fbpx

وصف الجمهوريات التي كانت تُعرف بالجمهورية اللبنانية (4): جمهورية جبل عامل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

هناك المجانين، أو هذه هي التسمية التي يطلقها الجنوبيون على أفراد موزعين على القرى، يوصف كل واحد منهم بـ”مجنون القرية”، فمن هم هؤلاء؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

  • ينشر موقع “درج” على حلقات كتاباً صدر هذا العام (2050) في نيويورك لكاتبه مارك دبوسي، وهو صحفي أميركي من أصل لبناني عاش في بيروت قرابة عشر سنوات. الكتاب، كما يقول عنوانه، يصف واقع الجمهوريات التي انقسم إليها ما كان يُعرف حتى العام 2040 بدولة لبنان. الحلقات السابقة تناولت جبل لبنان وطرابلس والبقاع. هنا الحلقة الرابعة.

ما إن تغادر مدينة صيدا باتجاه الجنوب حتى تستقبلك لوحة حديدية كبيرة باللون الأخضر كُتب عليها: “جمهورية جبل عامل الإسلامية الشيعية”، وبعد أمتار قليلة فقط، وقبل بلوغ نقاط الجمارك والتفتيش، ترتفع لوحة أخرى طليت باللون الليلكيّ كتب عليها شعار غريب:

“كلّ الأماسي سمرْ

وكلّ ليل سهر”

يا إلهي! فأنا سبق أن قرأت، حين كنت لا أزال في الولايات المتحدة، كتاباً عن تاريخ هذه المنطقة، ولا أزال أذكر صورة فوتوغرافية ضمّها الكتاب عن نفس المكان الذي وقفت أمامه قبل يومين. لكن الفارق أن العبارة المكتوبة آنذاك كانت تقول: “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”. وقد فهمت يومذاك أن المقصود بها تمجيد الموت والشهادة على النحو الذي ختم بهما حياته الحسين بن علي، حفيد النبي محمد الذي يبجّله المسلمون الشيعة.

ما الذي تغير إذاً في هذه الرقعة من العالم؟

بعد توقيعها معاهدة الصلح بقليل، وقّعت السلطات العليا في جمهورية جبل عامل الإسلامية الشيعية مع إسرائيل عدداً من الاتفاقات كان أحدها سياحياً، وهو ما حول هذه الجمهورية إلى مقصد سياحي للإسرائيليين الذين ينفقون هنا الكثير من الأموال، فضلاً عن تملكهم المتزايد للأراضي والعقارات. وحين سألت في الأمر شيخاً دينياً صغير السن، لكنه مولع بالأفكار والكلمات الكبيرة، شرح لي الأمر على النحو التالي: “إننا جمهورية مؤمنة بلا أدنى شك، ولهذا اخترنا اللون الأخضر لعلَمنا لأنه اللون المميز في الجنة، ومنه تكون ثياب أهل الجنة وملابسهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الغرض في عدد من الآيات. لكننا، وبسبب عمقنا الفكري الديالكتيكي، ورفضنا الوقوع في الدوغمائية والديماغوجيا والثيوقراطية، وتفضيلنا اعتماد تقسيم عمل ما بين الحياة والموت، آثرنا أن يكون لنا علم آخر على هذه الأرض الفانية”. ولأن الكلام مع هذا الشيخ الشاب قد طاب لي، ومن أجل تكوين فكرة أدق عن التحول الذي طرأ على السكان، سألته سؤالاً في التاريخ عن رأيه بما كان يُعرف قبل عشرين سنة بحزب الله، لكن الشيخ الذي رسم بسمة ساخرة على شفتيه ما لبث أن أجاب مصححاً ومستخدماً حبه للمصطلحات العلمية: “هذا لم يعد تاريخاً، إنه علم آثار، أو ما تسمونه أنتم في الغرب أركيولوجيا. لقد تغير العالم كثيراً، ونحن اليوم نعيش أحسن العلاقات مع جيراننا اليهود، وهم، بعد كل حساب، أهل كتاب”.

لكن هذا الانطباع لا يحول دون انزعاج طفيف لا زال يبديه بعض الإسرائيليين. فقد كتبت مؤخراً صحيفة “هآرتز” أن هناك سياحاً يفدون إلى الجنوب للترويح عن أنفسهم لتفاجئهم بعض ممازحات الجنوبيين لهم، خصوصاً أولئك الذين يستقبلون واحداً منهم بعبارة من عبارتين: إما “جدي قتل جدك في الزمن القديم” أو “جدك قتل جدي في الزمن القديم”.   

وهذه، في الحالات كافة، تفاصيل لا تسيء جدياً إلى العلاقات الوثيقة جداً التي باتت تربط بين الجارين. فالمشكلة في الجنوب داخلية بالدرجة الأولى: ذاك أنه منذ قيام جمهورية جبل عامل نشب الخلاف بين أهل صور وأهل النبطية وأهل بنت جبيل حول أي منها ينبغي أن تُسمى العاصمة. وبعد توتر كاد يتسبب بالاحتكام إلى السلاح، تدخل الإسرائيليون الذين طلب الجنوبيون تحكيمهم، فحكموا بتقسيم العاصمة، بحيث تكون صور العاصمة السياسية، والنبطية العاصمة الإدارية والتجارية، وبنت جبيل العاصمة الثقافية. غير أن حزب “هيهات منا الذلة” الراديكالي والمحظّر، والذي رغم ضعف تمثيله وشعبيته لا يزال يرفض السلام مع الدولة العبرية، وجد في هذه الخطة برهاناً على وجود “مشروع إسرائيلي لتجزئة جمهوريتنا وتشتيت قواها”. 

ما لم يكن ممكناً اتهام إسرائيل به هو خلاف آخر تسبب به اعتراض الحركة البيئية (7 أشخاص) على جعل شتلة التبغ تتصدر العلم الوطني للجمهورية مظللةً بسيف الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول محمد. فلقد أصدرت الحركة بياناً حاداً مؤداه أن التبغ، ولو اعتُبر جزءاً من تراثنا، فقد صار شيئاً من الماضي. أما تكريمه بهذه الطريقة فقد يشجع المواطنين على العودة إلى التدخين ويضر بصحتهم بالتالي. وهذا البيان ما كان ليثير اللغط الذي أثاره لولا فقرته الأخيرة التي تتهم جمهورية البقاع الإسلامية بأنها وراء مؤامرة خطيرة على الجنوبيين، أو كما يقول البيان بالحرف: “هكذا نبدأ مجدداً بالتبغ لننتهي باستهلاك سلع أخرى لا يزال يزرعها أخوتنا في البقاع ولا يزرعها غيرهم”. 

مع هذا فالأمور تبدو تحت السيطرة في جمهورية جبل عامل الإسلامية، خصوصاً مع تضخم قطاع الخدمات الذي أحدث طفرة مالية ملحوظة لكنه أحدث أيضاً تحولات سياسية بدأت تعكس نفسها على الأحزاب الجديدة. فقد تأسس مؤخراً، كما علمتُ، حزبان واحد في صور اسمه “سَهَر تحت ضوء القمر”، وآخر في النبطية حمل اسماً مشابهاً ولو بالعامية اللبنانية، هو “سهار بعد سهار” الذي قيل لي أنه استُوحي من عنوان أغنية قديمة في ما كان يُعرف بلبنان. وإذ قصدت للمرة الثانية الشيخ الشاب كي أسأله عن سر هذا الولع بالسهر والترويج له، أجابني: “في زمن الأجيال القديمة، أجيال جدودنا، يبدو أنهم لم يكونوا يسهرون. لقد كانوا مصابين بشيء اسمه المقاومة يستغرق ليلهم ونهارهم. لهذا يتراءى لي أن أجيال يومنا تسهر الليالي التي لم تسهرها أجيال الأمس. إننا نسهر عنهم أيضاً”.

لكن هذا التوسع في القطاع السياحي قد لا يكون مأمون العواقب. فهو، وخصوصاً بسبب ما يستجلبه من سائحات إسرائيليات، بدأ يخلق بؤراً غاضبة يتشكل أغلبها من فقراء لم تنعكس عليهم عائدات الدورة المالية الجديدة. ويبدو أن حزب “هيهات منا الذلة” هو الذي يستثمر في هذه الحالة مراهناً على التحول من حزب صغير معزول إلى حزب جماهيري للمهمشين والفلاحين والحِرفيين ومن تبقى من طلبة الدين. وأخطر ما في الأمر أن شيخ الحزب وفقيهه السيد عبد الحسين بن علي بن عبد الحسن بن حسين بن محمد علي الموسوي الحسيني خطيب شديد التأثير وبالغ الكاريزمية، يقول مناصروه عنه إن أحداً لم ير سِنّه لأنه لم يضحك في حياته التي بلغت 98 عاماً، كما لم يدخل فمه أي شيء على الإطلاق ما عدا التمر واللبن. وبالفعل فقد توجهت لمشاهدته وهو يلقي خطاباً حماسياً ألهب فيه عواطف سامعيه من الشبان الفقراء، ورحت أتخيل أسنانه المتآكلة وهي تتحول إلى أنياب. لقد بدأ خطابه بالبكاء على “ضحايا آل البيت في التاريخ”، أي أقارب الرسول والخليفة علي بن أبي طالب، فأبكى سامعيه جميعاً.

وكان ما وجدته بالغ الغرابة أنه يتحدث عمن أسماهم ضحايا “في التاريخ” بوصفهم ضحايا في الحاضر، فيقتنع جمهوره الذي لا يهتم كثيراً بفوارق الأزمنة. وقد تراءى لي أن ذاك الجمهور مستعد للاقتناع بعكس هذا الكلام الذي قد يُبكيه أيضاً. وربما كان هذا الشيخ الوحيد هنا الذي يذكّر بماضي المقاومة التي وصفها خصمه الشيخ الشاب بعلم الآثار، وذلك حين كان “أجدادنا يقاتلون اليهود”. إلا أن أخطر ما في الخطاب وأكثر فقراته تجييشاً للعواطف كانت الفقرة التالية: “أترضون بأن تتجول بيننا، وبين حسينياتنا، نساء من تل أبيب وهن يلبسن الشورت؟ أترضون أن نعيش بين مصارف متكاثرة تمارس الربا، وكازينوات تمارس القمار، وأنواع لا حصر لها من المنكر؟ أترضون بأن تذهب النساء، المقلدات لنساء تل أبيب، إلى العمل ويتجولن في الطرقات، وأن تكون لهن آراء في ما هو من اختصاص الرجال؟”. ويمضي الخطيب: “تراثنا وتاريخنا المجيدان يُهانان. سيف الإمام علي يثبّتونه على العلم مصحوباً بشتلة تبغ، وبوابة فاطمة، وموقع مليتا الذي كان يؤمه السياح الجهاديون الإيرانيون في زمن أجدادنا، حين كان المؤمنون الصالحون يحكمون إيران، صارا مكانين للسهر، وأنتم تعرفون ماذا يعني السهر، والعياذ بالله”. وما إن انتهت تلك الفقرة حتى بدأ الصياح يتعالى: “الله أكبر… هيهات منّا الذلّة… لبّيك سيد عبد الحسين…”. 

وهذا مقلق حقاً، يزيد في إقلاقه أن بعض العائلات السياسية الكبرى غير مكترثة بتاتاً بما يجري، منشغلة بهمومها الخاصة عما قد يتهدد سلطتها في حال تنامي شعبية حزب “هيهات منا الذلة”. فعائلة بزي في بنت جبيل مثلاً منقسمة بين زعماء ثلاثة كل واحد منهم يزعم الحق الشرعي في تمثيل العائلة. وبدورها فعائلة الزين، مثل عائلة حيدر في البقاع، لا يهمها إلا إعادة توحيد نفسها، هي التي توزعت أجزاؤها بين قرى كفر رمان وشحور وجبشيت، لكنها منهمكة بالبحث عن عدو تتهمه بأنه وراء “تجزئة العائلة” كي تتوحد ضده. وفي الخيام، تتأهّب “كتائب آل العبد الله” في شرق البلدة للزحف على “فصائل آل العبد الله” في غربها. أما عائلة الأمين التي يكثر فيها رجال الدين فتخوض، تماماً على عكس عائلة الزين، حربها لتكريس انشطارها إلى فروع وقرى عدة. فالأمين في هذه القرية هو العدو المطلق للأمين في تلك القرية، وهي معركة يتجنّد فيها مشايخ العائلة بفتاوى التكفير والتكفير المضاد. ومؤخراً مع عودة السيد صدر الدين الأمين من النجف، تنافست فروع العائلة على استقباله والترحيب به، وراح كل منها يدعي علاقة خاصة ومميزة به، بحيث نجم عن المنافسة مقتل أربعة أشخاص وجرح أربعين إصابات بعضهم بليغة.

هؤلاء هم العقّال في جمهورية جبل عامل الشيعية، لكنْ فضلاً عنهم هناك المجانين، أو هذه هي التسمية التي يطلقها الجنوبيون على أفراد موزعين على القرى، يوصف كل واحد منهم بـ”مجنون القرية”، فمن هم هؤلاء؟

لقد تبيّن لي بعد التدقيق أنّهم كانوا أحفاداً لأجداد سبق أن انتسبوا إلى حزب سمى نفسه شيوعياً، ويبدو أن هذه الشيوعية كانت على شيء من القوة قبل قرابة تسعين سنة ثم راحت تذوي وتضمر إلى أن اضمحلت قبل ربع قرن. لكن الأحفاد هؤلاء مصرون، من قبيل الوفاء لأجدادهم، على تسمية أنفسهم بلوتاريين، وهم على الأرجح يقصدون بروليتاريين، أي منتسبين إلى الطبقة العاملة الصناعية التي لا وجود لها في جمهورية جبل عامل ولا في أي من الجمهوريات اللبنانية. وما يزيد سخرية السكان منهم واعتبارهم مجانين أنهم يقيمون مهرجانات لا يحضرها أحد سواهم لكنهم، مع هذا، يقولون فيها إنهم يمثلون “مستقبل البشرية التقدمية”. ومؤخراً روي عن أحدهم أنه دعا إلى “إنشاء سوفياتات تكون الأداة التنظيمية لسلطة الكادحين”، فتأكد السكان من أنه، كما وصفوه، “كادح عقلياً”، خصوصاً أن دعوته اقترنت بدعوة أخرى بدت للآخرين “أشد فداحة”، وهي “رفض كل تطبيع مع الإسرائيليين”.

ويبقى بين هموم الجمهورية ما يسمونه قضايا جيواستراتيجية، قاصدين العلاقة بمدينتي جزين وصيدا. ذاك أن سكان الجمهورية يعبرون بصراحة عن رغبتهم في ضم جزين المسيحية وصيدا السنية. والمعروف أن جزين لا تزال تنتظر بتّ العلاقات المسيحية الدرزية في جمهورية الجبل، كي تُضم أو لا تُضم إليها، وفي تلك الغضون قضى اتفاق الفجيرة بأن تمارس جمهورية جبل عامل نوعاً من الوصاية على جزين. أما إمارة صيدا المستقلة فواقعة عملياً تحت نفوذ جمهورية جبل عامل، ويبدو أن شباناً صيداويين بدأوا ينجذبون إلى “ألوية عمر بن الخطاب” الطرابلسية التي لا تخفي رغبتها في “تحرير صيدا من الاستعمار الشيعي غير المباشر”. فإذا اتجه الجنوبيون فعلاً إلى ضم صيدا وجزين، صح لنا أن نتوقع دماء كثيرة وخراباً ضخماً.

لكن عنصراً جديداً طرأ على هذه الخريطة من خارجها: إنه هجوم مئات الأشخاص الغاضبين على بيت المدعو روبرتو خريستو حسين في قرية جوَيا وإحراقه. وحين سألت عمن يكون روبرتو هذا، تجمّعت لديّ المعلومات الطريفة التالية: لقد وصل قبل شهر إلى قريته من مكان مجهول، وعرّف عن نفسه بأنه حفيد مهاجر من جويا إلى السنغال. ويبدو أن حسين الذي لا يتكلم العربية إلا بصعوبة بالغة، أقنع عشرات السكّان ببيعه كلّ ما يملكونه من أرض مقابل سهم للمشتري في مصنع أقامه في الولايات المتحدة. أما ما ينتجه هذا المصنع فتزويد كل مالك بجهاز ما أن يوضع في الجيب حتى يُكسب حامله مئة عام مضمونة تضاف إلى حياته. ولم ينس روبرتو أن يضيف أن في وسع التكنولوجيا الأميركية أن تفعل العجائب. لكنْ في فجر اليوم التالي، اختفى روبرتو وراح الشارون يستفهمون عن هذا المصنع الذي اكتشفوا أنه غير موجود أصلاً، وأن روبرتو لم يكن في مدينة ديترويت غير صاحب مطعم صغير يبيع الفراكة (وهي الصيغة الجنوبية من الكبة النية).

على أن إحراق البيت لم يعوّضهم أموالهم المنهوبة، وإن بعث الحياة في قناعتهم القديمة بأن الإنسان لا يقوى على تغيير ما يفعله الله. هؤلاء في أغلب الظن ستقودهم قلوبهم الحزينة وجيوبهم الفارغة إلى حزب “هيهات منا الذلة”.