fbpx

لرولا يعقوب أمٌّ تُحييها وقضاءٌ يُميتها: أين أصبح الملفّ؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا كان لمسار هذا الملفّ الطويل المشوب بالتجاذبات والتعقيدات من عبرة، فهي أهميّة ألّا يماطل القضاء، وأن يتّخذ قراراً بالاعتراف بعلاقات السلطة الفادحة التي تحكم الأسر في لبنان ويقرّ بدور التاريخ العنفي الذي تعجّ به حيوات الآلاف من النساء في تأجيج المظالم ضدهنّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


إذا كان لقضايا قتل النساء في لبنان أمّ، فهي حتماً ستكون ليلى، والدة الضحيّة رولا يعقوب التي ذاقت، هي أيضاً، طعمَ العنف على يد زوجها المتوفّى. ليلى التي كانت تتحدّى العنف في حياتها وتواجه زوجها، لم تتوقّف منذ مقتل ابنتها عام 2013 عن المطالبة بحقّها ومحاسبة الجاني الذي تسبّب بموتها. 

سبع سنوات ونيّف مرّت لم تخلع فيها ليلى ملابسَ سوداء كست جسداً أرهقه الحداد، ليس على وفاة ابنة الـ33 ربيعاً عنوة وحسب، بل على عدالةٍ أخّرت نفسَ الصعداء أعواماً طويلة ضاعفت انحناءات ظهرها. 

تحدّث “درج” إلى ليلى ووكيلها المحامي مصطفى عكّاري للوقوف معهما على آخر مستجدّات القضيّة التي لم تعرف سوى تأجيلٍ تلو التأجيل. وكان آخرها تأجيل جلسة استجواب واستماع أخرى كانت مُقرّرة في محكمة التمييز يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 بسبب تعذّر حضور الشهود، وذلك بعد عامٍ على التمام من صدور القرار -الذي قُبل تمييزُه- عن محكمة جنايات لبنان الشمالي والذي قضى حينها بتبرئة الزوج المتّهم بالتسبّب بوفاة رولا.

لكن هذه المرّة، حاور “درج” ليلى التي تلاحق ملفّ ابنتها عن كثب للتعرّف إليها أيضاً، وإلى “اللّيلات” الأخريات المُحتجبات خلف ليلى “الأمّ الثكلى” التي تنتظر حكماً نهائيّاً عادلاً، ليكتشفَ ليلى الناجية، وليلى المناضلة.

ليلى الناجية

“زوجي صحيح كان قاسي وعصبي، بس مش هلقد، مش قد كرم (زوج رولا). وزوجي كان يتيم، لا أم ولا أب ولا إخت ولا حدا، ما فيكي تعتبي عليه، ما حدا ربّاه، مش متل هيداك (كرم). هوي ربّى حاله. عرّفني عليه جارنا بطرابلس… ما كان بدّي ياه يعني، بس رجعت قلت يتيم، وفينا نظبّط حالنا، منشتغل ومنجمّع ومنعمّر بيت، بس ما ظبطت معي. كنت عَروس يضربني”، تروي ليلى لـ”درج”.

وتُعقّب بنبرةٍ حازمة، “أنا كنت جاوب، أنا ما بسكت. هيدا حقّي!”، وتسرد كيف كانت تردّ على زوجها قائلةً، “ما حدا جابرَك تاخدني، إنتَ قتلت حالك عليّي!”. وتتابع، “زعِلْت ونزلت عند أهلي، وشلَحتلّه غراضه برّا، وكشحته! صار يترجّاني ويتبكبك… لحتّى رجعت. هيدا حظنا يا بنتي، المقهور لو بيطلع عند ربّه بيضل مقهور.”

لدى سؤال “درج” عن سبب اختلاف طباع رولا الانطوائيّة والصامتة عن طباع أمّها المتمرّدة، وما إذا كانت الأمّ لتسمح لابنتها بالانفصال عن زوجها لو قرّرت ذلك، تقول ليلى، “صدقيني ما بعرف ليش ما أخدت بنتي القوّة. بس الأرجح كرمال عندها 5 بنات. وإي كنت بخلّيها تفلّ. أنا بيهمني بنتي قبل 600 ألف كرم متل حكايته! ما هيي لو بتحكيلي كان نُصّ مصيبة. بنتي ما بتحكي. هاي هيي المصيبة تبعتها. كان يضربها بالمخفي وما تخلّيني أعرف… كسرلْها سنّها وعويناتها، قلتلها طالعة إشكيه للمطران، قالتلي لاء، إذا بتريدي”.

ربّما يجوز القول إنّ ملفّاً كملفّ رولا سيكون حاسماً في تقرير مصير ملفّات الكثير من النساء في البلاد. فليست كلّ حالات القتل تُرتكب بمسدّس أو على مرأى من أكثر من شاهدٍ راشدٍ محميّ بما فيه الكفاية لكي يظلّ متمسّكاً بشهادته ومواظباً على الإدلاء بها، ولا تمتلك كلّ العائلات والأفراد رفاهيّة الوقت والملاحقة والتأجيل

ليلى المناضلة

تترك ليلى الأمَّ الثكلى لبرهة وتستحضر ليلى المناضِلة لتخاطب عبرها القاضية الأمّ. والقاضية، أي فرصة ليلى الأخيرة، هي رئيسة الغرفة السادسة في محكمة التمييز، سهير حركة، التي تنظر حاليّاً في ملفّ رولا يعقوب الذي زار تقريباً كلّ المحاكم في لبنان. فرولا التي توفيت في 7 تمّوز/يوليو 2013 نتيجة الضرب المتكرّر الذي تعرّضت له على يد زوجها، لم تسلك قضيّتها المسار الذي توقّع الرأي العام أن تسلكه، وهو الإبقاء على الزوج موقوفاً بخاصّة أنّ علامات الضرب كانت بيّنة على جسدها وشهوداً كثراً، من بينهم الجيران والأطفال، أكّدوا سماع صراخ من منزل رولا وضرب زوجها “الاعتيادي” لها. 

تشي المعطيات بأن اتّصالات سياسيّة وأموال كثيرة بذلت حينها لدعم الزوج، وعلى ما يبدو كان لشقيقه دور كبير في تأمينها، هو نفسه الذي تؤكّد ليلى لـ”درج” أنّه أغراها بها على التنازل وأبَت. لكنّ غيرها لم يأبه، وربّما خاف، أو ببساطة، قصّر عمداً في واجباته فتأخّر في إصدار إذنٍ بتشريح الجثمان وتصوير الرأس، وانتقى ما ناسبه من التقارير الطبيّة، فكان أن أُخلي سبيل الزوج مطلع عام 2014 مع “هديّة” منع محاكمة، لتبدأ رحلة ليلى مع محاكم الاستئناف والجنايات وصولاً إلى التمييز. 

“اتّكالي على ربّي وعلى القاضية (سهير حركة). إنسانة عظيمة بيقولوا، وانشاءلله، هيي أمّ يبدو، وبتعرف الأم، ويمكن عندها ولاد، المهمّ بتعرف الأم ومصيبة الأم إذا انجرحت، وبتحسّ بالأم”. وتردف، “يتذكّروا للي انقتلت… قاتلين امرأة متل الجسر، 33 سنة، أمّ 5 أطفال. 7 شهور شال البنت عن صدر إمها، كان الحليب لسّاه على صدرها وقت الدفن.”

“هل تخافين يا ليلى من انتقام خصومك منكِ؟”، “ما بخاف من شي”، تجيب ليلى. 

“الحقّ ما بيموت. عطوني حقّ بنتي وما بدّي شي منكم. بطلع بضوّيلها شمعة وبزورها وببخّرها وبقلّها نامي يا ماما بأمان، هلّق أخدتلّك حقّك.”

زهور زرعتها ليلى أمام مقبرة ابنتها

رُزق المُتّهم بابنةٍ سادسة… فسمّاها “رولا”

رولا التي لم تنعم بحياة زوجيّة وعائليّة هانئة وسعيدة، بالكاد مرّ أشهر على رحيلها المبكر حتّى تزوّج المُتّهم بالتسبّب بوفاتها نتيجة تعنيفها المتكرّر وضربها قبل أيّام وساعات ولحظات من مقتلها. 

تزوّج كرم، وأُنعم عليه هذا العام بابنةٍ سادسة، هي ابنته الأولى من زواجه الأخير التي لم يرضَ إلا أن يسمّيها “رولا”، على اسم امرأةٍ حوّل حياتَها إلى مأساة وموتها إلى لغز وجحيم.

وعن الدوافع خلف تسمية الزوج ابنته السادسة “رولا”، تقول “ليلى” إنّه اختار هذا الاسم “حتّى يبرّر موقفه إنّه هو منّه قاتلها، بس هوي متل هيدا المثل: من الحبّ ما قتل.”

أين أصبح الملفّ؟

قتل، ضرب، تسبّب بوفاة، توقيف، منع محاكمة، استئناف، محاكمة، تبرئة، تمييز. 

عرف ملفّ رولا يعقوب محطّات قضائيّة كثيرة شديدة التعقيد. أثقلت مساره مطبّاتٍ بدأت منذ صدور القرار الظنّي بمنع محاكمة المتّهم عام 2014، وصولاً إلى قرار محكمة الجنايات في لبنان الشمالي بتبرئة المُتّهم عام 2018، ولم تنتهِ بعد مع استمرار جلسات محكمة التمييز التي يؤكّد وكيل المُدّعية مصطفى عكّاري الذي يعمل على ملفّها مع منظّمة “كفى”، أنّ المحكمة تقوم بكلّ ما في وسعها للاستماع إلى جميع الشهود المُقترَحين وتبحث في أدقّ التفاصيل. ومن بين التفاصيل المعروضة تلك التي أغفلتها الإجراءات القضائيّة السابقة أو لم تُعرها المحاكم الأهميّة اللازمة، ومعطياتٌ جمعها فريق الادّعاء على مدى السنوات السبع المنصرمة، لا سيّما التقارير الصادرة عن الأطبّاء أعضاء لجان التحقيقات المهنيّة في نقابتَي أطبّاء لبنان في بيروت وطرابلس، ومضمون مُخالَفة رئيس محكمة الجنايات القاضي داني شبلي، وشهادات الجيران وشهود الحقّ العام، أي عناصر قوى الأمن الذين كشفوا على البيت والجثمان.  

ولفهم المسار أكثر، أعددنا كرونولوجيا قضائيّة توثّق مراحل القضيّة وتُثبت الإطالة في البتّ بها: 

كرونولوجيا قضائيّة

7 تمّوز/يوليو 2013: مقتل رولا يعقوب نتيجة ضرب زوجها المتكرّر لها 

24 كانون الثاني/يناير 2014: صدور القرار الظنّي عن قاضي التحقيق في الشمال آلاء الخطيب الذي قضى بمنع محاكمة المُتّهم، تبعَه استئناف العائلة أمام الهيئة الاتهاميّة في الشمال

12 أيّار/مايو 2016: اتّهام محكمة الاستئناف في لبنان الشمالي زوج الضحيّة بالتسبّب بوفاتها

10 كانون الثاني/يناير 2017: ردّ محكمة التمييز برئاسة القاضي جوزيف سماحة طلبَ تمييز قرار الهيئة الاتّهاميّة الذي تقدّم به المُتّهم وإحالته إلى محكمة الجنايات في الشمال بتهمة التسبّب بالوفاة

30 تشرين الأوّل/أكتوبر 2018: إصدار محكمة الجنايات في لبنان الشمالي حكمَها الذي يبرّئ المُتّهم “لعدم كفاية الدليل” بأكثريّة مستشارَين ومخالفة رئيس المحكمة القاضي داني شبلي

8 تشرين الثاني و14 تشرين الثاني/نوفمبر 2018: تقديم طلبَي تمييز من النيابة العامّة الاستئنافيّة في لبنان الشمالي ثمّ المدّعية الشخصيّة ليلى مخائيل خوري، والدة الضحيّة

29 شباط/فبراير 2019: صدور القرار بقبول طلب تمييز قرار الجنايات وإعادة النظر في محاكمة المُتّهم بالأكثريّة عن رئيسة الغرفة السادسة في محكمة التمييز القاضية سهير حركة والمستشارَين فادي العريضي ورولا مسلم

4 تشرين الثاني/نوفمبر: تأجيل جلسة أخرى لمحكمة التمييز بسبب تعذّر حضور الشهود وإرجاء الجلسة مبدئّياً إلى 28 كانون الثاني/يناير 2021. 

يشرح المحامي عكّاري أنّ التركيز مصبوب حاليّاً على ربط الأحداث التي سبقت الوفاة بأسابيع أو أيّام أو لحظات –وهي موثّقة بالكدمات على جسم رولا وغيرها من الأدلّة كالعصا المكسورة وشعر رولا على الأرض- بلحظة الوفاة نفسها، لتثبيت فرضيّة التسبّب بالوفاة التي يدافع عنها والتي، حتّى لو حدثت نتيجة انفجار شريان “أم الدم”، يبقى أنّها وقعت إثر تعقيد صحّي حصل بسبب ممارساتٍ عنفيّة وضغوط أفضت إلى الوفاة.

يتطلّع المحامي إذاً إلى تثبيت اتّهام الزوج، لكنّ المؤكّد أنّ هذا الأمر لن يؤدّي إلى ما تتمنّاه أمّ رولا لمعنِّف ابنتها من عقوبة قاسية بالضرورة. 

شمعة لرولا في يوم تذكار الموتى لدى الطوائف المسيحيّة

“قدّمنا العسل انلبطنا بالمرّ…”

ربّما يجوز القول إنّ ملفّاً كملفّ رولا سيكون حاسماً في تقرير مصير ملفّات الكثير من النساء في البلاد. فليست كلّ حالات القتل تُرتكب بمسدّس أو على مرأى من أكثر من شاهدٍ راشدٍ محميّ بما فيه الكفاية لكي يظلّ متمسّكاً بشهادته ومواظباً على الإدلاء بها، ولا تمتلك كلّ العائلات والأفراد رفاهيّة الوقت والملاحقة والتأجيل. وإذا كان لمسار هذا الملفّ الطويل المشوب بالتجاذبات والتعقيدات من عبرة، فهي أهميّة ألّا يماطل القضاء، وأن يتّخذ قراراً بالاعتراف بعلاقات السلطة الفادحة التي تحكم الأسر في لبنان ويقرّ بدور التاريخ العنفي الذي تعجّ به حيوات الآلاف من النساء في تأجيج المظالم ضدهنّ. 

من هنا، سيصحّ القول إنّ انتصار العدالة لرولا، ولو جاء منقوصاً أو مقتصراً على عقوبة ناعمة واعتراف رسمي بأنّها لم تُقتل صدفةً، يعني أنّ القضاء راجع نفسه واعترف بالظلم الذي وقع على رولا وأدّى إلى وفاتها، وأقرّ هو أيضاً بمسؤوليّته في التأخير والتأجيل المسؤولَين عن أي نتيجة نهائيّة “ناقصة” من المُرجّح أن يصل إليها العام المقبل. 

وأي انتصار لقضيّة رولا سيكون أوّلاً وأخيراً انتصاراً لأمّها الناجية التي لم ترحمها الحياة، هي التي “قدّمت العسل ورُكلت بالمرّ”، كما تقول.