fbpx

“لا أعرف ماذا أخبرك عن السجن” : نسرين ستودة والمعركة المستمرة مع نظام القمع الإيراني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تمكنت نسرين ستوده، على مدى عقدين من الزمن، من أن تكون المحامية الأكثر إزعاجا للسلطات الأمنية والقضائية على صعيد محلي، والأكثر إحراجا للسلطة السياسية لبلادها على صعيد عالمي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ثلاثة مشاهد، تشكل بطاقة تعريف بالمناضلة الإيرانية المحامية نسرين ستوده: 

انتصارها الهادئ على سجانها، بانتزاع حق “الإفراج الموقت”، منذ أيام، وخروجها من سجن قرجك، الذي أودعت فيه، في حزيران/يونيو 2018، لتنفيذ أحكام سجن تتجاوز مددها 38 عاما.

حديثها مع سائق التاكسي في نهاية المشهد، الذي ظهرت فيه، في فيلم “تاكسي” للمخرج الإيراني جعفر بناهي: “ليعلموا أننا نعرف أنهم يراقبوننا، خططهم واضحة، يفبركون لك ملفا سياسيا، لتصبح هدفا للاستخبارات، ثم يلفقون فضيحة جنسية، فيحولون حياتك إلى سجن كبير، بعدما تكون قد خرجت من السجن الصغير، يجعلون أقرب أصدقائك ألدّ أعدائك، ويجبرونك على الهروب خارج البلاد”.


رسالتها إلى طفلها نيما، التي كتبتها على مناديل ورقية، حين كانت تمضي عقوبة في سجن إوين: “لا أعرف ماذا أخبرك عن السجن والاعتقال، شيء صعب على طفل بريء مثلك، أن يستوعب معنى المحاكمة والظلم والرقابة والقمع، ونقيضه الحرية والعدالة والمساواة، صعب أيضا، أن أشرح أن العودة إلى المنزل ليست مسألة اختيارية، وأنني لست حرة، وليس لي الحق برؤيتك ولو لساعة واحدة فقط”.

ابتسامتها الوادعة وهي تخطو خارج أسوار سجن قرجك، برفقة زوجها رضا خندان، وصوتها الذي ينم عن ثقة وجرأة وهي جالسة في التاكسي، تعري أساليب النظام الترهيبية لإسكات المعارضين، وطريقتها في إفهام طفلها أن فقدان بلادها الحرية يمنعها من رؤيته، اجتمعت معاً، لتجعلها الإمرأة الأكثر شجاعة في إيران في العشرين سنة الأخيرة، كما يصفها كثر من شعبها، فقد تمكنت نسرين ستوده، على مدى عقدين من الزمن، من أن تكون المحامية الأكثر إزعاجا للسلطات الأمنية والقضائية على صعيد محلي، والأكثر إحراجا للسلطة السياسية لبلادها على صعيد عالمي، حيث فضحت التجاوزات التي تتعلق بحقوق الإنسان في السجون الإيرانية، ونظمت حملات للمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ولجمع مليون توقيع للمساواة بين الرجل والمرأة، وتبنت قضايا أطفال ونساء وسجناء رأي، ورافعت عنهم من دون أن تعرفهم، وتفرغت للدفاع عن كل المضطهدين والمقهورين والمستلبين من أبناء شعبها، على حساب عائلتها وأمنها وأمانها وصحتها ومهنتها وحريتها، فاقترن اسمها باسم كل قضايا الحريات والعدالة وحق الحياة في إيران.

ستودة تواجه النظام

بدأت ستوده عملها في مجال حقوق الإنسان في بداية التسعينيات، بصفة ناشطة، نتيجة حرمانها من حق ممارسة مهنة المحاماة، وتقلبت في وظائف مختلفة، ومع مطلع الألفية، حصلت على إذن المزاولة، وسرعان ما صار اسمها يتردد في وسائل الإعلام، وفي كواليس أجهزة الاستخبارات، بعدما بدأت تنبش قضايا قانونية وحقوقية، ذات حساسية أمنية، مما عرضها لضغوط وتهديدات من قبل رجال أمن وقضاة، أدت إلى دخولها السجن أكثر من مرة.

أولى مواجهاتها مع السلطة القضائية، كانت يوم وقوفها بوجه حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة “كيهان” الناطقة باسم المتشددين، ممثلة موكلتها وزميلتها المحامية نسرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، على خلفية اتهام الصحيفة لعبادي، بتقاضي مبالغ مالية من الولايات المتحدة الأميركية، من أجل التخريب على النظام الإسلامي، يومها تحول شريعتمداري إلى مادة للسخرية لدى الرأي العام، بعدما ادعى أن عبادي تقاضت من الأميركيين 15 ألف يورو ثمنا لعمالتها، فصححت له ستوده بكل برودة أعصاب، أن الدولار هو العملة الأميركية وليس اليورو، انتهت هذه القضية بانتصار المتشددين بالطبع، ونفي عبادي وبدء ستوده برحلة المتاعب مع أجهزة الأمن.  

في العام 2009، أطلق النظام الإيراني، أوسع حملة اعتقالات شملت صحافيين وناشطين سياسيين وشبابا من الجنسين، عقب الانتفاضة التي شهدتها إيران ضد تنصيب محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية بقوة التزوير، والتي عرفت ب”الثورة الخضراء”، فقررت ستوده مواجهة النظام مرة أخرى، فحصلت على توكيلات بالجملة للدفاع عن عدد من المعتقلين، من بينهم الصحافي والناشط السياسي المعروف عيسى سحرخيز، لكن بعد أقل من سنة، تحولت ستوده نفسها، إلى معتقلة، حيث دهمت منزلها قوة من الاستخبارات واقتادتها إلى سجن إوين السيئ الصيت، وبعد محاكمة شكلية حكم عليها بالسجن 12 سنة، بتهمة الدعاية ضد النظام والعمل ضد الأمن القومي، تم تخفيفها إلى 6 سنوات، تحت ضغط الأمم المتحدة، مع منع مزاولة مهنة ومنع سفر لمدة 10 سنوات، وتعرضت خلال فترة اعتقالها للتعذيب وسوء المعاملة والحبس الإنفرادي، وبعدما أمضت 3 سنوات و12 يوما من محكوميتها، أعلنت إضرابا مفتوحا عن الطعام استمر 49 يوما، مما شكل ضغطا سياسيا وحقوقيا هائلا، على الرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني، الذي كان يتأهب للمشاركة في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فأطلق سراحها في سبتمبر/أيلول 2013.

ذاع صيت ستوده، في إيران وخارجها، بسبب تبنيها قضايا مسكوت عنها في إيران، مثل الدفاع عن السجناء المحكوم عليهم بالاعدام في جرائم ارتكبوها قبل سن الرشد، فالسلطات الإيرانية تستبقي القصّر في السجون، حتى سن بلوغهم، ليتسنى لها إعادة محاكمتهم كراشدين، ثم تقوم بإعدامهم، كذلك الدفاع عن الزوجات والأطفال الذين يتعرضون للعنف داخل الأسرة، وهي لم تتعب حتى اليوم من مطالبة الحكومة بأن توفر في المحاكم مختصين نفسيين، لمساعدة ضحايا العنف الأسري والاعتداءات الجنسية، على الإدلاء من دون خوف بإفاداتهم، كما كانت أحد مؤسسي مركز الدفاع عن حقوق الإنسان في إيران، ولجنة حقوق الطفل، وحملة جمع مليون توقيع لفرض المساواة بين الجنسين.

مرة أخرى، في حزيران/يونيو 2018، دهمت قوة استخباراتية منزلها واعتقلتها وقادتها إلى سجن قرجك هذه المرة، لاتهامات تتعلق بالتجسس ونشر الدعاية ضد النظام الإسلامي وازدراء التعاليم الدينية وإهانة المرشد الأعلى لإيران السيد علي خامنئي.

كان هذا مضمون الملف المفبرك، أما الحقيقة ففي مكان آخر، فلقد تم اعتقال ستوده في هذا التاريخ، بسبب توليها الدفاع عن “فتيات شارع الثورة”، أي الفتيات اللواتي شاركن في سلسلة الاحتجاجات ضد إلزامية الحجاب، التي شهدها عدد من المدن الإيرانية في العام 2017، وما لبثت أن أصدرت محكمة الثورة في طهران، بحقها، حكما بالسجن لمدة 38 سنة، مع تنفيذ 148 جلدة.

يقول عنها من يعرفها إنها شخصية متفائلة، متواضعة، خجولة، ومؤمنة بمستقبل أفضل لأطفال إيران وحقوق أكثر لنسائها

أمضت ستوده أقل من ثلاث سنوات من مدة محكوميتها، في ظروف غير إنسانية، منعت خلالها من حق الوصول إلى المستشفى بعد إصابتها بأزمة قلبية، ومن التواصل مع عائلتها هاتفيا، وقبل ستة أسابيع من خروجها الموقت، نفذت إضرابا عن الطعام، أدى إلى تدهور حالتها الصحية، وضاعف من خطر التقاطها فايروس كورونا، الذي ينتشر بكثافة في السجون الإيرانية، في المقابل، كان ناشطون وصحافيون إضافة إلى زوجها، يعملون على أكثر من جبهة، لتشكيل قوة ضغط محلية ودولية، للضغط على السلطات القضائية الإيرانية، من أجل الوصول بقضيتها إلى محاكمة عادلة.

كرست ستوده حياتها للدفاع عن حرية شعبها وحقوقه المدنية والإنسانية، لم تر ظلما لحق بامرأة أو طفل، إلا ولحقته حتى نالت منه، فنالها وعائلتها الكثير من الانتقام من رجال النظام، فظلت ابنتها مهراوه من عمر 12 عاما حتى 20 عاما ممنوعة من السفر، كما أغلقت السلطات مركز حقوق الإنسان التي أسسته وشيرين عبادي بالكامل، وبسبب منعها من السفر، لم يتسن لها تسلم جائزة “سخاروف” لحرية الفكر، وحين احتفلت بها بلدية باريس باعتبارها “مواطنة فرنسية شرفية”، ورفعت نقابة المحامين الفرنسيين جدارية ضخمة لها، كانت مرمية في ظلام زنزانتها الانفرادية.

يقول عنها من يعرفها إنها شخصية متفائلة، متواضعة، خجولة، ومؤمنة بمستقبل أفضل لأطفال إيران وحقوق أكثر لنسائها، قريبا، ويتحدثون عن دهشتها حين يهتم الإعلام العالمي بأخبارها وارتباكها حين تتبلغ بفوزها بجائزة دولية.