fbpx

العمى التاريخي وإدمان الصراع: قضية آيا صوفيا نموذجاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تاريخ آيا صوفيا الضارب في القِدم، كما تاريخ المدينة التي تقع في قلبها، والامبراطوريات التي ارتكزت هنا، يستحيل اختزاله إلى ما يود الإسلام السياسي أن يراه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نحن في ما يُعتقد أنه العام 1453 ميلادية (857 هجرية). هذا هو الانطباع الذي ستخرج به إن نظرت بعيون محازبي رجب طيب أردوغان إلى “إعادة” آيا صوفيا مسجداً قبل ثلاثة أشهر، ثم بعدها “إعادة” مسجد كورا، الذي كان في الأصل كنيسة بيزنطية في اسطنبول أيضاً، مسجداً قبل نحو شهر. الافتراض هنا أن “النصر المبين” (على من تحديداً؟) تجديدٌ لأمجاد في عالم، كان ولا يزال، كتلاً صماء متقابلة، أو أقطاباً متنافرة، أو غير ذلك مما شئت من الأضداد (مثلاً لا حصراً: المسيحي الصليبي –مقابل الإسلامي، والتركي-العثماني الحنفي المسلم مقابل المسيحي الكافر ).  عدا أن الرؤية بالأبيض والأسود نوع من العمى، من هذا المنظور لا مكان لتاريخ “الآخر” أو مستقبله إلا عدواً مهزوماً، الآن أو لاحقاً، أو فنائنا “نحن” لأن هذا ما يعنيه انتصار “العدو” الذي يأبى جوهره، كما جوهرنا، إلا أن يكون عدواً خالصاً.  لا مكان هنا للتفكير في الجراح التي قد نعيد الفتح وننكأ، أو العداوات التي قد نخلق، ربما دون سبب منطقي، أو بخسارة قد تفوق أي مردود . تتسق “إعادة فتح القسطنطينية” مع تهديد اليونان ضمناً بالزوال (هكذا حرفياً على لسان اردوغان) و مع تغريدات أتباعه المخلصين عن صراع أرمينيا وأذربيجان  (الشيعية الاثنا-عشرية التي كانت جزءاً من الدول المتعاقبة التي حكمت إيران بدءاً من الصفويين، لكن التركية عرقاً ولغةً) الذي عاود الاشتعال مؤخراً أن ما يجري هو إتمام لما بدئه ولم ينهه العثمانيون عام 1915، في إشارة لمذابح الأرمن التي، رسمياً، أنكرت الحكومات التركية المتعاقبة أي مسؤولية عنها. عدا اللغة التي تتأرجح بين الشعبوية في أكثر صورها فجاجةً والمراهقة السياسية المزمنة، التبسيط والجوهرة هنا يقترنان بوعي “صراعي” خالص، إن جاز التعبير، فلا علاقة مع “الآخر” سوى الصراع والاختلاف، آجلاً أو مؤجلاً، لا تعايش، لا تلاقح فكري، لا استمرارية، لا تشابه، وطبعاً لا انقسام ولا اضطراب داخل هذه “الكليات الخالصة” المزعومة، المتضادة المتواجهة. لكن تاريخ آيا صوفيا الضارب في القِدم، كما تاريخ المدينة التي تقع في قلبها، والامبراطوريات التي ارتكزت هنا، يستحيل اختزاله إلى ما يود الإسلام السياسي أن يراه. قليل من القراءة والبحث يرينا ذلك بوضوح.

هاجيا صوفيا وبيزنطة: نشأة وميلادان.

عبر خمسة عشر قرناً إلا قليلاً حمل مبنى هاجيا صوفيا (آيا صوفيا بالتركية) قدراً من الرمزية  قل نظيره. كثافة الدلالات تسبق الصرح الحالي، إذ أن “سَلَفّيه”، المبنيين اللذين شغلا مكانه قبله، كان كلٌ منهما كنيسةً حملت الاسم نفسه: هاجيا صوفيا (الحكمة المقدسة، باليونانية، في إشارةٍ للمسيح)، افتتحت الأولى منهما عام ثلاثمائة وستين للميلاد.  تاريخ هاجيا صوفيا والقسطنطينية و المسيحية الأرثوذكسية-اليونانية واحدٌ منذ البدء. قبل القسطنطينية، عاشت “بيزنطة”، مدينة يونانية صغيرة تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، عشرة قرون، حتى قرر الامبراطور الروماني قسطنطين أن يجعلها عاصمة ملكه عام 330 م، ناقلاً مقر سلطته إلى ما كان آنذاك العالم اليوناني، الذي ساد شرق المتوسط لغةً وثقافةً.  بيزنطة توسطت قلب هذا العالم عند بحر مرمرة (كلمة أصلها يوناني، تعني الرخام، في إشارةٍ إلى لمعان البحر). و كان قسطنطين قد تخلى عن الوثنية  عام 312 م  ليصبح أول امبراطور روماني مسيحي فتتحول عقيدته الجديدة بين يومٍ وليلة من ديانة أقليةٍ مضطهدة إلى الجلوس على العرش. أما بيزنطة، فقد شرع قسطنطين في إعادة بنائها لتصبح أربعة أمثال مساحتها الأصلية. يدُ الله، تقول روايات، أرشدت يد الامبراطور (الذي طُوب قديساً لاحقاً) في رسم عاصمته المسيحية الجديدة التي عُرفت باسمه: القسطنطينية (وإن لم يغب تماماً اسم بيزنطة، واسمها الآخر: “روما الجديدة”). “قسطنطين الكبير” بدء بناء “هاجيا صوفيا” الأولى، لكن ابنه وخليفته قسطنطينوس  (حكم 337 إلى 361 ميلادية) كان هو من أتم بنائها.

      خلافات رجال الدين المسيحيين دفعت الامبراطور المسيحي الأول إلى الدعوة لـ “مجمع نيقية” عام 325 في المدينة اليونانية (آنذاك) التي حملت الاسم نفسه (إزنيك التركية اليوم). في نيقية، غلبت الأصوات التي رفضت “الهرطقة الأريوسية”،  نسبة لآريوس القسيس الذي عاش في الإسكندرية والذي أنكر ألوهية السيد المسيح، ومن ثم التثليث الذي يوُحّد “الأقانيم الثلاثة” (الأب والابن والروح القدس). أقر المجمع ما يعرف إلى اليوم ب”عقيدة نيقية”  أو “قانون الإيمان” الذي أكد الثالوث المقدس الذي تقوم عليه المسيحية التي نعرف اليوم (التي تخالف ما دعا إليه آريوس). لكن عقيدة آريوس عاشت بعده ومال ناحيتها ابن قسطنطين و خليفته قسطنطينوس، الذي كان الصراع المسيحي-المسيحي مما ازاحه عن العرش و صعّد مكانه عمه “جوليان” الشهير بـ” الكافر” (حكم 361-363)  الذي أعاد الآلهة الرومانية وهدم الكنائس و توعد بهدم هاجيا صوفيا بالذات بعد عودته من حملة على الفرس، لكنه   قُتل في ساحة المعركة، لتبدأ سلسلةٌ طويلة من الأساطير عن الكنيسة.  في عهد ثيودسيوس الأكبر (379-395)  أعيد تثبيت ما قرره مجمع نيقية وأصبحت المسيحية ديانة الإمبراطورية الرسمية وحُرّمت عبادة الأوثان، واحتفظت هاجيا صوفيا الأولى بأهميتها. لكن وفي خضم اضطرابات شهدتها المدينة احترق مبنى الكنيسة بالكامل عام 404، ليعاد بنائها وتُفتَتَح مجدداً سنة 415 ميلادية.

 مرة أخرى، بعد ذلك بقرنٍ وعقدين تقريباً، في يناير 532  احترق مبنى الكنيسة  وسقفها الخشبي في أعمال شغبٍ كادت تطيحُ بأعظم أباطرة الإمبراطورية البيزنطية (نسبةً إلى بيزنطة، المدينة اليونانية التي أصبحت القسطنطينية، كما نسبت الإمبراطورية الرومانية لروما): جستنيان (حكم 527-565). كانت الإمبراطورية الرومانية قبل ذلك بقرنين تقريباً، وتحت وطأة حماية مساحتها الشاسعة، قد انقسمت إلى امبراطوريتين، غربية-لاتينية عاصمتها روما، اسقطها البرابرة عام 476 م ، و شرقية -يونانية عاصمتها القسطنطينية . لكن جستنيان استعاد السيطرة على معظم أراضي الإمبراطورية التي فُقدت في الغرب، إضافةً إلى سيطرته الكاملة على شرق المتوسط. عدا نجاحاته العسكرية والسياسية، لعب الرجلُ دوراً أساسياً في تاريخ المسيحية. مثلاً لا حصراً، كان هو من ثبت تواريخ أعياد وطقوسٍ عديدة في التقويم المسيحي، وضغط لحسم الخلافات العقيدية التي واصلت الظهور.

الميلاد الثالث: المعجزة المعمارية الباقية.

بكُلفةٍ بلغت ثلاثين ألف قتيل، أخمد جستنيان أعمال الشغب. في 23 فبراير 532 ميلادية، فقط بعد 39 يوماً من حرق المبنى الأصلي ، شرع الامبراطور في إعادة بناء هاجيا صوفيا، لكن في سرعةٍ وبذخٍ  أسطوريين . الصرح الهائل الباقي إلى اليوم تم في زمنٍ قياسي:  أقل من ست سنوات، إذ افتتحت الكنيسة في 27 ديسمبر 537 ميلادية. يقال أن الامبراطور أنفق على البناء ثلاثمائة وعشرين ألف رطلاً من الذهب، (مائة وخمسة وأربعون طناً تقريباً)، أي حوالي تسعة مليارات دولار أمريكي بأسعار الذهب اليوم. يُروى أن عشرة آلاف عامل شاركوا في البناء، قُسموا إلى مجموعتين متنافستين في سرعة الإنجاز (تبدو هذه الأرقام مبالغٌ فيها، لكن ضخامة البناء، روعته، وسرعة تمامه لا شك فيهم). استخدم الامبراطور اثنين من أشهر علماء العصر من اليونان واللذين اشتهرا بمهاراتهما في علوم الرياضة والفيزياء قبل أن يُعرفا كمعماريين: “أنثيميوس” و “ايزيدوروس”، (كلاهما كان من غرب آسيا الصغرى، تحديداً من مدينتي  “تراليس”  ( أيدين التركية المعاصرة ) و”ميليتوس” القريبة منها).

آيا صوفيا

  مبنى هاجيا صوفيا كان الأول في تاريخ العمارة الذي يجمع كل إمكانيات القوس والقبة والقناطر الاسطوانية، كما كان الأول في المسيحية بهذا الحجم الهائل، و بصيغة مركزها القبة لا “البازيليكا” (الممر المستطيل الذي تحيط به الأعمدة ). المبنى مستطيلٌ يكاد يكون مربعاً (الأبعاد متقاربة)، تتوسطه قبةٌ كبرى. البهو الرئيسي أبعاده سبعة  وستون  متراً  في ستةٍ وسبعين ، الأقواس الأربعة الحاملة لقبة الكنيسة ، والتي بقيت (أي القبة)  الأعلى في العالم لعشرة قرون  ( تحديداً حتى بناء كنيسة القديس بطرس في روما في القرن السادس عشر)،  تحملها أربعة أقواس ترتفع عشرون متراً ، أما القبة نفسها فارتفاعها يتخطى خمسةً وخمسين متراً. القبةَ مُحملةٌ جزئياً على “حنَيّاتٍ رُكبية” تبدوا كأنها أربع مثلثات من قبةٍ غير مكتملة تشغل المساحة بين الأقواس الأربعة الكبرى، فتبدو القبةُ الكبرى كأنها فوق قبةٍ أوسع غير تامة. و إلى الشرق والغرب منها (أي  القبة الرئيسية) نصفا قبة، محاطتان بدورهما بثلاث أنصاف قباب. الجداران الشمالي والجنوبي بهما طابقان من القناطر الاسطوانية vaults)  (barrel .  أيضاً إلى الشمال والجنوب أربعة جدران شاهقة ، عمودية على المبنى، يدعمُ كلُ واحدُ منهما واحداً من الأعمدة الأربعة ووزن القبة الكبرى الهائل فوقها. للقبة، التي يزيد قُطرها على ثلاثين متراً، أربعون نافذة تجاور أضلاعها الصاعدة لمركزها، أنصاف القباب تتخللهم هم أيضاً عشرات النوافذ التي تغمر جميعاً داخل المبنى بالضوء. من ثم الوصف الذي كرره من زاروا الكنيسة عبر تاريخها: القبة الكبرى تبدو طافيةً كأنما تتدلى من السماء، صانعةً سماءً تحت السماء.

ليتم مبناه، أنفق الامبراطور جستنيان بسخاء على جمع أفضل أنواع الرخام من ملكه الشاسع لتكسية جدران المبنى وأرضياته. قُطع كثيرٌ من الألواح من نفس الصخور ليكون لهم نفس “النقش” الطبيعي.  وفرة الرخام المصقول، عدا الإضافة الجمالية الواضحة، تضافرت مع القباب وارتفاع المبنى الهائل لتوفر بيئةً صوتية مثالية للإنشاد الذي تشتهر به الأرثوذكسية اليونانية . ذلك كله في فضاءٍ مغلق، تم في القرن السادس الميلادي وفي أقل من ست سنوات، من ثَم قول  جستينيان المشهور عند الافتتاح “المجدُ لله الذي رفع من قدري لأتم عملاً كهذا. فقتك [مجداً]  يا سليمان (الملك العِبري ، النبي في القرآن) “.

زلزالان في 553  و 558 م أحدثاً دماراً كبيراً بالكنيسة، بما في ذلك سقوط جزء من القبة الرئيسية. كان مصمما المبنى قد توفيا، من قام بالإصلاحات كان سَمى أحد المؤسسين: الذي يقال أنه كان من أقربائه؛ “إيزيدوروس الأصغر ” جعل، ضمن تعديلاتٍ أخرى، القبة الكبرى أكثر انحداراً و رمم الأعمدة الرئيسية وزاد من عرض الأقواس (التي تستندُ لها القبة الكبرى). أعيد افتتاح الكنيسة عام 563 م علماً أن ثلاثة وعشرين زلزالاً رجْوا الكنيسة بين بداية القرن السابع الميلادي ومنتصف الخامس عشر لكن مبناها صامدٌ إلى اليوم.

“الكنيسة العظمى”: تجسيد القداسة.

لكن ثراء “الكنيسة العظمى” كما عُرفت لاحقاً، لم يتوقف عند المبنى وما غطاه من رخام. عبر العصور أضيفت الكثير من نقوش الفُسيفساء إلى القباب وإلى جدران الكنيسة، تمثل بعضاً من أهم صور هذا الفن الذي تفوق فيه اليونانيون. مثلاً لا حصراً، إن نظر الداخل للكنيسة أعلاه، للقبة الكبرى، تلك “السماء تحت السماء”،  كان سيرى، متربعاً عليها، صورة “المسيح الملك” 

( Christ Pantocrator)، وإن نظر شرقاً، تجاه المذبح، وجد صورة السيدة مريم العذراء مع المسيح الطفل و صورٍ اخرى لمشاهدَ مسيحيةٍ مختلفة و رسوماتٍ لقسطنطين الكبير ولجستنيان وغيره من أباطرة المدينة جنباً إلى جنب مع قديسين و العذراء والسيد المسيح. الكنيسة اشتهرت أيضاً بحائط الأيقونات (iconostasis) عند المذبح (قلب الكنيسة حيث يقام طقس التناول) الذي ازدحم، كما ينم اسمه، بما قل نظيره من الأيقونات، (“أيقونة” تعني باليونانية “صورة”، ولكنها واتساقاً مع العقيدة الارثوذكسية، غير مُجَسمة، من ثمَ غياب التماثيل). أما أدوات الطقوس المختلفة فكانت من الذهب والفضة، آلاف الأرطال منهما في المحراب فقط، عدا ما زانها من أحجارٍ كريمة. وما لم يكن مصنوعاً من الفضة، كثيرٌ منه كان مُكفّتاً بها (كالأبواب التي يُروى أنها كلها كانت مغطاة  بها). مع الضوء من مئات النوافذ، أنارت شمعدانات وثريات، من الفضة أيضاً، المبنى في عهده الذهبي. يقال أن مزارع بعدد أيام السنة أوقفت للإنفاق على الكنيسة. أما تعداد القائمين عليها في أوج مجدها، فيروي أشهر مؤرخي المسيحية المعاصرين، ديارميد ماكولك، أنه في العام 612 قرر البطريرك “تخفيض” عدد العاملين بالكنيسة من قساوسةٍ و كهنةٍ ومنشدين وخدام إلى أقل قليلاً من خمسمائة.  لذلك كله، طبقاً لمؤرخٍ  يوناني من القرن الثاني عشر الميلادي الكنيسة هي “خيمة السماء وإن رفعها البشر على وجه الأرض”، أما قبتها  الهائلة فكانت “تلمع في وهج الشمس  حتى يتخيل الرائي أن الذهب يتدفق منها.”

عدا البناء الهائل ورخامه الفاخر وما عليه وبه من فسيفساء وأيقونات، غصت هاجيا صوفيا بالذخائر المقدسة (أو المعتقدُ في قداستها). أحد الأبواب، تقول الأسطورة، كان جزءاً من طودِ نوح، هنا أيضاً كان بوقٌ قيل أنه هو الذي هدم به يوشع أسوار أريحا (كما يروي العهد القديم). لكن أثمن ما حوته الكنيسة أتى سنة ستمائة وأربعة عشر ميلادية، حينما اجتاحت جيوش الملك الفارسي خسرو الثاني كل أملاك بيزنطة إلى الجنوب والشرق منها (هزيمة “الروم” التي رواها القرآن وتنبأ بانقلابها نصراً لاحقاً). خوفاً عليه، أُحضر من فلسطين ما يعتقد أنه الصليب المقدس الذي رُفع عليه السيد المسيح. أتى إلى هاجيا صوفيا مجزئاً إلى خمسة عشر قطعة، بقي أربعة منها بعد ذلك في القسطنطينية بعد طرد الفرس من فلسطين، وضعوا في خزانة في آيا صوفيا. علماً أن قَسَماً ألزم الامبراطور (هرقليوس الذي حكم 610-641) نفسه به أمام البطريرك الأكبر في هاجيا صوفيا، كان هو ما أبقاه في القسطنطينية، التي، في وجه الزحف الفارسي، فكر في هجرها والفرار غرباً من الجيوش الفارسية التي بلغت أسوار المدينة وحاصرتها عام 626 لكن فشلت في الاستيلاء عليها.

مبنى هاجيا صوفيا كان الأول في تاريخ العمارة الذي يجمع كل إمكانيات القوس والقبة والقناطر الاسطوانية، كما كان الأول في المسيحية بهذا الحجم الهائل.

و مع النفائس المقدسة، والارتباط الوثيق بتاريخ المسيحية، كانت هاجيا صوفيا مشهد المعجزات. مثلاً لا حصراً، خلال عملية البناء تسائلوا عن عدد النوافذ في أنصاف القباب فظهر من قيل أنه الرب نفسه، متجسداً في هيئة الامبراطور، و أجابهم: “في كل نصف قبة ثلاثة أنوار من ثلاثة نوافذ ، للأب والابن والروح القدس” ( قيل لاحقاً أن الإمبراطور لم يغادر قصره ذاك اليوم). أما ألواح الرخام، فمن أساطير المبنى، أن نقش لوح الرخام “الطبيعي” هذا، مثلاً، إن دققت النظر فيه سترى العذراء وذاك ستعرف فيه يوحنا المعمدان (النبي يحيى ابن زكريا عند المسلمين). العذراء شوهدت هنا، وقبر لميتٍ سبق السيد المسيح بألفي عام أقر الإيمان به (أي المسيح) في لوحٍ من ذهب على جثمانه وُجد هنا أيضاً، وملاكٌ قيل أنه يسكن الكنيسة. في المبنى مائة وأربعة  عمود من الحجر، كل ٌمنها قطعةٌ واحدة، ويظهر أنهم جميعاً قُطعوا أيضاً من صخرةٍ واحدة، تقول أحد الأساطير أن أرملةً ثرية تبرعت بهم دفعةً واحدة، بنفس الطول والحجم. بعض هذه الأعمدة مختومٌ بصلبان حفرت فيه، ومنها ما غُطي بالفضة.  لكن الأعمدة لا تُعرف فقط بجمالها، فأحدها “يتعرق” ماءاً يعالج مختلف الأمراض، يقال أنه شفي باني الكنيسة ، الامبراطور جستنيان ، من  داءٍ عُضال، أعمدةُ أخرى كل منها له خصائص “دوائية” لهذا المرض أو ذاك. أما البئر داخل الكنيسة، فكان تكرار شرب مائه ثلاثة أيام سبت متوالية يشفي من أمراض القلب (هذا الاعتقاد وممارسته استمر بعد أن أصبحت الكنيسة مسجداً ولم يتوقف إلا بعد تحويلها متحفاً في ثلاثينيات القرن الماضي). علماً أن مدرسةً ملحقةً بالكنيسة، أسسها أباطرة بيزنطة لتأهيل الإرساليات التبشيرية التي أرسلوها إلى المجتمعات السلافية في وسط وشرق أوروبا لعب طلابها دوراً أساس في نشر قصصٍ كثيرة عن آيا صوفيا وكنوزها ومعجزاتها.  

لن تجد مرجعاً عن تاريخ المسيحية عموماً وتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وتوابعها خصوصاً، ولا عن تاريخ الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) إلا و يذكر هاجيا صوفيا. “الكنيسة العظمى”، كما عُرفت (وكما سماها ابن بطوطة رحالة العرب الأشهر عند زيارته المدينة في القرن الرابع عشر الميلادي)،  كانت مكان كل الاحتفالات الرئيسية في المدينة ، خاصة المتعلق منها بالامبراطور، لكن دورها الأهم أنها كانت مقر بطرك القسطنطينية، ولأن القسطنطينية كانت “روما الجديدة” كان لبطرك كنيستها مقامٌ لا يعلوه إلا بابا روما (حتى انفصلت الكنيستان كما سيرد ذكره). و بينما استمدت روما وكنيستها جزءاً كبيراً من قداستها من كونها مرقد القديس بطرس، رفيق المسيح وأحد حوارييه الاثنا عشر “والصخرة التي بنى عليها كنيسته” (حسب القول الشائع المنسوب له)، ادعت القسطنطينية شرعيةً، لو قُبلت، لبزت روما: أول من دعا للمسيحية هنا، و أول من أسس كنيسة، تقولُ رواية، كان أول من دعاه المسيح لاتباعه: الحواري- القديس أندرو (أندراوس)، أخو بطرس (ما قد يكونُ مقبولاً هو أن عظام هذا القديس المؤسس دُفنت في القسطنطينية بعد أن أحضرها إليها مؤسس المدينة القديس قسطنطين، وتحديداً إلى كنيسة الرسل، التي كانت أيضاً مدفن الأباطرة البيزنطيين).

مكان الانشقاق الكبير والضحية الأبرز.

عام 1054 كانت هاجيا صوفيا مسرحاً لمشهد درامي مثل نقطةً أساس في تاريخ المسيحية. في هذه السنة وبعد خلافٍ ارتبط بمكانة المسيح في الثالوث المقدس والطقوس الكنسية المرتبطة بذلك (تحديداً طقس التناول المحوري) وبطبيعة سلطة بابا روما على كنيسة القسطنطينية وما يتبعها من كنائس، أرسل البابا ليو التاسع أحد قساوسته للتفاوض مع البطريرك، الذي كان نظرياً أقل رتبةً من البابا. سلوك “الكاردينال همبرت”، المبعوث الباباوي، كان نقيضاً للدبلوماسية، بدءاً من تقريع البطريرك لخلافه مع روما، انتهاءً بدخوله هاجيا صوفيا في وقتٍ كان البطريرك يؤم فيه طقوساً كنسية  ووضعه قراراً من البابا بحرمانه (أي البطريرك، من طقوس الكنيسة، أي طرده من الكنيسة) أمامه  على مائدة المذبح،  ثم خروجه هو ومن معه وسط لعنات الحضور (عليهم، أي مبعوثي البابا) بعد أن تظاهروا بنفض أقدامهم من غبار هاجيا صوفيا، كأنما يتطهرون من العقيدة اليونانية الضالة مما دفع بطرك القسطنطينية للرد بالمثل فأعلن حرمان بابا روما، ضارباً عرض الحائط بسلطة “الحبر الأعظم”. عُرفت تلك الواقعة، التي كانت هاجيا صوفيا مسرحها، لاحقاً بـ”الانشقاق الكبير”  (The Great Schism) و التي بعدها انفصلت كنيسة القسطنطينية بشكل نهائي عن روما، فانفتح الباب لصراعات ومرارات باقية إلى اليوم.

 “الانشقاق العظيم” أشار إلى المستقبل المظلم. ما بين انشائها عام 330 م ومطلع القرن الثالث عشر، حوصرت القسطنطينية ثلاثة عشر مرة ، من قوىٍ مختلفة، بما في ذلك المسلمون العرب (الأمويون تحديداً) أربع مرات. لكن حين سقطت لم تقع في يد “الكفار”، بل تحت سطوة الصليبين الكاثوليك. كما هو معروف، التمدد المستمر للأتراك السلاجقة في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، خاصة بعد هزيمة البيزنطيين الساحقة وأسر امبراطورهم في  ملاذكرد (1071 م، المعركة التي مهدت لانتزاع آسيا الصغرى من يد اليونانيين و التي بدأ اردوغان تقليداً لإحياء ذكراها مؤخراً)،  دفع الإمبراطورية لطلب العون من بابا روما أوربان الثاني (جلس على العرش البابوي 1088-1099)، فولد ما عرف لاحقاً بالحملات الصليبية. لكن الخلافات بين “الحجاج” الآتين من الغرب، والبيزنطيين بدأت سريعاً، إذ تنَكر “الفرنجة”، كما سُمو عربياً،  لعهدهم للامبراطور بأن “يردوا” كل ما ينجحوا في الاستيلاء عليه من أراضٍ (أي يعيدوه  للامبراطورية كما كان قبل الفتوحات الإسلامية قبل ستة قرون)، وأسسوا إماراتهم وممالكهم هم. وصل الأمر أحياناً إلى حافة الصدام العسكري، لكن الطامة الكبرى أتت عام 1204 ميلادية.

         بعد فشل الحملة الصليبية الثالثة ( 1189-  1192  م )  في استعادة القدس التي انتزعها منهم صلاح الدين الأيوبي ، دعا البابا انوسنت الثالث (شغل الكرسي البابوي 1198 – 1216) للحملة الصليبية الرابعة  التي كان هدفها مركز ثقل الأيوبيين: مصر. لم يستجب ملوك أوروبا الكبار لدعوة البابا، فانتهت رهينةَ من مولها: جمهورية (مدينة) البندقية. وتحت ضغط الوفاء بالنفقات بدأت الحملة التي تستهدف “الكفار” من المسلمين بالهجوم على مدينة زادار (كرواتيا الحالية) الكاثوليكية والتي كانت تحت حكم ملك المجر (الكاثوليكي والمشارك في حملات صليبية قبل ذلك). ثم بعد ذلك، بحثاً عن مزيد من المال، وتحت ضغط من “دوج” (حاكم) البندقية، انتهت الحملة طرفاً في الصراع على العرش البيزنطي، إذ تحالف قادتها مع أحد أفراد البيت البيزنطي المالك، أليكسيوس انجيلوس، لإعادة تنصيب أبيه، اسحق انجيلوس الثاني، امبراطوراً مقابل دعم مالي سخي. 

احتجاجات بعد قرار تحويل آيا صوفيا مسجداً.

حاصروا القسطنطينية في أغسطس 1203 ونجحوا في جعل حليفهم شريكاً في العرش. لكن في بداية العام التالي أطيح بأليكسوس أنجيلوس ثم قتُل، و معه طبعاً ذهب الدعم السخي الموعود. فما كان من الصليبيين إلا أن استباحوا المدينة التي كانت الأغنى في العالم، حدث ذلك في أبريل 1204.         “الحجاج” (اسم اتى من هدف الحملات الصليبية: “الحج” للأراضي المقدسة) لم يتوقفوا عند نهب الغالي والثمين من الناس والبيوت. مائدة مذبح هاجيا صوفيا المصبوبة من الفضة، وما عليها من ذهبٍ وجواهر، كُسّرت ووزعت بين الغزاة. كل ما يمكن حمله من نفائس داخل الكنيسة العظمى سُرق. 

حسب شاهد عيان بيزنطي، أدخل الصليبيون البغال والخيل إلى الكنيسة ليحملوها غنائمهم، ما انزلق منها على الرخام المصقول بعد أن ناء بحمله المنهوب، تركوا جثته لتدنس الكنيسة. ثم سرقوا من هاجيا صوفيا وغيرها كل ما استطاعوا الوصول إليه من ذخائر مقدسة (مُوقرةٌ إلى اليوم عند الأرثوذكس والكاثوليك على حدٍ سواء). مما نهبوه ما كان يعتقد أنه قطراتٍ من دم السيد، قطعا من الصليب (التي ذكرنا)، عظام عدد من القديسين ، بما في ذلك أول الحواريين القديس أندرو (أندراوس) و غير ذلك مما شابهه كثير (مثلاً لا حصراً:  قطعة من الصخرة التي وقف عليها يوحنا المعمدان عند تعميده المسيح، وقطعة من مائدة العشاء الأخير). ثم نصّب المسيحيون الغربيون قساوسةً كاثوليك لهاجيا صوفيا، ثم “امبراطواراً” منهم للقسطنطينية. متنبأً بمستقبلٍ بات مكشوفاً، أرسل البابا خطاباً لأحد كرادلته الذي كان بالحملة:

“كيف [بعد ما جرى] يمكن استعادة ولاء الكنيسة اليونانية … للكرسي الرسولي [للبابا في روما]؟ كيف لهذا أن يحدث بعد أن تعرضت [أي الكنيسة اليونانية] لكل هذا الأذى إلى الحد الذي لن ترى فيه في اللاتين [أي الكاثوليك الآتين من غرب أوروبا] إلا تجسيداً … لكل شر؟ كيف لهذه الوحدة أن تعود وقد أصبحت  (أي كنيسة القسطنطينية)  تحتقر اللاتين  أكثر مما تحتقر الكلاب؟ “

لم تعد وحدة الكنيستين أبداً، بل بقيت العداوة والمرارة إلى اليوم (اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عام 2004 للكنيسة الأرثوذكسية عن أحداث 1204 ).  

الإمبراطورية البيزنطية بعد الصليبيين: في انتظار الموت.

الأسر الحاكمة التي كانت تتنازع على العرش البيزنطي قبل غزو اللاتين فرّ أعضاؤها إلى أجزاء مختلفة مما بقي من الإمبراطورية مؤسسين ممالك أصغر، الأهم من هؤلاء كانت “امبراطورية نيقية” (نسبة للمدينة اليونانية التي حملت الاسم نفسه،”ازنيك” التركية اليوم)، والتي نجح حاكمها مايكل بالياولوجوس الثامن ، عام 1261 ، في طرد اللاتين من القسطنطينية، وأسس الأسرة التي حكمت حتى سقوط المدينة عام 1453. شهدت القسطنطينية، وما بقي من الإمبراطورية، بعض النهوض تحت الحكم الجديد. عادت الأرثوذكسية اليونانية لهاجيا صوفيا، وبذل الحكام العائدون كل ما استطاعوا لترميمها واستعادة رونقها. عُوضاً عما نُهب، جُمعت في الكنيسة العظمى كنوزُ أخرى ترتبط بالعذراء والسيد المسيح ، منها مثلاً رأس الرمح الذي يقال أن جندياً رومانياً غرسه في جسد السيد المسيح بعد صلبه ليتأكدَ من موته، أحد أثواب المسيح، الاسفنجة التي يقال أنه شرب منها وهو على الصليب، صندوق به لآلئ يقال أنها الدموع التي ذرفتها صورة العذراء في  احدى الأيقونات عند نهب اللاتين (الصليبيين) الكاثوليك للمدينة. لكن لا هاجيا صوفيا، ولا القسطنطينية ولا الإمبراطورية تعافوا أبداً من هذه الضربة القاصمة ولا استعادوا سابق عهدهم.

 التهديد الأكبر الذي واجهه أباطرة القسطنطينية في العقود التالية مباشرة لاستعادة عاصمتهم كان من الأراضي القريبة التي بقيت خاضعة للاتين (أي الأوروبيين الغربيين) ثم من ممالك مسيحية اخرى ، خاصة الصرب  والبلغار. خطر العشائر والممالك التركية من الغرب عاود الظهور قبل نهاية القرن الثالث عشر ، ومع أوائل القرن الرابع عشر ظهر اسم آل عثمان ، الذين  استولوا على مدينة “بورصة” (بروسة اليونانية) شمال غرب آسيا الصغرى وجعلوها عاصمتهم عام 1326. ثم أكمل العثمانيون تمدد العشائر التركية في آسيا الصغرى حتى عبور البحر غرباً إلى البلقان والتمدد فيه ونقل عاصمتهم إلى ادرينابولي اليونانية (ادرنة التركية اليوم) عام 1369، محيطين بالقسطنطينية من كل جانب. 

على عكس ما يود كثيرون اليوم أن يتصوروا لم تكن المعركة هنا، ولا ماسبقها، و لا ما تلاها من صراعات عبر آسيا الصغرى وجنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط معارك “الإسلام” مع “المسيحية”.

مع أواخر القرن الرابع عشر كانت الإمبراطورية البيزنطية قد انكمشت إلى عاصمتها، التي كانت في حالٍ بائسة مقارنةً بماضيها، وبضع قرىٍ وجيوبٍ متناثرة. في العام 1373 كان الامبراطور، يؤدي ضريبةَ حاكمٍ خاضعٍ لسلطان آل عثمان. سقوط المدينة في يد العثمانيين بدا مسألة وقت، لكن غزو تيمورلنك لآسيا الصغرى عند مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، منح بيزنطة بضعة عقود. عند أنقرة أسر الغازي التتري (المسلم) السلطان العثماني “بايزيد” بعد هزيمته، تقول الأسطورة أنه وضعه في قفصٍ مكشوف لإذلاله. مات بايزيد في الأسر ودخل أبناؤه في صراعٍ دمويٍ مريرٍ على السلطة، منه ربما نشأت عادة العثمانيين البشعة في قتل السلطان إخوته الذكور عند ترقيه العرش (“التقليد” الذي استمر دون انقطاع حتى نهاية القرن السادس عشر).

في النصف الأول من القرن الخامس عشر، في وجه الخطر العثماني المحدق، حاول أباطرة بيزنطة الأواخر  صك تحالفات مع قوىٍ كاثوليكية غرب-أوروبية، وصولاً، كما كانوا يأملون، إلى حملةٍ صليبية ضد العثمانيين. لكن مشاريع التحالفات هذه اصطدمت دوماً برفض يوناني ثابت، خاصة من الكهنوت، لأي تقاربٍ مع روما، إذ اقترنت بمحاولاتٍ لإعادة وحدة كنيستي القسطنطينية وروما، بل و كما اشترط بابا روما نيكولاس الخامس (جلس على العرش البابوي 1447-1455) عودة سيطرة كنيسته على كنيسة القسطنطينية. ومع ذلك، وفي وجه سقوط بدا محتوماً، أحنى آخر الأباطرة، قسطنطين الحادي عشر (حكم من 1449 حتى مقتله مدافعاً عن المدينة عام 1453) رأسه للأمر الواقع، لكن حتى ذلك لم يجدِ. 

آخر إعلان لعودة الوحدة قُرأ في هاجيا صوفيا عام 1452 في حضرة الإمبراطور والمبعوث البابوي أما صاحب الشأن، بطريرك القسطنطينية، فلم يحضر. داخل أيا صوفيا أقيمت طقوسٌ تؤكد وحدة الكنيستين، لكن في شوارع المدينة اشتعلت المظاهرات معارضةً لما يجري. بعد ذلك، وحتى سقوط المدينة وقلب الكنيسة مسجداً، لم يدخل للعبادة إلا قلائل، فالوحدة مع روما رفضتها الغالبية الكاسحة. بل يرُوى أن أحد وزراء الامبراطور أعلن أن عمامة السلطان (العثماني الغازي) خيرٌ من قبعة الكاردينال (الآتي من روما).

         من بين أعضاء الكهنوت الأرثوذكس الأشد معارضةً للوحدة مع روما كان جورج سكولاريوس، الذي تمتع باحترامٍ واسع، والذي، اعتراضاً على الاتفاق هجر القسطنطينية إلى ديرٍ خارجها حيث سأل زواره مستنكراً: “لِمَ وثقنا في الإيطاليين وتركنا الله؟ “، وتنبأ بأن خسران العقيدة هذا، بدلاً من حماية القسطنطينية، سيتبعه خُسران المدينة. لم يأتِ من أوروبا الغربية إلا الجنرال والمغامر الفلورنسي جيوفاني جستينياني وسبعمائة رجل، وشحنة حبوب من جنوة (المدينة الإيطالية). أما الحملة الصليبية فكانت سراباً. حينما جاء السلطان العثماني محمد الثاني في إبريل/نيسان 1453 على رأس جيش تراوح عدد جنوده بين الخمسين والثمانين ألفاً، عدا السفن والمدافع شديدة الضخامة، واجهته المدينة بأقل من سبعة آلاف رجل، بمدفعيةٍ خفيفة ونقصٍ في العتاد. فقط في الليلة الأخيرة قبل سقوطها، نسي أهل القسطنطينية خلافات العقيدة واجتمعوا متضرعين في هاجيا صوفيا التي كانوا قد هجروها منذ إعلان وحدة الكنيستين. حسب الروايات اليونانية كانت الصلوات مقامةً حينما اقتحم الأتراك الكنيسة وسحبوا من أرادوا من داخلها عبيداً ثم نهبوا محتوياتها الثمينة. بعد حصار استمر ثلاثة وخمسين يوماً دخل محمد الفاتح المدينة يوم 29 مايو 1453، وفي اليوم نفسه أمر بتحويل هاجيا صوفيا إلى مسجد. تقول الأسطورة أن بعض من كانوا بالكنيسة اختفوا داخل أحد جدرانها وقد قبضوا على أكثر نفائسها قداسةً ليعودوا حين تعود كنيسةً مرة أخرى.

الفتح وسياقه وهاجيا صوفيا: التضاد أم التلاقح والاستمرارية؟

على عكس ما يود كثيرون اليوم أن يتصوروا لم تكن المعركة هنا، ولا ماسبقها، و لا ما تلاها من صراعات عبر آسيا الصغرى وجنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط معارك “الإسلام” مع “المسيحية”. جيش الفاتح، كما غيره من جيوش آل عثمان، استخدم مرتزقةً مسيحيين. أما من دافعو عن القسطنطينية فكان منهم الأمير أورهان شلبي، سليل البيت العثماني المالك، وكان معه بضع مئات من معارضي محمد الثاني (الفاتح) من الأتراك. أما الفاتح فمعروف أن من ربته بعد وفاة والدته وبقيت محل ثقته أميرة صربية، بقيت على مسيحيتها ، زوجة أبيه، مارا برانكوفيتش  التي منحها الفاتح لقب “السلطانة  الأم” و كان لا يناديها إلا “أمي مارا”. علماً بأن هذه السيدة تمتعت بنفوذ قوي في بلاط محمد الفاتح  وابنه وخليفته بايزيد الثاني حتى وفاتها عام 1487.  أما من حيث التسليح فمن باع الفاتح المدفع الأضخم الذي لعب الدور الأهم في دك أسوار القسطنطينية فكان مهندساً مجرياً (مسيحياً) يدعى “أوربان”. 

قبل فتح القسطنطينية وبعده لعب العثمانيون على صراعات القوى المسيحية المختلفة أما هذه فبدورها استثمرت حيث استطاعت في خلافات البيت العثماني وصراعاته على العرش.  وبينما استمرت حروب العثمانيين لقرونٍ في أوروبا إلا أن قدراً كبيراً من نشاطهم العسكري تحول ضد دول مسلمة مع دخول حفيد محمد الفاتح سليم الأول (حكم 1512 -1520) حرباً مع الصفويين ثم سحقه لسلطنة المماليك. ربما لم تكن القسطنطينية لتسقط امام فاتح  أجنبي، مسلمٍ أو غير مسلم، لو لم تعش المدينة ما عانته عام 1204 و لم يولد ما تلاه من مرارة يونانية-ارثوذكسية تجاه روما أشد أحياناً من العداء لسلاطين آل عثمان (بعد سقوط القسطنطينية فضل ارثوذكس شرق أوروبا حكم العثمانيين المسلمين على الخضوع للكاثوليك، المجريين تحديداً في هذه الحالة، في القرن الخامس عشر).أما الفاتح وعاصمته الجديدة، فهمْه الأول بعد دخولها كان إعادة إعمارها، فنقل لها بالقوة مجتمعاتٍ كاملة ، كثيرُ منها كان من المسيحيين. علماً أن أحد أهم مصادر دخل الإمبراطورية العثمانية كانت الجزية المفروضة على غير-المسلمين، خاصة في المساحات الشاسعة التي سيطرت عليها في جنوب شرق أوروبا، لذلك لم يتحمس العثمانيون أبداً لنشر الإسلام بين أتباعهم. تُرى، أي تاريخ يعرفه من يتحدث عن صراع “الغرب” و”المسيحية” مع ” الإسلام؟ هل يمكن لـ”جوهرة” من هذا النوع إلا أن تصدر عن جهلٍ أو تبسيطٍ مخل؟  أو عن تسليم لا تمحيص فيه بادعاءات الأطراف المتصارعة عبر التاريخ لشرعيةٍ دينية حصراً؟

سمح السلطان لجنوده بنهب القسطنطينية قبل أن يعيد النظام إليها. ومثلما كان لليونانيين الأرثوذكس تاريخٌ طويلٌ من المعجزات والرؤي وسمت تاريخ المدينة وكنيستها العظمى، كان للغزاة المسلمين من ذلك نصيب. كل الروايات عن فتح المدينة تذكر دوراً محورياً لمرشد محمد الفاتح الصوفي الشيخ محمد شمس الدين ابن حمزة المعروف بـ “آق شمس الدين” (آق كلمة تركية تعني أبيض). كان الشيخ الدمشقي المولد، الذي ادعى نسباً ينتهي إلى أول الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق، أهم من شد أزر السلطان خلال أكثر من ستة أسابيع من الحصار. لفت آق شمس الدين الأنظار إلى الحديث المنسوب للنبي الذي بشر بفتح القسطنطينية ومدَح الجيش الفاتح وأميره (الحديث لم يأتِ إلا بإسناد واحد مشكوك فيه). لكن مساهمته الأهم كانت “اكتشافه” قبر الصحابي خالد ابن زيد ابن كليب الخزرجي المعروف بأبي أيوب الأنصاري. “رؤيا” للشيخ دلته على قبر الصحابي الجليل الذي مات (من مرضٍ، وكان شيخاً) على أبواب المدينة في حصارٍ أموي عام 52 هجرية (668 م). علماً أن أبا أيوب لم يعرف فقط بكونه من الصحابة فهو من استضاف النبي محمد في بيته عند هجرته إلى المدينة المنورة، وهو معروفٌ كمجاهدٍ لم يتخلف عن غزوةٍ للمسلمين إلا وهو في أخرى إلا عاماً واحداً. في الفتنة الكبرى كان أبو أيوب نصيراً للامام علي، ثم مات على أبواب القسطنطينية. هل من مصدرٍ  لل”بركة” لفتح المدينة أو لشرعية خلفاء فاتحها أفضل من قبرٍ لهذا الصحابي؟ الذي “اُكتشف” خلال حصار محمد الفاتح لها؟ لذلك أصبحت زيارته (حيث مسجد ومقامٍ مُعظَم إلى الآن خارج أسوار المدينة القديمة) أحد طقوس تولي سلاطين آل عثمان العرش، يعود بعدها السلطان إلى قلب المدينة امام أعين رعاياه وقد تبرك بعلاقةٍ بأصل الإسلام وبفتح المدينة وفاتحها. علماً انه، مثلما جمع الأباطرة البيزنطيين الذخائر المقدسة مسيحياً في هاجيا صوفيا وكنيسة الرسل وغيرها،  نقل خلفاء محمد الفاتح إلى عاصمتهم الكثير مما يقدسه مسلمون، وربما غير مسلمين، خاصة ما حملوه من مصر بعد هزيمتهم المماليك عام 1517 ميلادية. من هذه “الذخائر” التي نجدها اليوم في متحف توب كابي بإسطنبول، مثلاً لا حصراً،  إناءٌ للنبي إبراهيم، عصا للنبي موسى، عمامة للنبي يوسف ، سيف النبي داوود، عباءة يقال أنها كانت للرسول الأعظم (ص)، وشعرة من رأسه الشريفة،  ورداء لابنته السيدة فاطمة (ض)، وسيوف يقال أنها كانت ملك الرسول محمد وأخرى لعدد من الصحابة  (عباءة الرسول، مثلاً، كان بعض السلاطين يتبرك بها في منتصف كل رمضان ، وكان زرٌ منها يغسل بماء الورد و يستشفى بمائه).

ما إن انتزع المدينة من اليونانيين، وبعد ان ترك فسحةً لجنوده لنهبها، سعى محمد الفاتح لاستملاك قلبها: هاجيا صوفيا.  أزال السلطان منها كل ما تعلق بالطقوس المسيحية من صلبانٍ وأيقونات، واستبدل الصليب على قبتها الكبرى بهلالٍ وبنى على عجلٍ مئذنةٍ خشبية (استبدلت لاحقاً بالمآذن الأربع الحجرية القائمة إلى اليوم).أصبحت هاجيا صوفيا مسجداً و بنفس الاسم تقريباً: آيا صوفيا. اما المدينة فعرفت لاحقاً بالاسم اليوناني لأحد أجزائها: “إسطنبول” (يخبرنا ابن بطوطة عن هذا الاسم عند زيارته المدينة بأكثر من قرنٍ قبل سقوطها في يد العثمانيين). برغم تحويل الكنيسة العظمى إلى مسجد، ترك محمد الفاتح  معظم ما فيها من فسيفساء رائعة مكشوفاً،  فقط ما في مستوى النظر تم تغطيته . كثير من أعمال الفسيفساء هذه بقي مرئيا حتى سبعينيات القرن السابع عشر على الأقل، لكن مع مطلع القرن التاسع عشر كان كل ما بقي سليماً قد تمت تغطيته. أما (مؤسسة) الكنيسة التي كانت هاجيا صوفيا (آيا صوفيا الآن) مقرها فسلم الفاتح زمامها للأشد عداوة للوحدة مع روما. أسر العثمانيون سكولاريوس الذي هجر المدينة قبل سقوطها حنقاً على إعلان الوحدة مع روما كما ذكرنا، لكن سرعان ما صعّده السلطان ليصبح بطريركاً للكنيسة الأرثوذكسية، وعرف باسم جناديوس الثاني، ويقال أن مودةً نشأت بين البطريرك والسلطان، بما في ذلك نقاشات في الدين والعقيدة.

هاجيا صوفيا كانت واحدة من ستة كنائس حولها محمد الفاتح إلى مساجد في القسطنطينية، ألحق السلطان به (أي مسجد آيا صوفيا) مدرسةً دينية . عام 1460 م،  بعد سبع سنواتٍ فقط من استيلائه على المدينة، شرع الفاتح في بناء السوق المغطى الكبير (القائم إلى اليوم) وأوقف جزءاً من ريعه للإنفاق على آيا صوفيا ومدرسته الجديدة.  اما مقر البطريركية الأرثوذكسية فانتقل  أولاً من آيا صوفيا إلى كنيسة الرسل  التي ضمت رفات أجيالٍ  من الأباطرة البيزنطيين ، لكنها (أي هذه الكنيسة) على أهميتها كانت في حالٍ يرثى لها،(تدهور الإمبراطورية البيزنطية اعجزها عن الحفاظ على تراثها المعماري). سرعان ما انتقل مقر البطريركية مرة أخرى من كل الرسل المتهالكة إلى كنيسة ثالثة : “باماكريستوس” (في العام 1587، في عهد مراد الثالث (حكم 1574-1595) ، واحتفالاً بانتصاراتٍ على الصفويين في القوقاز (!)، طرد العثمانيون البطريرك من مقره  ب”باماكريستوس” إلى كنيسة القديس جورج حيث مقره إلى اليوم. المسجد الجديد-الكنيسة القديمة سمي “جامع الفتح”). أما “كل الرسل” فهدمها الفاتح وأقام على أنقاضها، مستخدماً أحجارها، مجمعه الذي ضم مسجداً ومدارس دينية وبيمارستان (مستشفى) وخانقاه (نُزل للدراويش) وآخر للقوافل والتجار وحماماً وعدداً من الدكاكين ينفق ريعها على المسجد. المجمع هذا (تم 1470)،  والذي صممه مهندسٌ يوناني، استوحى نموذج هاجيا صوفيا، التي كانت، بقبتها الهائلة وأقواسها وأنصاف قبابها، مصدر الإلهام الأساس للعمارة العثمانية بعد فتح القسطنطينية. ومثلما ترك الفاتح بصمته بسرعة على القسطنطينية، أمر بإعادة كتابة تاريخها  ليصنع لنفسه مكاناً فيها. على يد كُتابه ولدت القسطنطينية لا على يد المستوطنين اليونان الأوائل، أصحاب “بيزنطة”، ولا قسطنطين، بل على يد الملك-النبي سليمان الحكيم (كتب ابن بطوطة في وصفه “الكنيسة العظمى”  عند زيارته المدينة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي: “أيا صوفيا … بناها آصف بن برخياء، وهو ابن خالة سليمان عليه السلام.” مصدر المعلومة مجهول، لكن يبدو أن هذا المعتقد كان شائعاً). فمثلما “اكتشف” قبر الصحابي أبو أيوب الأنصاري ليربط الفتح والفاتح بأصل الإسلام، كُتب تاريخ يربط أصل المدينة (ومن ثم بشكل غير مباشرمن ملكها) بنبي سابقٍ على المسيحية والإسلام على حد سواء.

بصمة آل عثمان: الدلالات المتضاربة والخلافية الباقية.

كغيرها من معالم القسطنطينية كانت هاجيا صوفيا في حالٍ سيئة قبل دخول العثمانيين المدينة. السلطان سليم الثاني  (حكم1566 -1577) قام بترميماتٍ مهمة للمسجد (الكنيسة سابقاً) ، وأزال ما حوله من مبانٍ كانت قد انشئت بعد إخضاع المدينة وأمر ببناء مدرستين وضريح له، كما رمم أعمدة كانت تنذر بالانهيار. نفذ هذه الإصلاحات والإضافات معمار العثمانيين الأشهر: سنان. في عهد أحمد الأول (ح 1603 -1617) شهد مسجد هاجيا صوفيا تجديداتٍ واسعة، شملت تغطية معظم رسومات الفسيفساء بالمبنى. ترك المرممون صوراً للعذراء مع المسيح الطفل، لكنهم غطوا صورة المسيح الملك (the pantocrator) الشهيرة على القبة الكبرى. في هذا “الإخفاء” ربما رأى سلطان امبراطوريةٍ واجهت ضغوطاً عسكريةٍ متزايدة تحقيقاً لشرعية دينية تناسب الحقبة التاريخية. أما الحديقة المحيطة بآيا صوفيا، فضمت ، في أكثر من مبنى، رفات السلاطين: سليم الثاني (ح 1566-1574)، مراد الثالث(ح  1574 -1595) و محمد الثالث (ح 1595- 1603)، مصطفى الأول (ح  1617 -1618 ثم ثانية  1622-1623) ، ثم إبراهيم الأول  (1640-1648) وعشراتٍ آخرين من البيت العثماني.

الأضرحة العثمانية حول آيا صوفيا كما تجسد ثراء وقوة السلطنة في أوجها تتحدث أيضاً عن اضطراب تاريخها وأبشع عاداتها. مثلاً لا حصراً (وتحديداً من السلاطين المذكورين أعلاه)  مصطفى الأول عُزل مرتين، أما إبراهيم الأول فعُزل ثم قُتل. لكن أفظع ما تخبرنا عنه هو التقليد العثماني الذي قضي بقتل كل سلطان يصل للعرش لإخوته الذكور، والذي كما أسلفنا، كان ربما رد فعل على الحرب الأهلية الطاحنة التي دخل فيها أبناء بايزيد (مات في أسر تيمورلنك 1403 م). العادة استمرت راسخةً حتى نهاية القرن السادس عشر، بعد ذلك قلت حدتها، وملئت الأضرحة السلطانية حول آيا صوفيا وأماكن اخرى. مثلاً مراد الثالث  ( 1574- 1595)، وهو السلطان الورع ، عز عليه قتل أخوته الذكور التسعة، لكنه “اضطر”، حسب رواية عنه، أن يسلم باكياً تسعة من رجاله تسعة مناديل من يده شخصياً لقتلهم دون إراقة دماء، ليدفنوا جوار أبيهم السلطان سليم الثاني (بجوار آيا صوفيا). خليفة مراد الثالث، ابنه محمد الثالث (1595-1603) التزم نفس العادة، فما إن صعد العرش حتى قتل كل اخوته التسعة عشر أخاً، بما في ذلك الأطفال، إذ كان أكبر اخوته بعده أصغر منه بعشرين عاماً، ثم أقام لهم جنازةً مهيبة مع أبيه. بعد محمد الثالث خفت حدة “الطقس”، خاصة أنها كلفت العرش العثماني ندرةً في المرشحين الصالحين للعرش من البيت العثماني.  

مع الوقت ازدحمت سماء إسطنبول بالمآذن، لكن احتفظ مسجد آيا صوفيا بأهميته واعتبر التدريس في المدرسة الملحقة به شرفاً كبيراً للفقهاء من رعايا العثمانيين. احتاج المبنى إلى ترميمٍ شامل في عهد السلطان عبد المجيد (حكم 1839-1861). أشرف على العمل مهندسان شقيقان من سويسرا، جاسبر وجوسيبي فوساتي، و قام بتكلفة التجديد الهائلة وقف خيري. بدء العمل في مايو 1847 بمشاركة ثمانمئة عامل. عدا الإصلاحات الهيكلية الضخمة التي حفظت المبنى، أكتشف المرممون، أو اعادوا اكتشاف، أعمال الفسيفساء البيزنطية. أما السلطان الذي انبهر بها، ولام أسلافه (بعد محمد الفاتح) على تغطيتها، فبينما لم يقرر الكشف عنها، أمر أن تُدارى بطلاء يسهل إزالته حتى يمكن عرضها للناس بسهولة متى سنحت الفرصة. بعد سقوط آل عثمان وإعلان الجمهورية بدأت أعمال ترميم مهمة على يد المعهد الأمريكي للدراسات البيزنطية، هذه أعادت كشف رسوم الفسيفساء. ثم تحول المبنى رسمياً إلى متحف عام 1934 بقرار من مصطفى كمال (أتاتورك) (حكم 1923-1938) حتى  تحويله إلى مسجد مرة ثانية مؤخراً.

لكن خلافية البناء وتاريخه المحمل بالصراعات ورمزياتها لم تغب أبدا. 

بعد عشرات السنوات من أعمال الترميم الدقيقة التي كشفت عن أعمال الفسيفساء الرائعة،  في يوليو 1967 زار المبنى البابا بول السادس، الذي تأثر بشدة  برسم الفسيفساء المشهور للعذراء مع المسيح طفلاً، فاستدر لمرافقيه وسأل إن كان يمكنه تلاوة صلاة للعذراء، ثم شرع في صلاته قبل أن يسمع رداً. برغم سرعة ما جرى ومدته المحدودة، طيرت وسائل الإعلام الخبر. بعد الواقعة بثلاثة أيام دخل مبنى “متحف” هاجيا صوفيا ثلاثة من قادة اتحاد طلاب تركيا و أدوا الصلاة في “المتحف” بعد ارسالهم صورة لمحمد الفاتح إلى الفاتيكان ممهورة بالنبوءة المنسوبة للرسول عن فتح القسطنطينية.

السيف على المنبر أم مساحة مشتركة؟

صلاة بابا روما هذه ، الرجل الآتي من كنيسة عادتها بمرارة كنيسة القسطنطينية، في “متحف” كان يوماً مسجداً قبل أن يصبح كنيسة، مثلما تختصر تعقيدات صراعات عبر قرونٍ طويلة، تشير أيضاً لاحتمالات التعايش والتعدد. هاجيا صوفيا كانت أولاً، نظرياً على الأقل، تحت سلطة روما، ثم انفصلت، ثم عادت، بالإجبار والغزو، لحضن روما لبضعة عقود، ثم ارثوذكسية مرة ثانية تناصب روما العداء ثم مسجداً ومدرسة تحتوي في حديقتها رفات سلاطين آل عثمان وأفراد من أسرهم (بما في ذلك ضحاياهم من اخوتهم)، كل من هذه الأطراف لم يترك بصمةً فحسب، خيراً كانت أو شراً، بل عدا البناء الأول، ساهم في حفظ هذا الصرح الهائل، الذي كان مصدر الإلهام الأساس لعمارة آل عثمان، كما يرى بوضوح كل من يزر إسطنبول، من ثم المبنى عن حق جزء من  عموم التراث الإنساني.

بدلاً من شيخٍ معممٍ محتبياً سيفه صاعداً المنبر (كما رأينا)، ألم يكن من الأجدى أن يعود المكان دار عبادة لكن مُقسماً بين الكنيسة التي بنته والدين الذي فتح المدينة؟ عدا المتحف المفتوح للجميع، ألم يكن ممكناً الوصول لصيغةٍ تؤكد التعايش الذي رعاه سلاطين آل عثمان الأوائل ،و خاصة محمد الفاتح، الذين عاشوا في زمن مختلف وكانوا بمعايير زمنهم هذا، أوسع صدراً بكثير من غيرهم (عدا ملايين الرعايا المسيحيين استقبل العثمانيون اليهود الفارين من الاضطهاد الكاثوليكي في إسبانيا بعد سقوط حكم المسلمين هناك)؟ 

لكن اردوغان الشعبوي، على ذكائه وحنكته، المأزوم حالياً داخل التيار الإسلامي التركي قبل غيره، ناهيك عن وضع اقتصادي متردٍ، لا يبدوا راغباً إلا في لغة الصراع والخلاف الجوهري، علماً أنه بهذا يسيئ لتراثه كمسلمٍ تركي ويمنح مادةً دسمة لأسوء صور العداء للإسلام والمسلمين عموماً، والأتراك خصوصاً، في أوروبا والغرب. 

ترى هل يمكن للإسلام السياسي إلا أن يكون شعبوياً؟ قائم على الجوهرة والتبسيط المخل؟ كما يثبت لنا السيد أردوغان وصحبه كل يوم؟ تبدو الإجابة بالنفي.