fbpx

اللامساواة في الحصول على اللقاح تؤجج الشكوك والانقسامات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تخبرنا القاعدة التاريخية أن اللقاحات من هذا النوع تُمنح فوراً لأولئك المحظوظين بالعيش في أغنى بلدان العالم، بينما غالباً ما يعاني سكان العالم الآخرون لعقود قبل القضاء على أيّ مرض فتاك يلم بهم

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُعلِّق دول كثيرة آمالها على شركة “فايزر”، وذلك بعدما أعلنت الشركة العالمية لتصنيع الأدوية أن بضعة أشهر تفصلنا، ما لم تكن أسابيع، عن امتلاك أول لقاح آمن وفعال ضد “كوفيد-19”.

السبب وراء هذه الحماسة المبررة هو ذاك الافتراض الضمني أنه ما إن يتم التوصل إلى لقاح، سيصبح في إمكان الجميع الحصول عليه، وسيختفي الفايروس بالسرعة ذاتها تقريباً التي انتشر بها. لو حدث ذلك، فستكون هذه سابقة من نوعها.

تخبرنا القاعدة التاريخية أن اللقاحات من هذا النوع تُمنح فوراً لأولئك المحظوظين بالعيش في أغنى بلدان العالم، بينما غالباً ما يعاني سكان العالم الآخرون لعقود قبل القضاء على أيّ مرض فتاك يلم بهم، إذا تم القضاء عليه أصلاً.

يموت ملايين الأشخاص كل عام، ليس لأنه لا طريقة تحول دون إصابتهم، وإنما لأن اللقاحات الموجودة بالفعل لا تُصنع أو تُعطى لكل من يحتاجها

لنأخذ شلل الأطفال مثالاً على ذلك. شُخص المرض، الذي يؤدي إلى مضاعفات تشتمل على ضمور العضلات والشلل، للمرة الأولى في أواخر القرن الثامن عشر. وطُورت لقاحات في خمسينات القرن العشرين وستيناته، للقضاء على الفايروس في معظم الدول المتقدمة خلال عقدٍ أو ما يقارب ذلك. في حين لم يتم الإعلان عن خلو القارة الأفريقية من فايروس شلل الأطفال البري حتى آب/ أغسطس من هذا العام. ولا يزال الفايروس منتشراً في أفغانستان وباكستان. وتواجَه مبادرات الأمم المتحدة لاستئصال شلل الأطفال هناك بالرفض والمقاومة من مجموعات متشككة ترى أن هذه البرامج تهدف إلى المزيد من التدخل الغربي. 

لا يُعد شلل الأطفال حالة شاذة عن القاعدة. فقد أودى مرض السُّل بحياة 1.4 مليون شخص العام الماضي، وهو ما يتجاوز عدد الوفيات جراء فايروس “كورونا” حتى لحظة كتابة هذا المقال. وعلى رغم أن لقاح “بي سي جي” (عُصيات كالميت غيران) قد طوِّر قبل قرنٍ تقريباً، وقعت ملايين الوفيات التي كان يمكن تجنبها منذ ذلك الحين. لكن ببساطة لم يتوافر التمويل أو الإرادة السياسية اللازمة لتجنب تلك الوفيات من خلال حملات التلقيح الشامل.

ولا يقتصر الأمر على شلل الأطفال والسُّل فحسب. فعام 2018، أودت الحصبة بحياة حوالى 140 ألف شخص، معظمهم أطفال دون الخامسة. وعلى رغم توافر لقاح آمن وفعال للحصبة يحول دون وفاة الملايين كل عام، لا يتلقى طفل من بين 7 أطفال حول العالم اللقاح قبل أن يتم عامه الأول، وهو ما يجعلهم عرضة للإصابة بالمرض.

باختصار، يموت ملايين الأشخاص كل عام، ليس لأنه لا طريقة تحول دون إصابتهم، وإنما لأن اللقاحات الموجودة بالفعل لا تُصنع أو تُعطى لكل من يحتاجها. غالباً ما تُعيق هذه اللامساواة في الرعاية الصحية الدول النامية التي تعاني قطاعاتها الصحية بالفعل، وتخلق عالماً مأساوياً تسوده الانقسامات. ولهذا يجب ألا يكرر العالم الأخطاء ذاتها مع لقاح “كوفيد-19”.

اللقاحات من هذا النوع تُمنح فوراً لأولئك المحظوظين بالعيش في أغنى بلدان العالم، بينما غالباً ما يعاني سكان العالم الآخرون لعقود قبل القضاء على أيّ مرض فتاك يلم بهم

لكن ربما ستكون هذه المرة مختلفة، نظراً لشمولية أزمة “كوفيد-19″، وانتشار كاميرات الأخبار داخل وحدات العناية المركزة. ولا بد حقاً من ذلك. فهذا الفايروس ينتشر بسرعة أعلى من الأمراض المشابهة له، وأصبحت حركة تنقل الأشخاص حول العالم أكبر مما كانت عليه خلال فترات انتشار الأوبئة السابقة. وهذا يعني أن مناعة سلسلة انتقال العدوى العالمية بين البشر (أو عدم انتقال العدوى) باتت مرهونة بمناعة أضعف حلقة فيها. وإذا لم يتم القضاء على الفايروس إلى حدٍ كبير في جميع أنحاء العالم تقريباً، فمن المرجح أن تحدث موجات عدوى جديدة ومتكررة بين الفئات السكانية غير المحصنة (التي لم تحصل على اللقاح)، وحتى بين الفئات المحصنة في حال كان اللقاح فعالاً بنسبة 90 في المئة تقريباً، كما يقال عن لقاح “فايزر”. 

على حكومات الدول المتقدمة -من أجل صحة مواطنيها، ناهيك بصحة بقية البشر في جميع أنحاء العالم- أن تعمل من خلال المنظمات الحكومية الدولية كـ”منظمة الصحة العالمية” لوضع استراتيجية توزيع عالمية عادلة للقاح. لدينا بعض الأمل في إمكان حدوث ذلك، فقد أعلن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن الولايات المتحدة ستنضم مجدداً إلى “منظمة الصحة العالمية” في اليوم الأول من رئاسته (ويفترض كذلك أن تستأنف التزاماتها المتعلقة بتمويل المنظمة). وصرح بايدن أن انضمام الولايات المتحدة مجدداً إلى المنظمة سيُعيد “تأكيد ريادتنا على الساحة العالميّة”، في إشارة إلى أن العضوية في المنظمة بالنسبة إليه لا تتعلق بصحة الأميركيين فقط. 

في الوقت نفسه، أكد بايدن رغبته في أن يكون اللقاح متاحاً لجميع الأميركيين، حتى غير المشمولين في التغطية التأمينية. لكن سيظل من الضروري على الموزعين أن يحددوا الأولويات، وهو ما يرجح احتمال أن تبقى مجتمعات محلية كثيرة عرضة لخطر الإصابة بالفايروس لأشهر أو حتى سنوات. وما دام الرئيسي الأميركي الجديد منشغلاً بتوزيع اللقاح محلياً، فإن قدرته على دعم الاستراتيجية العالمية ستظل محدودة.

وهنا يبرز دور المنظمات الدولية الحكومية، التي تستطيع أن تركز على الواجب الإنساني المتمثل في الحفاظ على الحياة من دون الالتفات إلى التعقيدات السياسية. تتمتع المنظمات غير الربحية بالمهارات اللازمة لتوزيع اللقاح عالمياً: من قبيل تحديد من هم في أمس الحاجة إلى اللقاح، وتحديد الترتيبات اللوجستية، وتوفير الأشياء المطلوبة بطريقة فعالة من حيث التكلفة وعلى نطاق واسع. وقد أعلن البنك الدولي عن خطة مساعدات بقيمة 12 مليار دولار لتوفير لقاحات لملياري شخص في البلدان الفقيرة والنامية. ومن بين الدلائل الأخرى المبكرة على التعاون، اجتماع رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، المزمع مع بيل غيتس (الذي تبرع بأكثر من مليار دولار لأبحاث تطوير اللقاح) لمناقشة آلية الطرح المحتملة للقاح.

ما دام الرئيسي الأميركي الجديد منشغلاً بتوزيع اللقاح محلياً، فإن قدرته على دعم الاستراتيجية العالمية ستظل محدودة

لكن لا ينبغي على الحكومات أن تتعاقد ببساطة مع جهات خارجية لوضع سياسات المساعدات الخاصة باللقاح، حتى لو كانت هيئات خيرية حسنة النية. إذ إن مسؤولية تأمين اللقاح، عندما يجهز، لأكثر المجتمعات حرماناً في العالم  لا تقع على عاتق المواطنين العاديين، وإنما على زعماء العالم الذين عليهم الحيلولة دون تفاقم الفوارق الصحية، محلياً وعالمياً. إذا ما أصبحت الفوارق الاقتصادية والصحية أكثر ترسخاً بفعل اللقاح، فقد يؤدي ذلك إلى انعدام الثقة وتسجيل المزيد من الوفيات مع احتمال اندلاع اضطرابات أهلية أيضاً.

صحيح أنه من حق العالم أن يحتفل بالتوصل إلى هذا اللقاح، لكن ينبغي أن يحدث الاحتفال الحقيقي عندما يحصل كل فرد في العالم عليه، بغض النظر عن وضعه الاقتصادي.