fbpx

شتاء دمشق القاسي: سُخام الشوارع ومندوبات مبيعات الجمال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

سأحدثكم عن طين دمشق، حيث نقفز من فوق السخام والمياه الآسنة أو نخوض بها، عن ملمسه اللزج تحت أقدامنا، نحن الذين نسكن الأحياء العشوائية والمخيمات أو على أطراف دمشق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يتوقف الرعد في تلك الليلة، أعادت نحو 6000 ضربة رعد للدمشقيين ذكريات حرب ليست ببعيدة، لماذا تحدث ظاهرة كهذه في دمشق؟ كما لو أن على الناس والأطفال أن يشعروا بالخوف على الدوام وبالغضب يهاجمهم من كلّ الجهات ليخبرهم أنه ما زال هنا.

أعلنت برك المياه صباحاً عن انتهاء ليلة طويلة، تجمعت أمام منزلي البركة الخاصة بي. تمنعك تجمعات المياه عادة من المرور بسهولة فإما أن تلتف حولها أو أن تقفز على رأسَي قدميك لتصل إلى الضفة الأخرى، اعتدتُ تسمية البركة بالبحيرة. وعلى رغم أن “ريغار” المياه قربها تماماً، إلّا أنه لا يستوعب الماء سوى بالتنقيط، فتأخذ بحيرتي أياماً لتختفي من أمام منزلي.

اشتريت كمعظم السوريين حصيرة كهربائية، على رغم مخاوفي من وضع شبكة من الأسلاك تحت سجادتي، تغلبتْ في النهاية رغبة الدفء على مخاوفي من احتراق المنزل، وتصالحت مع الحصيرة الكهربائية كواحدة من أساسيات حياتي في الشتاء، في النهاية لم تكن خطيرة كما اعتقدت. مددت الحصيرة الكهربائية تحت السجادة، انتظرت الكهرباء ووصلتها بالمأخذ واستشعرت الدفء الذي راح ينتشر شيئاً فشيئاً. تقول لنا الحكومة أن نوفر الكهرباء ولا نستخدم التدفئة الكهربائية، لكننا نبرد والشتاء لا يفكر بأصابعنا وأيدينا الباردة. والمحزن حقاً أن الكهرباء تغيب في بعض المناطق لساعات طويلة تجعل الحصيرة باردة إلى الأبد. 

اكتشفتُ الحصيرة الكهربائية كما يُكتشف الكنز وبتُّ أخبر الجميع عنها، وأنصحهم بشرائها فسعرها مقبول ولا تستهلك الكثير من الكهرباء ويدوم دفئها بعد انقطاع الكهرباء وهذا أفضل ما في الأمر، باتت حصيرتي الشيء الوحيد الذي أتحدث عنه، وكلما كلمني صديق قلت له، أتعلم أنني ابتعت حصيرة كهربائية؟ لكنني أيقنت أن كثيرين سبقوني إلى شرائها، يبدو أنني الوحيدة المتأخرة عن ركب دفء الحصائر، إنما أكثرهم حماسةً وثرثرة.

تقول لنا الحكومة أن نوفر الكهرباء ولا نستخدم التدفئة الكهربائية، لكننا نبرد والشتاء لا يفكر بأصابعنا وأيدينا الباردة.

أوروبا الدافئة تغيظنا

لا أحد يدري كيف يحصل السوريون على الدفء، يتمدد كثر تحت البطانيات، ويرتدي زوجين من الناطيل ومن الجوارب والكنزات. وتلف أمهاتٌ صغارهن الذاهبين إلى المدارس بأوشحة قديمة بألوانٍ باهتة، حتى يعجز الطفل عن تحريك نفسه، لا يملك سوى عينيه يراقب بهما العالم. يتفاخر البائع العجوز بالدفء الذي يحصل عليه ابنه في السويد، يقول إن ابنه يرتدي “الشيال والشورت” حين يكلمهم عبر الفيديو، وما زال الوالدان لا يصدقان أن منزل ابنهما دافئ حقاً، ليتدثرا أكثر بأوشحة وكنزات الصوف.

وحين أنصحه باللحاق بأبنائه المنتشرين في أوروبا، يردد العجوز أنه غير راغب بذلك فالعمر مضى ولم يبقَ شيء. لو أن الرحيل متاح لرأيت السوريين يغادرون أفواجاً، لو أن باستطاعة أموالهم القليلة وفرصهم الأقل أن تمنحهم فرصة للهجرة، لفعل كثيرون ذلك، لكنهم لا يملكون سوى الانتظار والبؤس والفقر الذي يدق الأبواب باكراً.

وسط ذلك تظهر مندوبة مبيعات بمكياج رخيص وغير ملائم لوجهها وبقدمين مشتا وسط كلّ طين الشام ووصلتا أمام منزلي، مترددةً. أدركتْ أنها أيقظتني من النوم فأردفت بقليل من الثقة: “امنحيني بعض الوقت لأمنحك منتجاً خارقاً لهذا الوجه الجميل”، لم أكن في أفضل حالاتي، كان كحل الليلة الماضية يمتد تحت عيني المتعبتين، أما شعري فكان مبعثر للغاية، تابعتْ محاولاتها في إقناعي بشراء منتجاتها. بدتْ بائسة وحزينة بوقوفها وسط البحيرة أمام منزلي وحملها حقيبة سوداء كبيرة على كتفها، واختيارها هذا الحيّ المتواضع، إنّها فتاة أخرى تبحث عن عمل، عن فرصة للحياة، وهنّ كثيرات، فلا يمرّ أسبوع من دون أن تطرق إحداهن أبواب الحيّ، فتيات هذه المدينة اللواتي يتحملن كما الرجال أعباء إضافية للحياة. 

لم تطل نقاشها معي، على رغم أن إغلاقي الباب شاكرةً إياها، يعني أنها خسرت فرصة بيع جديدة، لكنها تابعتْ عملها بثقة، ستردد جملها الجاهزة على كلّ أبواب الحي، ربما تبيع بعض ما لديها لنساء يصدقن أن وجوههن جميلة حين يستيقظن من النوم، لنساء يبحثن عن فرصة ليبدون أكثر تألقاً بسعر قليل، بمنتج خارق كما قالت المندوبة. سمعتها تطرق باباً حديدياً آخر مرددة: “هل يمكن أن أخذ القليل من وقتك؟”، عدتُ إلى فراشي وضحكت على أوقاتنا الثمينة التي تسرق هنا!

طين دمشق

سأحدثكم عن طين دمشق، حيث نقفز من فوق السخام والمياه الآسنة أو نخوض بها، عن ملمسه اللزج تحت أقدامنا، نحن الذين نسكن الأحياء العشوائية والمخيمات أو على أطراف دمشق. سأحدثكم عن بقع الماء السود التي لا تعكس السماء، عن دواليب سياراتٍ مسرعة ترشقنا بماء الشوارع وتمضي، نلعن السيارات وننسى الطرق وثيابنا الملوثة. طين دمشق لا يشبه غيره، يتجمع على مهل في الليالي الماطرة، يسقط من المزاريب المختنقة ويسيل في الأزقة الضيقة، لتصحو المدينة على بركٍ من المياه تقطع الشوارع، وسخامٍ ينتشر كالوباء على الأرصفة، إنه مزيج من نفايات العاصمة ودخانها الأسود وشحوارها.

يسيل المطر في الطرق حاملاً معه لون المدينة المائل إلى القبح، تعبره الأقدام، أقدام مسرعة، بطيئة وصغيرة، تكاد الأحذية القديمة تختفي في المياه، لا تتوقف، تمضي بمشقّة إلى يوم قاسٍ آخر، تشير إلي امرأة عجوز “لك هي بلد هي!”، وأعلم أنّها بلد لكن بكثير من الحفر والطرق البشعة، لكنني أجيبها: “لا والله مش بلد”. 

نحتاج شتاءً واحداً من دون قسوة، ولا بأس إن تجمع السخام والمياه الآسنة في الخارج وبقيت الأرجل دافئة في الداخل، نحتاج أن نفهم لماذا هنالك شيئان من كلّ شيء، مازوت مدعوم لكن مفقود، ومازوت حرٌّ ومتوافر، إنما بسعر غالٍ، خبز مفقود بمئة ليرة وخبز يبيعه الجوالون بألف ليرة، ومن كلّ شيء هناك زوجان، من البؤس والحزن والانتظار وسفينة نوح لا تكفي لحشرنا وإنقاذنا من فيضان السخام.

لا تمنع المياه الآسنة الممزوجة بقاذورات الطرق والكمامات المرمية على الأرصفة وأعقاب سجائر دُخنت حتى النفس الأخير، السوريين من الانتظار، أراقب في طريقي المعاطف المصطفة أمام فرن خبز “باب توما” بألوانها المتشابهة، أسود، زيتي، بني، كحلي بهت لونه مع الوقت، ومن ثم مجموعة أخرى لألوانٍ معتمة. لا تلائم الألوان الفاتحة سواد هذه المدينة.

أمام مقدمات السيارات المبتلة بمطر تشرين، ينتشر السوريون، يفردون أرغفة الخبز التي حصلوا عليها لتوّهم، يكتفي البعض بفردها ريثما تبرد ثم يجمعها ويرحل تاركاً سيارة عليها رائحة خبز طازج. من الغريب أن يُفرد خبز على مقدمة سيارة مرسيدس مثلاً أو bmw، يبدو الأمر تراجيدياً، لن تفيد هذه السيارة الفارهة السوريّ سوى بتبريد 7 أرغفة من الخبز، البعض يأخذ وقتاً أطول ويقوم بفتح الأرغفة كيلا تلتصق الطبقتان ببعضهما، فبعد عناء ساعات من الانتظار لا يودُّ تناول رغيف ملتصق أو ارتصّ بسبب تكدس الأرغفة الساخنة.

أيكون سرّ طمأنينتي امتلاكي حصيرة كهربائية؟

لا أعلم ما الذي يجمعنا مع المدن البائسة، نشعر في بعض الأحيان بعطفٍ يأتينا من شريط كاسيت يصدح بموسيقى عبد الحليم حافظ، من حديث عجوز مكرر عن العودة عن المنازل التي تركناها خلفنا، فكرت خلال عودتي عند غياب الشمس بدمشق كما لم أفكر بها سابقاً، شعرت أنني حرّة من الألم لكنني أسمع نبض كلّ شيء من حولي، ألمس حزن التائهين والخائفين والوحيدين، وضحكت في سرّي، أيكون سرّ طمأنينتي امتلاكي حصيرة كهربائية؟ كان المساء آمناً، كأنّ شيئاً لم يمرّ على هذه المدينة ثم لمحت رجلاً ينتظر السرفيس واضعاً ربطتي خبز فوق رأسه، بدا كتمثال، كآلهة، إننا تماثيل لن يخطر على بال نحات أن يصور ألمها بهذه الطريقة. وكنّا أنا والسائق العجوز نشعر بذلك من دون أن نقوله، تبادلنا العطف بأن أسمع مآسيه عن النزوح والبحث الدائم عن منزل للإيجار وبأن يتردد بأخذ الأجرة قائلاً: “خليها علينا مش محرزة”، لكن الطريق يستحق وتعب العجوز يستحق وحزن دمشق المبتل بالمطر الآسن يستحق.