطره كازدحام صناديق “الكارتون” التي تملأ المصنع بعد أن تحوّل إلى مخزن. المصنع الذي كان يحمل اسم “النسر” أسّستهُ عائلةُ كميل نهايةَ ستينات القرن الماضي، ويعدُّ من أوائل مصانع الزجاج في العراق: “كان مصنعنا مع مصانع عراقية أخرى، يغطي حاجة السوق العراقية من الزجاجيات.  كنّا متفوقين بجودة وغزارة ما نُنتِج”.

بعد 2003، توقف “النسر” عن التحليق، بعد ان اضطرّ حنّا إلى تأجير جزء من مصنعه، الواقع في منطقة الوزيرية الصناعية في العاصمة العراقية بغداد، ليكون مخزناً لبضائع مستوردة، حتى وصل الحال لإغلاقه بالكامل عام 2007 وتأجير ما تبقّى من مبناه الضخم، وتحوّلِ المنطقة التي كانت تحوي أكثر من 200 مصنع ومشغل قبل 2003 إلى مخازن ومعارض تجارية للبضائع المستوردة.

في الجهة المقابلة من “النسر” يقع مبنى أنيق التصميم بثلاثة أبواب كبيرة، تُفضي جميعُها إلى مخازن يتقاسم مساحتها أكثرُ من تاجر مستورد. هذا في الوقت الراهن، أما قبل 20 عاماً، فقد كانت تتدفق منها كميات كبيرة من الفُرش تكفي السوق العراقية بأسرها. كان المبنى اكبرَ مصانع الفُرش في العراق، يُنتجُ أكثرَ من 50 نوعاً، متعدّدة الاحجام والاستخدامات، لكن المصنعَ تراجع بعد 2003 وأغلق تماماً في العام 2006.

التخزين بديلاً من الصناعة

قبل الإحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 كان عدد المصانع في البلاد يصل إلى 178 ألف مصنع وجميعها كان يعمل وينتج. تحولت معظمها شيئاً فشيئا إلى مساحات مهجورة، ثم أصبحت، بفعل الاستيراد المتضاعف، إلى مخازن تضمّ السلع المصنوعة في كل بقاع الأرض، إلّا العراق، وتعجُّ مبانيها بالحمّالين، بعدما كانت تمتلئ بالعاملين المهرة، في مختلف المجالات الصناعية. هذه كانت بمثابة “مجرزة” لتصفية المصانع، وتالياً الصناعة العراقية. 

يصنّف مرتضى الصافي المتحدثُ باسم وزارة الصناعة والمعادن المصانع إلى صنفين: معامل القطاع العام وهي 285 معملاً منها 85 معملاً معطّلاً، و72093 مشروعا صناعياً خاصاً، جميعها متوقف عن العمل. ويقول إن “لدى الوزارة خطة لإعادة تشغيل جميع المعامل المتوقفة في القطاع العام”. وفق بيانات وزارة التخطيط، بلغ عدد المنشآت الصناعية الكبيرة 1161 منشأة في سنة 2018، وفق آخر الإحصاءات، منها 600 منشأة عاملة و591 منشأة متوقفة.

ولا يتعدى عدد المشاريع الصناعية المسجلة في اتحاد الصناعات العراقية، في الوقت الراهن، 54 ألفاً وذلك حسب رئيس الاتحاد علي الساعدي، والذي يكشف في حديثه عن أن “90% من المشاريع المسجلة متوقف، و10 % فقط التي تعمل وتُنتج”. ويتوزّعُ ما تبقّى من المشاريع والمصانع على مناطق متفرقة من العراق، غالباً ما تكون على شكل مجموعات تُشكّلُ مناطق صناعية، وليس القصدُ هنا المدنَ الصناعيةَ المشيّدة من أجل هذه الوظيفة، بل هناك مناطقُ صناعية عشوائية تتجمعُ فيها المصانع والمعامل، وهي كثيرة، تحولت في الغالب إلى مخازن للبضائع المستوردة. أما المدن الصناعية فعددها خمسة فقط، أربع منها في محافظات متفرقة هي بغداد والبصرة وذي قار والانبار والأخيرة على الحدود العراقية الاردنية، لكن جميعها غير مكتمل وأغلبها لا تشهد حياةً صناعية”. مع أن مستشار وزارة الصناعة عمار عبد الله كان قد أكدّ في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية خطةً لإنجاز المدن الصناعية الخمس، موضحاً أن ثلاثاً منها وصلت لمراحل متقدمة.

“مؤامرة خارجية”؟

يتهم وزير الصناعة الأسبق محمد الدارجي “أطرافاً خارجية” لم يسمّها بالوقوف وراء هذه “المجزرة”، وبوجود “مخطط لتحطيم الصناعة العراقية”. ولا يبرّئ الدارجي “القوى السياسية النافذة في العراق” من فرض أجندات على “أي وزير يكلف بإدارة وزارة الصناعة” تتضمن “إيقاف المصانع والمعامل المحلية والإعتماد على الاستيراد”. أما عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي ندى شاكر جودت، فتعيد اسباب “المجزرة” إلى “اللاتخطيط”، إذ ان عمل اللجنة يقتصر في الوقت الحالي على الرقابة: “نراقب بعض المشاريع والعقود ونتحرى زوايا الشبهة فيها”. ولو انها كما الدارجي، تُعيد سبب التراجع الكبير في الصناعة العراقية لصالح الاستيراد إلى “شخصيات عراقية سياسية وغير سياسية تقف في طريق تطوير الصناعة من أجل مصالحهم الشخصية والسياسية”. ودليلها أن “بعضَ هذه الشخصيات تمتلك مصانع خارج العراق وتتعامل مع العراق كسوقٍ استهلاكية”.

يعزو أُستاذ الاقتصاد الصناعي في الجامعة المستنصرية فلاح الربيعي الانفتاحَ الكبيرَ على الاستيراد إلى ” التحوّل في فلسفة النظام السياسي بعد 2003 وانسحاب الدولة من النشاط الانتاجي”. ويُضيف: “جاءت كلّ القوانين التي تبنتها حكومة الاحتلال وسارت على هديها الحكومات المتعاقبة منذ 2004 حتى اليوم، في مصلحة المستورد وألحقت أضراراً فادحة في الصناعة الوطنية”.

وقد بلغ اجمالي الواردات في العام 2018 بحسب بيانات وزارة التخطيط العراقية، 37 مليار دولار، بعجز تجاريّ للسلع غير النفطية وصل إلى 33.1 مليار دولار.

ويُرجّحُ متخصصون أن تصل قيمة الواردات في العراق إلى نحو 55 مليار دولار في السنتين الأخيرتين بإيرادات جمركية لا تتجاوز 1,5 مليار دولار، أي نحو 3% من قيمة البضائع المستوردة، بينما من المفترض أن تصل إيرادات الجمارك إلى معدل 20%، بحسب المعمول به في أغلب دول المنطقة. وتتصدر الصين الدولَ المصدّرة للعراق، بحسب بيانات رسمية، وتليها إيران ثم تركيا والولايات المتحدة. ولا يزال الاقتصاد العراقي يُصنّفُ في خانة الاقتصادات الريعية ولا تشكّل مساهمة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الاجمالي سوى 1,5% أو أقل، في ظل اتجاه الحصة الأكبر من التخصيصات الاستثمارية في الموازنات السنوية للدولة نحو قطاع النفط، بنسبة 34,6% من اجمالي التخصيصات الاستثمارية في الموازنات السنوية للدولة كمتوسط للمدة 2006 ــ 2019، مقابل تخصيصات استثمارية لقطاع الصناعة التحويلية كانت في حدود 1,1%.

لا حمايةَ ولا خدمات

يشكو القليلُ المتبقي من الصناعيين العراقيين في المناطق الصناعية الإهمالَ وعدمَ توفيرِ أبسطِ مستلزمات العمل الصناعي. يقول صاحبُ أحدى مصانع منطقة عويريج الصناعية جنوبي بغداد: “يطلبُ سائقو سيارات الحمل أجرةً مضاعفة من أجل دخول المنطقة، ذلك لأنّ شوارعها غير معبدة”. رئيسُ اتحاد الصناعات العراقية علي الساعدي يعزز هذه الشكوى: “الخدمات تكاد تكون معدومة في المناطق الصناعية، ومع ذلك تُفرضُ على المشاريع الصناعية رسوم وضرائب مرتفعة “. 

ويتعرضُ بعضُ أصحاب المصانع لابتزاز من قبل قوات أمن أو مليشيات من أجل “تركهم بحالهم” على حد تعبير احد أصحاب المصانع: “من أجل تمرير بضاعة إلى خارج المنطقة، يجب أن ندفع، ومن أجل إدخال موادّ أولية يجب أن ندفع أيضاً ومن أجل لا شيء يجب أن ندفع، حتى أننا ندفع من أجل مدّ أنبوب مياه”.

على مدى سنوات خلت، أطلقت الحكومات العراقية المتعاقبة مبادرات عدّة لإنعاش القطاع الصناعي لكنها لم تكن جديةً كالمبادرة الصناعية التي وصلت إلى حائط مسدود، وكذلك مبادرة دعم المشاريع الشبابية في البنك المركزي، وتلك التي قدمتها لجنة الاقتصاد والاستثمار في البرلمان العراقي. كلها بقيت عاجزة عن تمكين نسر الصناعة العراقي من الإقلاع مجدداً. 

أنجز التقرير بدعم وأشراف من مؤسسة نيريج للتحقيقات الاستقصائية