fbpx

لبنان: لاجئون هاربون بعد جريمة بشري… “لم نعد نملك شيئاً”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“يستخدم العقاب الجماعي في أرضية مجهّزة له فتكون الحادثة فرصة لتفجير هذه التصرفات على خلفية خطابات سياسية ينتهجها سياسيون ووسائل إعلام لتعزيز هذه الكراهية ضد اللاجئين”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“من سنتين ضربوني أنا وكل عائلتي بعد جريمة صارت بمنطقة مزيارة، واليوم رجع تكرر المشهد، ضربوني وكسرولنا أغراضنا، نحنا شو ذنبنا. نحنا ما منعرف القاتل ولا منعرف أي شي عنه”، يقول ابراهيم الأطرش (40 سنة) أحد اللاجئين السوريين في منطقة بشري اللبنانية، بعد اعتداءات التي تعرّض لها لاجئون في المنطقة إثر مقتل الشاب جوزيف طوق، أحد أبناء البلدة على يد شاب سوري.

يفترش ابراهيم وعائلته الأرض أمام مركز مفوضية الأمم المتحدة في طرابلس، بعدما أمضوا أكثر من ليلة في العراء، بانتظار أن تؤمن لهم المفوضية مكاناً يأويهم عوضاً عن ذلك الذي باتوا يخافون العودة إليه لما تعرضوا له من اعتداء وتنكيل.

انتقام جماعيّ

بعد مقتل جوزيف طوق في بشري، اجتاحت البلدة موجة غضب تحولت الى هجمة شرسة جماعية ضد مّن لا علاقة لهم في الجريمة، فعمد مجموعة شبان غاضبين الى الاعتداء على منازل للاجئين سوريين يقطنون في البلدة، واعتدي بالضرب على عدد منهم، واضطر كثيرون إلى المغادرة خوفاً من التنكيل بهم.

في التفاصيل، أقدم المتهم م.ح. وهو من التبعية السورية على إطلاق النار على مشغله جوزيف طوق، وكان الأول يعمل ناطوراً لدى الآخر، إثر  إشكال فردي بينهما ما أدى إلى مقتله وقد عمد القاتل إلى تسليم نفسه إلى قوى الأمن الداخلي. بعد شيوع الخبر نفذ أهالٍ غاضبون في بلدة بشري تجمعاً حاشداً حول مبنى السراي في المنطقة، احتجاجاً على الحادثة، وقام عددٌ من شبان البلدة بإحراق منازل يقيم فيها سوريون مع الاعتداء عليهم، وفق لاجئين تحدّث إليهم “درج”. إثر ذلك توجه أكثر من 350 لاجئاً إلى طرابلس، ليبيتوا ليلتهم في الحدائق العامة أو الطرق.

فيصل حمدون يروي ما حصل معه في بشري

اقتحامات بصفة أمنية

في تلك الليلة، كان ابراهيم مستلقياً إلى جانب طفله جمعة البالغ من العمر سنتين، حين قرع الباب، وانتحل الطارق صفة أمنية معرفاً عن نفسه بـ”الأمن”. على الفور فتح ابراهيم الباب لتنهال عليه الضربات والركلات والشتائم، من دون أن يحصل على توضيح أو تفسير. “كانت وجوههم معروفة، أراهم مذ جئت من إدلب عام 2011، إنهم من المنطقة”.

كل  ذلك حصل أمام الأطفال الخمسة والزوجة التي ألقت بنفسها على جسد زوجها الذي كان بدوره يغطي طفله الصغير خوفاً من أن يتعرض لأي أذى. “زوجتي ضُربت على رأسها أكثر من مرة، قبل أن يتشاجر المعتدون ويتجادلوا حول مسألة ضرب امرأة ويغادروا”.

في الغرفة أيضاً كانت فاطمة وعبير ابنتا ابراهيم اللتان تخضعان لعلاج نفسي مستمر مذ اعتدي عليهما مع عائلتيهما، قبل عامين إثر وقوع جريمة مماثلة في بلدة مزيارة المجاورة. اليوم تعيشان الحادثة مجدداً وسط وضع نفسي يزداد سوءاً  كل لحظة، ولا يعرف الأب المصاب بكتفه وظهره، ما قد يفعله لمساعدتهما، هو الذي فقد كل ممتلكاته في منزله في بشري، وفقد كل ما يملك في سوريا حين غادر مدينة إدلب.

لاجئون يعرضون اثار الضرب الذي تعرضوا له في بشري

ليلة في الخوف وأخرى في العراء

“أمضينا الليل ونحن ننزف، لم نجد من يضمّد جراحنا. جلست وزوجتي وأولادي الثمانية على عفشنا (الأثاث) المحطم المبلل بالمازوت. وفي اليوم التالي خرجنا هاربين من بشري”، يقول فيصل حمدون وهو لاجئ آخر تعرض للاعتداء.

لم يستطع أفراد عائلة فيصل مغادرة بشري في الليلة ذاتها، لم يجرؤ أحد على نقلهم إلى خارجها. في اليوم التالي، ساعدهم جارهم اللبناني، وأوصلهم إلى طرابلس. وعلى رغم إصابة الأب والابن، إلا أنهما لم يتلقيا أي مساعدة لتضميد جراحهما كما يقولان، “مستشفى بشري رفض اسقبالنا، حتى الصليب الأحمر خاف أن يأتي بسبب الحواجز. في طرابلس هنا تلقينا العلاج”.

لم يقرع أحد باب العائلة، كُسر واقتُحم على الفور، وفي لحظة كان الرجل الأربعيني يُضرب أمام أعين اطفاله، ويتوسل الرحمة من المعتدين الذين لم  يسمعوا صوت البكاء والتوسل، كان صوت اللكمات والشتائم أعلى.

يجلس أفراد العائلة  قرب المفوضية بانتظار صديق ليقلّهم إلى منزله، إلى أن تؤمن المفوضية منزلاً جديداً كما وعدتهم- إلى جانب فيصل يجلس نجله  نيهاد (20 سنة) الذي ضُرب حتى فقد وعيه، “ضربوه على رأسه، قطبناه الآن، وحين حاول الهرب، أطلق أحدهم النار عليه، لكن الحمد لله، لم تصبه أيٌّ من الطلقات الثلاث. أغمي عليه من الضربة التي تلقاها على رأسه بعصا حديد”. قبل أن يغادر المعتدون أفرغ أحدهم قارورة مازوت على الفراش في غرفة الجلوس، ثم أشعل منديلاً ورماه أرضاً، وسط صراخ الأطفال والزوجة التي سارعت وأطفأت المنديل المشتعل فنجوا بأعجوبة. “أغراضنا تكسّرت كلها، ولا نملك مالاً، هربنا لننجو بأرواحنا”، يختم فيصل.

نهاد حمدون

الدولة المسؤولة الأولى

جريمة فردية ارتكبها شاب سوري، وهي جريمة تستدعي بلا شك المحاسبة والمحاكمة واحقاق الحق للضحية وعائلته المفجوعة، لكن المشكلة ان جريمة فرد تحولت إلى عقاب جماعي لكل من يحمل الجنسية ذاتها. وهذه ليست المرة الأولى التي تقع فيها حالات استهداف جماعي للاجئين سوريين في ظل خطاب كراهية وتخويف من اللاجئين تمارس فئة واسعة من الطبقة السياسية، بحيث يجري الهرب من الفشل والفساد بالقاء اللوم على اللاجئين وتحميلهم مسؤولية انهيار  ا لوضع في لبنان. 

مازاد من سوء الوضع البيانات التي صدرت عن نواب المنطقة التابعين لحزب القوات اللبنانية وعن البلدية والتي دعت الى تفتيش منازل اللاجئين السوريين بل ودعت إلى اتخاذ قرار “تاريخي وجريء” في تغيير وجه العمالة في القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية وعدم تأجير أي شخص غريب، من دون التأكد من أوراقه الثبوتية.هذا الموقف يحمل تبنياً لفكرة أن أي لاجئ هو مسلح بالضرورة أو أنه موصوم بالعنف.

عملية الاستهداف في بشري، جعلت العنصرية تتمظهر بشكل جلي، فيما خفت وهج الجريمة الأولى على رغم بشاعتها، إذ تلتها جريمة ثانية رداً عليها، جاءت انتقاماً من أطفال وآباء أبرياء، بما يحيل إلى المنطق القبلي في حل المشكلات، بمعزل عن الدولة والقانون والقضاء.

الباحث في السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت والمشرف على مرصد الأزمة في الجامعة ناصر ياسين، يقول لـ”درج” في هذا الإطار: “يستخدم العقاب الجماعي في أرضية مجهّزة له فتكون الحادثة فرصة لتفجير هذه التصرفات على خلفية خطابات سياسية ينتهجها سياسيون ووسائل إعلام لتعزيز هذا الحقد ضد اللاجئين”. ووفق تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش”، فإن السلطات اللبنانية فشلت في اتخاذ الخطوات المناسبة لمنع العنف المتصاعد ومحاكمة المسؤولين عنه من مواطنين (لبنانيين عاديين) ضد اللاجئين. 

ويستضيف لبنان حوالى مليون ونصف المليون لاجئ سوري، 73 في المئة منهم لا يملكون وضعاً قانونياً، كما رحلت السلطات أكثر من 2500 لاجئ، وفق “هيومن رايتس ووتش”. ومنذ بدء توافد اللاجئين السوريين إلى لبنان لم تنتهج الدولة اللبنانية سياسة استيعاب تنظّم الحقوق والواجبات وأماكن الاستضافة، والعلاقة مع البيئة الحاضنة، ما جعل اللاجئين عرضة للاعتداءات والترهيب والإهمال. 

سحر مندور الباحثة في شؤون لبنان في “منظمة العفو الدولية” ترى أن “الدولة لم تعتمد خطة لتنظيم وجود مئات آلاف اللاجئين على أراضيها، في المقابل أرخت السلطة المركزية الحبل للبلديات التي صارت أحياناً كثيرة  تتعامل مع واقع اللجوء بالشكل الذي تراه مناسباً، لذلك نجد تفاوتاً بطريقة تعامل البلديات مع اللاجئين. وكل ذلك ضمن مناخ سياسي لم يتوان يوماً عن استخدام اللاجئين السوريين “كبش محرقة” لأي مصيبة تقع في لبنان”. وتضيف مندور: “لطالما ساهمت وسائل إعلامية وخطابات سياسية كثيرة في تحفيز هذه الأفكار لدى بعض اللبنانيين”. 

في الفترة الأخيرة ومع انتشار وباء “كورونا” ازداد التشدد في إجراءات الحظر ومنع التجوّل في بعض البلديات حين يتعلق الأمر بلاجئين سوريين، بما يخالف القانون وحتى الإجراءات التي فرضتها الحكومة. وترى مندور  أن “على الدولة العمل على بناء آليات صحية لسلوك البيئة الحاضنة والمضيفة للاجئين، الذين يعود بعضهم إلى سوريا ليس لأنها أكثر أماناً، بل بسبب تفاقم المعاناة في لبنان”.

عملية الاستهداف في بشري، جعلت العنصرية تتمظهر بشكل جلي، فيما خفت وهج الجريمة الأولى على رغم بشاعتها، إذ تلتها جريمة ثانية رداً عليها، جاءت انتقاماً من أطفال وآباء أبرياء، بما يحيل إلى المنطق القبلي في حل المشكلات، بمعزل عن الدولة والقانون والقضاء. وهو مشهد يتكرر بشكل جلي، إذ يستسهل البعض استضعاف اللاجئ وزيادة آلامه وتحميله مسؤولية كل شيء.