fbpx

السلطات اللبنانيّة تلاحق نشطاء السوشل ميديا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُقال إن لبنان “بلد الحريات”، لكن السلطة السياسيّة والدينيّة والقضائيّة والجهات الأمنيّة تستخدم بكثرة خلال السنوات الأخيرة، هذه القوانين للتضييق على حرية الرأي والتعبير…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
  • هذا التحقيق أنجز بدعم من شبكة أريج للصحافة الاستقصائية

“لا أملك المال ولست تابعة لجهة سياسيّة، لكننا مهمون لدرجة أنّ رأينا يؤثر بأصحاب السلطة والعسكر. كل منّا قضيّة بحدّ ذاته”.

هكذا تختصر الناشطة اللبنانيّة هنادي جرجس رحلة توقيفها بسبب منشور لها على “السوشيل ميديا”، انتقدت فيه رئيس الجمهوريّة ميشال عون عام 2017. 

على رغم حماية الدستور اللبناني (المادة 13) حرية الرأي والتعبير “قولاً وكتابة” بشكل صريح، وعلى رغم مصادقة لبنان على مواثيق دوليّة تكفل هذه الحرية، ومنها “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” و”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“، إلا أنّ التعبير عن الرأي السياسي أو الديني أو الاقتصادي، أو الحديث عن فساد المسؤولين وسوء استخدام السلطة على مواقع التواصل الاجتماعي، هو “جريمة” يُعاقب عليها وفقاً لقوانين قدح وذم وتحقير وتشهير ، يعود بعضها إلى الحقبة العثمانيّة وفترة الانتداب الفرنسي، وتؤدي أحكامها إلى السجن حتى 3 سنوات.

يُقال إن لبنان “بلد الحريات”، لكن السلطة السياسيّة والدينيّة والقضائيّة والجهات الأمنيّة تستخدم بكثرة خلال السنوات الأخيرة، هذه القوانين للتضييق على حرية الرأي والتعبير، في ظل عدم وجود قانون يحمي النشطاء وحرية الرأي على الانترنت. من خلال رصد مواقع المنظمات الحقوقيّة في لبنان والتواصل مباشرة مع الحالات، توصلنا إلى 140 حالة رُفعت عليهم دعاوى قضائيّة أو تعرضوا للتوقيف والتحقيق، بسبب التعبير السلمي عن رأيهم في منشورات على السوشيل ميديا، بمعدل حالتين كل شهر، في أكثر فترة حرجة من تاريخ لبنان الحديث، بين عامي 2015 الذي شهد حراكاً شعبياً أطلقته أزمة النفايات، و2020 الذي عانى خلاله لبنان من أزمة اقتصاديّة وماليّة حادة، ترافقت مع حملات اعتراضيّة واسعة ضد السلطات القائمة.

140

حالة رُفعت عليهم دعاوى قضائيّة أو تعرضوا للتوقيف

بحسب البيانات التي قمنا بجمعها وتوثيقها عبر مصادر عدة منها مركز “سكايز” للحريات، مرصد “محال” ومؤسسة “مهارات”… ارتفع معدل استدعاء اللبنانيين بسبب منشوراتهم من 6 في المئة (8 حالات) عام 2015، إلى 34 في المئة عام 2019، إذ اُستدعي 48 شخصاً للتحقيق، في عام شهد انطلاق الاحتجاجات ضد تدهور الوضع الاقتصادي وفساد السلطة. ثمّ انخفضت النسبة إلى 23 في المئة حتى أيلول/ سبتمبر 2020 (32 حالة)، وهو العام الذي تفاقمت فيه الأزمة تزامناً مع تفشي فايروس “كورونا”. إلا أن النسبة كانت أعلى بـ6 في المئة من عام 2018 الذي شهد انتخابات نيابيّة بعد انقطاع تسع سنوات بسبب التمديد للمجلس النيابي ثلاث مرات.

وبحسب بيانات موقع Global Stats، احتلت منصة “فيسبوك” المرتبة الأولى من اهتمام واستخدام اللبنانيين بنسبة 74.71% حتى أكتوبر 2020، يليها “تويتر” بنسبة 5.71% ثمّ “انستغرام” بنسبة 1.89% فقط. ووفق “فيسبوك” تقدم لبنان بين عامي 2015 و2020 بـ51 طلباً إلى الشركة للاستفسار عن حسابات على منصتها.

“ممنوع” انتقاد الرئيس والسلطة السياسيّة في لبنان

أكثر من نصف الأشخاص الذين قابلناهم، استدعوا للتحقيق بسبب منشورات تعبّر عن رأيهم السياسي أو تنتقد سياسيين، من أبرزهم الرئيس ميشال عون ووزير الخارجية الأسبق جبران باسيل ورئيس “حزب القوّات” سمير جعجع ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي ووزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق وعدد من نواب البرلمان. فيما ادُعي على 15 في المئة بسبب منشورات تعبّر عن رأي أو سخرية دينيّة، يليها 8 في المئة تمّ التحقيق معهم بسبب منشورات تنتقد جهة أمنيّة و7 في المئة بسبب امتعاضهم من الواقع الاقتصادي. 

اللافت أنّ 17 شخصاً تمّ استدعاؤهم أكثر من مرّة للتحقيق خلال السنوات الخمس الأخيرة، بمجموع 37 مرة، 25 منها كانت بسبب تعبيرهم عن رأيهم السياسي. 

تنوعت كثيراً التهم الموجهة إلى الحالات الـ140، كان أبرزها: القدح والذم بنسبة 49 في المئة، تحقير رئيس الدولة بنسبة 14 في المئة، وإثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة وتحقير الشعائر الدينيّة بنسبة 13 في المئة. في هذا السياق، يعتبر المحامي جاد طعمة، أحد المحامين اللبنانيين الذين يتابعون قضايا مماثلة، أنّ الإدعاء على الناشطين بسبب منشورات لهم “هو بطبيعة الحال سوء استخدام مواد في قانون العقوبات اللبناني”. 

بعض الحالات اللافتة

32 في المئة من الذين تمّ الادعاء عليهم من قبل جهات وشخصيّات سياسيّة، بينما حرّك القضاء نسبة 19 في المئة من الادعاءات، واستحوذت الجهات الأمنيّة على 11 في المئة منها. كما شكلت الجهات الدينيّة 10 في المئة والاقتصاديّة 9 في المئة من إجمالي انتهاكات حرية الرأي والتعبير على السوشيل ميديا. 

احتلت الجهات السياسيّة المرتبة الأولى من الجهات المدعيّة على النشطاء والصحافيين والمواطنين خلال عامي 2019 (بنسبة 29 في المئة) و2020 (بنسبة 50 في المئة)، وهو ما انعكس على أرض الواقع من خلال ارتفاع وتيرة الاحتجاجات وتحميل الحراك اللبناني خلال العامين الأخيرين، مسؤوليّة الانهيار الاقتصادي والفساد، للسلطة السياسيّة الحاكمة. 

25 حالة من أصل 140، ادعت عليها جهات وشخصيّات تابعة أو مقربة من “التيار الوطني الحرّ”، بينها 10 رفعها وزير الخارجية الأسبق وصهر رئيس الجمهورية الحالي، جبران باسيل. للمفارقة كان باسيل اعتبر في تغريدة له على “تويتر” عام 2013 أنّ “اعتقال الناس بسبب تغريداتهم أمر شائن”.

ومن الجدير بالذكر، أنّ النائب العام التمييزي غسان عويدات، كلّف بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2020، قسم المباحث الجنائيّة المركزيّة “مباشرة التحقيقات، لمعرفة هوية الأشخاص الذين عمدوا إلى نشر تدوينات وصور تطاول مقام رئاسة الجمهورية، بجرم القدح والذم والتحقير”، ما يمنح رئيس الجمهورية حمايةً إضافيّة من التعرض للنقد أيّاً كان شكله. 

يؤكد المحامي طعمة في هذا الإطار، أنّ “كل أداء سياسي قد يكون خاضعاً للانتقاد، ولا يمكن أن تكون هناك حصانة لشخص معيّن، وأن لا نستطيع انتقاده وإن كان مخطئاً”، مشدداً على ضرورة “تعديل المواد القانونيّة التي تعاقب على انتقاد الرئيس”.

ورفض مكتب الإعلام في رئاسة الجمهوريّة بتاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، الإجابة عن استفساراتنا، متذرعاً بأنّ الرئيس عون “لا يعطي مقابلات حالياً قبل تشكيل الحكومة”، التي لم تتشكل منذ استقالة حكومة حسان دياب في 10 آب/ أغسطس الماضي!

تحقيقات أمام الأجهزة الأمنيّة ومحاكمات أمام القضاء العسكريّ

حقق مكتب “مكافحة جرائم المعلوماتيّة” التابع لقوى الأمن الداخلي في 64 حالة (46 في المئة)، فيما حققت جهات أمنيّة مختلفة (من بينها فرع المعلومات ومخابرات الجيش وأمن الدولة والأمن العام) في 59 حالة (42 في المئة)، والقضاء العدلي ومحكمة المطبوعات في 17 حالة (12 في المئة). 

بهدف “مكافحة الجريمة الإلكترونيّة وتعزيز الأمن عبر الإنترنت”، أنشئ مكتب “مكافحة جرائم المعلوماتيّة والملكيّة الفكريّة”، بموجب مذكرة خدمة صادرة عن المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي عام 2006. ورفضت المديريّة إعطاءنا أي بيانات عن القضايا التي حقق فيها المكتب بين عامي 2015 و2020، وذلك استناداً إلى طلب حق الحصول على المعلومات الذي قدمته “أريج”، مبررةً أنّ هذه القضايا “تتعلّق بتحقيقات أجرتها الضابطة العدليّة وهي ملك القضاء المختص، وبالتالي فإن الاستحصال على المعلومات يكون من القضاء نفسه”. 

تشمل مهمات المكتب “مكافحة صناعة وتجارة الأقراص المدمجة غير الشرعية، حماية الإنتاج الفكري الأدبي، الفني، والموسيقي، التصدي لجرائم الحاسوب على اختلافها، لا سيما منها جرائم الاتجار بالأطفال والبغاء وغيرها، والتصدي لجرائم القرصنة عبر شبكة الانترنت واختراق النظم المعلوماتيّة وسرقة الملفات وبث وإعداد الفيروسات”، ولم يكن الهدف منه بحسب طعمة، استدعاء الأشخاص الذين يعبرون عن رأيهم على مواقع التواصل، لسبب وصفه بـ”التافه”. 

وبحسب ما وثق التحقيق، ليس مكتب “مكافحة جرائم المعلوماتيّة” وحده من يحقق في هذه القضايا، إذ يبرز بشكل جليّ تدخل الأجهزة الأمنيّة في قضايا الرأي والتعبير. إذ استدعت وحققت مخابرات الجيش والمديريّة العامة لأمن الدولة في 12 تهمة تتعلق بـ”تحقير رئيس الدولة”، فيما حقق مكتب جرائم المعلوماتيّة في 9 تهم مشابهة. يؤكد مدعي عام التمييز الأسبق القاضي حاتم ماضي، أنّ الأجهزة الأمنيّة لا تتحرك بمفردها، بل بإذن قضائي قبل استدعاء شخص للتحقيق “فالشكوى تُقدم أولاً عند المدعي العام، إمّا يحقق بها شخصياً أو يرسلها إلى جهاز معيّن”، مشيراً إلى أنّ الأجهزة الأمنيّة هي “ضابطة عدليّة وموكلة بالتحقيق بحسب مضمون المنشور إذا كانت له علاقة بالتجسس مثلاً أو بسلامة وأمن الدولة”.

  في ما يتعلق بمخابرات الجيش، يشير المحامي طعمة إلى أنّها “ليست من عداد الضابطة العدليّة، ولا سلطة لها على المدنيين، وبالتالي التحقيقات أمامها غير قانونيّة”، مبرزاً أنّ “عليها أن تدخر جهدها لملاحقة من يسيء للأمن القومي أو يتعامل مع العدو، وليس النشطاء ومنشوراتهم”. وبالفعل، لم يحدد قانون أصول المحاكمات الجزائيّة في المادة 38 منه، مخابرات الجيش على أنها “من أشخاص الضابطة العدليّة”. وحول تحقيق مخابرات الجيش مع نشطاء بسبب منشورات تنتقد رئيس الجمهوريّة، يوضح المدعي العام الأسبق أن ذلك “يحصل أحياناً، إن كان المنشور فيه بُعد أمني، وذلك حسبما يرتئي المدعي العام”. 

هل تشكل منشورات النشطاء تهديداً للأمن في لبنان حتى تلاحقهم الأجهزة الأمنيّة؟.. يؤكد طعمة أنّ “كل ملاحقة لإنسان نتيجة إبداء رأيه الحر المسؤول على مواقع التواصل، تلحق الأذى بسمعة لبنان وبسمعة الأجهزة الأمنيّة الموجودة لحماية المواطنين”، مشيراً إلى أنّ هذه الملاحقات “يجب أن تكون أمام القضاء المختص، وليس من خلال إساءات وضغط معنوي تمارسه الأجهزة الأمنيّة”. 

خضع 14 في المئة من المُدعى عليهم للقضاء العسكري بسبب منشورات

بموجب المادة 157 من قانون “القضاء العسكري“، يُحاكم المدنيون الذي يُزعم قيامهم بـ”تحقير العلم أو الجيش أو المسّ بكرامته وسمعته، والإقدام على ما من شأنه أن يضعف النظام العسكري أو الطاعة للرؤساء والاحترام لهم”. وبحسب البيانات التي توصل إليها التحقيق، خضع 14 في المئة من المُدعى عليهم للقضاء العسكري بسبب منشورات، وهم 15 ناشطاً وصحفيان و3 مواطنين لا يمارسون أي نشاط سياسي.

يرى طعمة أنّه “يجب ألا يُلاحق المدني أمام المحكمة العسكريّة، لأنّها ذات طابع استثنائي، ويجب أن تقتصر المحاكمات أمامها على العسكر”، معتبراً أنّه “من المعيب أن يجد الناشط نفسه أمام المحكمة العسكريّة لمجرد إبداء رأيه، هناك قضاء عدلي وسلطة مدنيّة يفترض أن تُحاكم المدنيين”. 

وإضافة إلى اعتراضه على محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، يؤكد طعمة وجود ضغوط سياسيّة لملاحقة الناشطين، حيث “يستخدم السياسيّون قضاة النيابات العامة لملاحقة من ينتقدهم أو ينتقد المنظومة الفاسدة”. 

مسار قمع الحريات.. من حذف المنشور إلى التوقيف الاحتياطي

كان الإفراج عن الناشط خالد عبوشي، الذي استدعته مخابرات الجيش عام 2018، بعد توقيف دام يومين، مشروطاً بإجباره على حذف منشوراته وتوقيع تعهد يُلزمه بعدم التعرض لمقام رئاسة الجمهوريّة ووزير الخارجيّة آنذاك جبران باسيل، بسبب إعادة نشره صورة تنتقد الطرفين على حسابه على “فايسبوك”. 

أُجبر 37 في المئة من الذين استدعوا للتحقيق، على توقيع تعهد غير قانوني بعدم التعرض للجهة المدعيّة مرة أخرى لحماية أنفسهم وكشرط أساسي لإطلاق سراحهم، فيما رفض 59 في المئة منهم التوقيع عليه، باعتباره يحدّ من حقهم في التعبير من دون قيود. أكثر من نصف الأشخاص الذين أجبروا على توقيعه، كانت قضاياهم خلال عامي 2019 و2020.

“إذا ما وقعت التعهد انت نايم الليلة هون بالنظارة”. هكذا يصف طعمة التهديد الذي يتعرض له النشطاء، معتبراً أنّ كل من وقع على تعهد “انتُزع منه بالإكراه وكان مقروناً بتعنيف معنويّ”، مؤكداً أنّ “التعهد الذي يُنتزع من الإنسان وهو مهدد بحريته غير قانوني، ويُعتمد خدمةً للسلطة السياسيّة”.

ويشرح طعمة أنّ الإجبار على توقيع التعهد له أثر نفسي أكبر من أثره القانوني على النشطاء، وقد يؤثر في تعبيرهم عن رأيهم مستقبلاً، لأنّ من يتعرض لذلك “سيخرج من التحقيق ويقول أنّه لا يريد تكرار التجربة أو مرارة التحقيق”. 

كما أُجبر نصف الأشخاص- الحالات على حذف المنشور الذي عبّروا فيه عن رأيهم، 55 في المئة منها كان خلال عامي 2019 و2020، في عز الأزمة الاقتصاديّة والسياسيّة التي مرّ بها لبنان. ويشدد طعمة في هذا السياق، على أنّ إجبار النشطاء على حذف منشوراتهم يجب ألا يكون عشوائياً، وأن مكتب جرائم المعلوماتيّة “ليس قضاءً بل فقط جهاز تحقيق، ولا يحق له أن يفرض على الناشط ذلك، فالأمر يحتاج قراراً قضائيّاً يقيّم مضمون المنشور ويرى فيه ذمّاً وقدحاً فعلاً”. 

وعلى رغم أنّ قانون أصول المحاكمات الجزائيّة اللبناني ينص على أنّ التوقيف الاحتياطي يجب أن يكون “معللاً”، ويُستخدم فقط عند الضرورة للحفاظ على الأدلة أو حماية المدعى عليه أو الحفاظ على النظام العام، وبينما ينص القانون الدولي لحقوق الإنسان على أنه ينبغي أن يكون “الاستثناء” وليس القاعدة، احتجز وأوقف 37 في المئة من الحالات (52 حالة) احتياطياً، بإجمالي 2490 ساعة أي ما يعادل 104 أيام خلال 5 سنوات، فقط بسبب تعبيرهم عن رأيهم على مواقع التواصل.

شهد عام 2019، عام الاحتجاجات، أعلى نسبة احتجاز وتوقيف احتياطي للأشخاص بسبب منشورات لهم، بنسبة 37 في المئة (19 حالة). وسبق لوزير العدل الأسبق سليم جريصاتي، التابع لـ”التيار الوطني الحر”، أن طلب في مذكرة له من النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود عام 2017، “عدم توقيف أي شخص احتياطياً بسبب الرأي الذي يبديه على مواقع التواصل”. لكن المذكرة تُعتبر غير ملزمة، فليس لوزير العدل أي سلطة على النيابة العامة في أدائها وظيفتها، بما أنها تتمتع بالاستقلاليّة التي منحتها المادة 20 من الدستور، وكرستها المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة. 

بتهمة “تحقير رئيس الدولة”، أوقفت هنادي ثلاثة أيام، أمضت منهم ليلتها الأولى في سجن للنساء، مؤكدةً أنها وضعت “مع موقوفات بجرائم مثل ممارسة الدعارة، التعاطي والاتجار بالمخدرات”، مشيرةً إلى تعرضها لـ”سوء المعاملة اللفظيّة ومحاولة تدمير نفسيتها”. 

“مضطرة تكتبي؟ ليكي وين زتوكي؟ ربوكي؟ ليش تكتبي هيك؟ ما بقى تفتحي فايسبوك؟”، عبارات سمعتها هنادي كثيراً من القوى الأمنيّة خلال التوقيف، معلقةً عليها بالقول: “كأنهم وكلوا أنفسهم سلطة أبويّة عليّ”. 

يوضح طعمة أنّ القانون “يضبط مسألة التوقيف الاحتياطي ومدته”، مشيراً إلى أنّه يجب أن يكون له سند قانوني وإن لم يكن كذلك “لا بد من التصدي له وفضحه”. مسألة التوقيف تفتح مجالاً لطرح الأسئلة أيضاً عن فعاليّة التفتيش القضائيّ، الذي بحسب طعمة “يمنع القاضي من أن يستهتر باتخاذ قرار التوقيف، لأنه يعرف أن هناك من يراقبه أو يحاسبه”، مشدداً على ضرورة “تفعيل الحدّ من التدخل السياسي في القضاء”، كي لا تتكرر هذه الممارسات.

وعلى رغم تأكيد كثر من النشطاء أنّه تمّت معاملتهم بطريقة جيدة خلال التحقيق أو التوقيف، إلا أنّه استناداً إلى حديثنا مع عدد منهم حول ما تعرضوا له، تبيّن التالي:

تفتيش الهاتف وإغلاق العينين والاستجواب لساعات على قدم واحدة، كلها أمور عانى منها عبوشي أثناء التحقيق معه في مديرّية مخابرات طرابلس. لكنّ أكثرها أذى، كان تلقيه ضربة على الرأس بسبب رده على المحقق. ووصف عبوشي المعاملة التي تعرض لها بالـ”وسخة”، لكنه أكد أنّه بعد تلك التجربة أصبح “أكثر شراسة” في التعبير عن رأيه. 

وتنتهي أكثريّة قضايا التعبير عن الرأي على السوشيل ميديا بتوقيع تعهد وحذف المنشور والتوقيف الاحتياطي، إلا أنه صدرت بحق 5 في المئة فقط من الحالات أحكاماً بالسجن، تراوحت بين الشهر و22 شهراً غيابياً، بتهم “القدح والذم”، “الإساءة إلى القضاء”، “إثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة” و”تحقير جهاز أمن الدولة”. 

92%

اعتبر 92% أنّ هناك تضييقاً “متعمداً” و”ممنهجاً” على حرية الرأي والتعبير

ما قبل الاستدعاء أو التوقيف بسبب التعبير عن الرأي ليس كما بعده. هناك نشطاء تعرضوا لحملات تحريض، بعضهم خسر عمله والبعض الآخر عانى من تداعيات نفسيّة. في المقابل، شدد عدد من الذين تحدثنا معهم، على تشبثهم بحقهم في إبداء آرائهم، مؤكدين أنّ في لبنان “ديكتاتوريّة تجاه التعبير عن الرأي وقمعاً مخيفاً وتجاوزاً للقوانين”. 

وفي استبيان استهدف 24 شخصاً من أصل الـ140 ناشط/ة وصحافياً/ة ومواطناً/ة، اعتبر 92 في المئة منهم أنّ هناك تضييقاً “متعمداً” و”ممنهجاً” على حرية الرأي والتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان. 

ما الضمانة الوحيدة لحماية حريّة الرأي والتعبير؟

10 سنوات مرّت على تقديم مؤسسة “مهارات” بالتعاون مع النائب السابق غسان مخيبر، اقتراح مشروع قانون جديد للإعلام. بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، دخل القانون أروقة مجلس النواب لكنّه لا يزال قابعاً في “لجنة الإدارة والعدل” ولم يُقرّ حتى الآن، مع عدم رضا مقترحيه عن المسودة الأخيرة منه، مطالبين بضرورة إجراء تعديلات وإصلاح بعض الصياغات الخاطئة “حمايةً لحرية الإعلام”، حسبما يؤكد مخيبر. 

يستثني القانون المقترح السوشيل ميديا، ويختصر النائب مخيبر السبب بأنها “تبقى حرة وغير خاضعة للقانون”، كما تؤكد مديرة البرامج في “مهارات” ليال بهنام أنّ المؤسسة “ضدّ تنظيمها”. لكن اقتراح القانون تضمن قواعد عامة تقضي بإلغاء عقوبة السجن والتوقيف الاحتياطي والنصوص التي تمنع الإساءة لرئيس الدولة، لكل من يعبر عن رأيه على مواقع التواصل أيضاً، وهو ما استثنته المسودة الأخيرة، حيث أبقت على عقوبة السجن وأحكام التحقير بمقام رئاسة الدولة، لاغيةً التوقيف الاحتياطي لكن حصراً بالنسبة إلى الجرائم التي تتمّ بواسطة وسائل الإعلام المنصوص عليها في القانون.

“لسوء الحظ هناك تضييق على الحريات”، يقول مخيبر متحدثاً عن أنّ “الكثير من الملاحقات تكون إمّا لاسترضاء زعيم أو جهة سياسيّة أو بتدخل أو طلب منها، وفي حالات كثيرة هناك انتهاكات في تدخل الضابطة العدليّة والنيابات العامة والقضاء”، ومشدداً على أنّ “موضوع حرية الرأي يحتاج إلى حين تعديل القانون، إلى تعديل في ممارسات هذه الجهات”، فيما تؤكد بهنام رفض مؤسسة مهارات “أي توقيف في ما يتعلق بالتعبير”. 

وفي ظل ازدياد عدد الاستدعاءات وتعنت السلطات في تعديل القوانين أو سن قوانين تحمي النشطاء وحرية الرأي على الإنترنت، بخاصة مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبيّة واستقطابها شرائح جديدة من الشباب ومن مختلف الطوائف، يطرح طعمة حلين. الأوّل “صدور تعميم واضح من النيابة العامة التمييزيّة يحصر صلاحيّات استدعاء النشطاء بجهاز معيّن”، والثاني “تعديل تشريعي”، داعياً “كل نائب يشعر بأنّه معنيّ بحرية الرأي لتقديم اقتراح قانون، يضع ضوابط وإطاراً لملاحقة الناشطين”.

لكن بما أنّ تعديل القوانين في لبنان يتطلب فترة طويلة، فإنّ صدور تعميم عن النيابة العامة هو برأيه “تدبير سريع وإداري يتعلق بالسلطة القضائيّة ومن شأن الأجهزة الأمنية أن تحترمه، وهو يضع ضوابط لحالة الفلتان”. 

ويعترض مدعي عام التمييز الأسبق حاتم ماضي على فكرة حصر الصلاحيات، مشيراً إلى أنها “غير سليمة، لأنّ الجرائم مختلفة ولكل جهاز وظيفته، وهذا التنوّع أفضل وضمانة أكثر للناس، وإذا تمّ حصرها بجهة واحدة تكون قادرة على التحكم بهم”. 

ما هي إذاً الضمانة الوحيدة لحماية حق الناشطين في التعبير؟. يجيب طعمة على أنّها “استقلاليّة القضاء، وأن لا يكون تابعاً للإملاءات السياسيّة”، متأسفاً على ما وصفه بـ”محاولة خطف لبنان إلى نظام أمني بوليسي يسعى لخنق الحريّات”. 

من ناحيته يتحدث القاضي ماضي، عن “وجود تدخل سياسي في القضاء والأجهزة الأمنيّة، فنحن لا نعيش في عالم مثالي بل واقعي وهذا موجود في كل مكان”، معتبراً أنّ قمع حرية الرأي “يحصل أحياناً وهو خطأ، والمفروض من السلطة السياسيّة أن لا تتدخل بالقضاء وعلى الأخير أن يجيب فقط على ضميره، وليس على ما يقوله الزعيم الفلاني”، مؤكداً أنّه في حال حصل ذلك، سينتهي قمع حرية الرأي والتعبير نهائياً.

تجربة هنادي التي اقتصرت على التوقيف، لم تستدعِ السجن بحسب القضاء، لكنها حوّلتها إلى ناشطة أقوى، تساند كل موقوف بسبب التعبير عن رأيه وتدعمه، فبالنسة إليها “القمع من أكثر الأساليب قبحاً بسبب كلمة أو منشور”. تضيف هنادي: “أدركت أنّ الدولة تافهة جداً ويهزها بوست”. 


ملاحظة: رفضت المديرية العامة للأمن الداخلي التي يتبع لها “مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة” تزويدنا بالمعلومات المطلوبة باعتبار أنها “ملك القضاء المختص”، فيما برر “المجلس الأعلى للقضاء” رفضه بأنه لا يملك البيانات المطلوبة وبأنّ الأمر ليس من اختصاصه بل من اختصاص “النيابة العامة”، ولم تُجب وزارة العدل على طلب حق الحصول على المعلومات المقدم إلكترونياً حتى تاريخ نشر التحقيق، متعديةً بذلك مهلة الـ15 يوماً المنصوص عليها قانوناً