fbpx

ضريبة التأخر في إنفاق أموال “الليطاني”: السرطانات تفتك بسكان البقاع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“جارنا أصابه السرطان، أخوه أيضاً وكذلك أولاد عمي، كلهم أصيبوا بالمرض ذاته، لم نعد نستطيع التحمّل…”، يستعرض هذا التحقيق مسيرة تلويث نهر الليطاني ويعرض مقابلات مع ضحايا السرطان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يزال عادل يزبك يعيش وأسرته مأساة فقدانه ابنه علي الذي توفي عام 2014 بعد معاناة مع  مرض السرطان. 

تعيش عائلة عادل يزبك وهو رئيس سابق للبلدية في بلدة حوش الرافقة في البقاع التي يخترقها نهر الليطاني بحيث تنتشر القرية على ضفافه، لكن هذا الموقع الذي كان يمكن ان يكون نعمة تحول إلى كارثة. فالنهر يعاني من تلوثات هائلة يعتقد الاطباء أنها كانت خلف اصابة علي يزبك بالسرطان، “الاطباء قالوا لنا إن تلوث النهر كان السبب وراء اصابة علي بالسرطان”. 

توفي علي عن عمر 34 عاماًَ، ووالده عادل يتحدث عن المحنة التي عاشتها  العائلة منذ عرفت بمرض ابنه البكر ويشير نحو بيوت في القرية يعيش أهلها على ضفاف النهر الملوث وعن جغرافيا انتشار المرض في محيطه الصغير، ”  هنا بمحاذاة  هذا الطريق على النهر  هناك  12 حالة وفاة بسبب تلوث النهر، حتى داخل القرية هناك 9 حالات”.

صورة تعود للعام 2000 حين كان الأهالي لايزالون يستمتعون بنهر الليطاني

نهر الموت

لم يعد أهالي الحوض الأعلى لنهر الليطاني يتذكرونه جيداً، تناسى هؤلاء صورة النهر القديمة لتحل مكانها صور أحبائهم الذين فتكت بهم الأمراض والسرطانات، التي سببها تلوّث النهر، فالليطاني الذي كان شريان المنطقة في ما مضى، لم يعد سوى مستنقع للفضلات والمخلفات البشرية والحيوانية والصناعية الكيماوية القاتلة.

في هذا التحقيق، نستعرض مسيرة تلويث نهر الليطاني ونوثق كامل التعديات على النهر ضمن خريطة تفاعلية، كما نعرض مقابلات مصورة مع ضحايا السرطان، ونكشف الواقع الحالي وردود الجهات المعنية ونبحث في الأسباب التي جعلت من نهر الليطاني “المجرور الأطول” في الجمهورية اللبنانية، بحسب وصف الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية في لبنان، والأخطر من ذلك نوضح كيف امتنعت وزارات ومؤسسات عامة عن إنفاق أموال مرصودة ضمن الموازنة العامة وضمن قرض من البنك الدولي لمعالجة تلوث النهر، وهي أموال كان يمكن أن تخفف على الأقل من الكارثة التي تصيب النهر وناسه.

نظرة خاطفة على ماضي النهر القريب

 

هذه الوقائع كانت تفترض أن تقام مشاريع مهمة على النهر ودراسات بهدف تنمية القطاع الزراعي.

من قام بتحويل الليطاني إلى مجرد 170 كلم من مياه الصرف الصحي والمخلفات الصناعية والزراعية السامة؟ وكيف تحول النهر الذي كان مصدر دخل لسكان حوضه إلى مصدر للسرطان للبلدات والقرى القريبة منه؟ 

بدأت التجاوزات بحق النهر منذ منتصف الثمانيات، لكن أولى الاعتداءات الفعلية على النهر، جاء بحسب ما تروي الصحافية سعدى علاو في كتابها “الليطاني: اغتيال نهر وناسه” من بلدة حزين في غرب بعلبك، حيث قامت البلدية بتسليط شبكة الصرف الصحي على مجرى النهر، هذا الاعتداء حَصلَ بعد إهمال مصادر مياه الليطاني في العلاق وحوش بردى وعين السودا، الأمر الذي دفع الأهالي إلى حفر آبار إرتوازية لري مزروعاتهم والحصول على مياه الشفة، إلا أن معظم هذه الآبار جفّت. كما لم تسلم مصادر مياه الليطاني الأخرى من حفر آلاف الآبار في حرمها وتكرر السيناريو في الكثير من القرى البقاعية الأخرى، حتى أدى الأمر إلى نضوب نبع العليق وانخفاض معدلات تصريف النهر وباتت غالبية المياه التي تصب في النهر، من مياه الصرف الصحي التي ترميها البلديات، كما لم يسلم الحوض الأدنى بالطبع من التعدي عليه، إذ نجد عدداً كبيراً من الاستراحات المتعدية على ضفافه، إضافة إلى بعض الكسارات. كل هذه المخالفات والاعتداءات بحق النهر ترافقت مع غياب محطات تكرير مياه الصرف الصحي وانعدام المراقبة والتدقيق والمحاسبة من قبل الجهات الرسمية.

وحتى نقف على هول الكارثة التي تعرض لها النهر المنكوب، فإن تقريراً صادراً عن “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” يبيّن أن 127 بلدية في الحوض الأعلى و19 بلدية في الحوض الأدنى تقوم بتحويل مجرى مياه الصرف الصحي إلى مجرى النهر بشكل مباشر وغير مباشر (من خلال قنوات الصرف الصحي). 

وفي كشف قامت به الشرطة القضائية، إثر إدّعاء تقدمت به “المصلحة” بحق المصانع والمؤسسات الواقعة في محيط النهر، تبين وجود 85 مصنعاً في الحوض الأعلى، يقوم بأعمال تسبيل للصرف الصحي والصناعي بطريقة منظمة ومتكررة في مجرى النهر وروافده، ما يسبب أضراراً هائلة للبيئة، من مزروعات و حياة بيئية، ويؤثر سلباً بشكل كبير في مشاريع الري و توليد الطاقة الكهربائية.

الكشف وثّقَ أيضاً قيام 21 مسلخاً برمي مخلفات ونفايات المواشي والدواجن في النهر، مسلخ واحد منها مرخص من قبل وزارة الزراعة، فيما المسالخ التي تديرها البلديات غير مرخصة، وترمي 16 مزرعة مخلفات الحيوانات وروثها مباشرة في النهر.

كما من المرجح أن تكون الأرقام السابقة أعلى في الواقع، مع وجود تعديات أخرى ومخلفات سامة ترمى في النهر هنا أو هناك في غياب أي رقابة فعلية من الوزارات المعنية. 

اللافت أن “وزارة الصناعة” أصدرت بعد تعاون مشترك مع “مصلحة الليطاني” قرارات بإقفال عدد كبير من المؤسسات الصناعية المخالفة، إلا أن غالبية هذه المصانع لم تلتزم بقرار الإقفال، أما المصانع التي التزمت القرار فقد عادت إلى العمل بعد فترة قصيرة، نتيجة غياب المتابعة والمراقبة من الجهات المعنية. 

التعديات على النهر لم تقتصر على الجهات الرسمية والمؤسسات الخاصة بل أتت حتى من منظمات غير حكومية محلية وأخرى دولية، بإنشاء حفر صحية بجوار مخيمات اللاجئين السوريين القائمة على ضفاف الليطاني، من دون إنشاء محطات تكرير صرف صحي لمعالجتها. كما كانت جمعيات تقوم بتحويل هذه المياه المبتذلة عبر رميها مباشرة في النهر، بدلاً من معالجتها وتكريرها بعيداً من النهر، ما يهدد صحة اللاجئين وسلامتهم، علما بأن وظيفة هذه المنظمات الأساسية هي حماية هؤلاء اللاجئين، لا تعريض حياتهم للخطر عبر تركهم في خيم مجاورة للنهر. 

جور الصرف الصحي لمخيمات اللاجئين قرب الليطاني

كيماويات ومواد سامة قاتلة

عام 2016، أعلن المجلس الوطني للبحوث العلمية موت بحيرة القرعون سريرياً، بعدما ظهرت فيها مادة اللانيت السامة والسانوبكتيريا وملوثات أخرى مثل 1.4 ديوكسان، الزرنيخ، الكروم 6 والهيدروكربونات المكلورة، كما طلب من القاطنين في بلدة القرعون عدم الاقتراب من البحيرة ضمن مسافة 500، نظراً إلى خطورة المواد في المياه، ليتحول نهر الليطاني إلى مكب للنفايات والمواد السامة والكيماوية والنفايات السائلة الناتجة عن عمل المصانع والمسالخ والمزارع المخالفة ومياه الصرف الصحي العائدة إلى القرى، وأصبحت المياه الجوفية والآبار والأراضي الزراعية محملة بالأوبئة والأمراض.

تعد مزارع الأبقار من أهم مصادر التلوّث والأمراض والسرطانات في البقاع، إذ تحتوي مخلفات الأبقار على الكثير من مسببات الأمراض التي تنتقل وتعيش عبر المياه مثل السالمونيلا، كولاي، الكريبتوسبوريديوم، والبكتيريا القولونية. ولهذه المخلفات القدرة على نقل أكثر من 40 مرضاً للإنسان، كما أن براز الأبقار يحتوي على معادن ثقيلة، مثل الرصاص المعروف بأنه يسبب مشكلات في الكلى واضطرابات في الجهاز العصبي. كما يخشى من تسرب نيترات هذه المخلفات إلى المياه الجوفية، والتي ستؤدي عند استخدامها إلى الإصابة بمتلازمة الطفل الأزرق، وهي حالة مميتة تؤثر في الرضع (أقل من 6 أشهر)، إضافةً إلى أن المخلفات الحيوانية التي ترميها المزارع تعتبر من أسباب انتشار الأمراض المعدية بنسبة 75 في المئة على مدى السنوات العشر الماضية.

وللمسالخ أيضاً حصتها في التلويث، فالملوثات الناتجة عنها تؤدي إلى قتل الحياة المائية وخنق الأسماك عند مرورها في المياه وتحوّل هذه المجاري إلى أماكن محملة بالأخطار نتيجة الجراثيم المرتفعة فيها. 

علاوةً على ذلك، ما زال مزارعون يقومون بري المزروعات من هذه المياه الملوثة غير صالحة للشرب حتى بعد تكريرها. إذ يقوم هؤلاء بالري من طريق حفر تنساب إليها مياه النهر (مياه الصرف الصحي) داخل المزارع ويتم تجميعها في هذه الحفر، ومع تشغيل المرشات يبتعد المزارعون تجنباً للأمراض الجلدية التي تسببها. كما يحرصون على إبعاد حيواناتهم من حوض النهر خوفاً من التسبب في وفاتهم بسبب المياه الملوثة.

يوضح رئيس “الهيئة الصحية اللبنانية” الطبيب اسماعيل سكرية مخاطر المخلفات التي يتعرض لها الليطاني قائلاً: “كيمياويات المصانع والنيترات والمبيدات الزراعية هي الأخطار الثلاثة الأساسية التي تسبب أمراضاً قاتلة، فالنيترات سبب أساسي للإصابة بسرطان المعدة والمبولة، أما الكيماويات التي ترميها المصانع فيمكنها أن تشوّه أي عضو في الجسم، المعدنيات تسبب ضعفاً في الجهاز العصبي وضعفاً الذاكرة لدى الأطفال”. 

يسخر سكرية من الأسئلة التي تُطرح حول كيفية إيجاد الحلول لمعالجة التلوّث:”الحلول التقنية معروفة لأي كان، محطات تكرير ومراقبة عمل المصانع والمؤسسات كافة، وضمان عدم تلويثها النهر، أما الحل الفعلي فيتمثّل بإرادة سياسية من شأنها أن تفرض على الوزارات تطبيق القانون والقيام بمهماتها”.

إقرأوا أيضاً:

ضريبة التلوث تُدفع سرطاناً

لم تتأخر ضريبة التلويث الممنهج الذي تعرّض له النهر من أن تدُفعَ سريعاً وغالياً من أجساد السكان الذي يقطنون بجوار ضفافه. في دراسة أجرتها عام 2018 “الهيئة الصحية اللبنانية” بالاشتراك مع الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية، تبيّن أن معدلات نسب السرطان في البلدات الأربع التي يمر نهر الليطاني داخلها مباشرةً، أعلى من المعدلات العامة على مستوى لبنان، ففي بلدة حوش الرافقة تصل نسبة السرطان ثلاثة أضعاف أعلى من المعدّل العام في البلاد، في حين تصل في بلدة القرعون إلى خمسة أضعاف المعدّل العام.

وتصل نسبة الوفيات في بلدة بر إلياس بسبب السرطان إلى ثلاثة من أصل خمسة، أما في تمنين التحتا فيحصد السرطان لوحده 70 في المئة من أصل الوفيات. 

لم يُجرى أي مسح منذ هذه الدراسة، كما أن واقع النهر لم يتغيّر بل زادَ سوءاً إذ تلفت مصادر في وزارة الصحة إلى أن هذه النسب ارتفعت عما كانت عليه في السابق، وذلك بحسب أطباء متعاونين مع الوزارة يعملون في محافظتي البقاع وبعلبك الهرمل.

واحتل سرطان المعدة والكلى والجهاز التنفسي والجلد النسب الأعلى من الإصابات في قرى حوض الليطاني، كبلدتي تمنين التحتا وبر الياس، كما بإمكان الملوثات السامة التي يتعرض لها النهر أن تتسبب بسرطان الكبد والمرارة والمثانة والقولون والمبيض والرئة والجهاز الهضمي.

إضافةً إلى انتشار سرطان الدم (اللوكيميا)، إذ ترتفع نسبته في بلدة بدنايل مثلاً، والتي يرّجح رئيس الهيئة الطبية اللبنانية الدكتور سكرية أن يكون سببها اخلتلاط مياه نبع البلدة بالملوثات.

المعنيّون تخلوا عن مسؤولياتهم

فيما غابت الجهات المعنية بشكل تام ولم تقم بأي إجراء يحد من كارثة النهر كإنشاء محطات لتكرير مياه الصرف الصحي أو مراقبة عمل المصانع والمؤسسات القائمة على حوض النهر وإلزامها بإنشاء محطات لتكرير مياهها السامة، تُركت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني من دون مدير عام لسنوات حتى تم تعيين الأستاذ الجامعي سامي علويه مديراً عاماً للمصلحة، في نيسان/ أبريل 2018. وبدأ عمله بكشف التعديات على حوض النهر وتقديم مراجعات قضائية عدة ضد عدد من ملوثي النهر والمتعدين على أملاك المصلحة في الحوضين الأعلى والأدنى من النهر.

إلا أن تنظيف النهر وإنشاء شبكات الصرف الصحي وردع مخالفات المزارع والمصانع والبلديات وسواها من المؤسسات العامة والخاصة، لا تقع قانوناً على عاتق المصلحة، بل على عدد من الجهات الرسمية، وهذا ما أكّده قانون 63\2016 ومادته الثانية المرتبطة برفع التلوث وتوزيع المهمات، إذ تقع معالجة المياه المبتذلة المنزلية (الصرف الصحي) على عاتق وزارة الطاقة والمياه، ويفترض أن تقوم وزارة البيئة بمعالجة النفايات الصلبة وأن تقوم الوزارتان بمهماتها بالتنسيق مع مجلس الانماء والاعمار. فيما تقع مهمة معالجة النفايات الصناعية على عاتق وزارة البيئة بالتنسيق مع وزارة الصناعة. أما مكافحة التلوث في القطاع الزراعي فهو من مسؤولية وزارة الزراعة على أن تقوم هي الأخرى بالتنسيق مع وزارة البيئة.

يضاف إلى المسؤوليات الملقاة على الوزارات أعلاه، تحمل وزارة الداخلية والبلديات مسؤوليتها تجاه البلديات، ووزارة الصحة تجاه المستشفيات ومسؤولية المجلس الوطني للكسارات والمرامل.

بينما تنحصر مهمة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بالحوكمة وتنسيق الجهود بين هذه الوزارات التي تقع على عاتقها أيضاً ملاحقة المخالفين وإصدار القرارات الإدارية والإحالات القضائية اللازمة، كل بحسب اختصاصه. 

المصلحة الوطنية لنهر الليطاني التي أنشئت عام 1954، كانت من مهماتها الاساسية مواكبة مشروع الليطاني ومشاريع السدود في لبنان. ويروي مدير عام المصلحة سامي علوية حادثة حصلت في وقت سابق، “قامت المصلحة بتنظيف جزء من مجرى نهر الليطاني في البقاع الاوسط فأحيلت للتفتيش المركزي بحجة أنها لا تمتلك الصلاحية في تنظيف مجاري الأنهار، وأن ذلك من اختصاص وزارة الطاقة. أما اليوم فتقوم اليوم مصلحة الليطاني بتنظيف 6 كلم من بر الياس وزحلة، 2 كلم من البردوني، وكلم واحد من المرج، وقامت بإزالة التعديات عن مجرى نهر الليطاني في الحوض الأدنى من بحيرة القرعون وصولاً إلى المصب في القاسمية”. 

يرى علوية أن “تدخل المصلحة يقع في خانة تسمى قانوناً بأعمال “الفضالة”، أي أنها تقوم بعمل من شأنه أن يفيد الآخر من دون أن تكون ملزمة به، لا يعني إعفاء الاخرين من مسؤولياتهم، لا سيما وزارة الطاقة والمياه والبلديات ومؤسسات المياه، إضافة إلى المالكين المجاورين لضفاف النهر. ومن هذه المسؤوليات تنظيف المجرى دورياً، علماً بأن وزارة الطاقة والمياه تخصص لها مليارات لتنظيف مجاري الأنهار (…) وكذلك على وزارتي البيئة والصناعة متابعة التلوث الصادر عن المؤسسات المصنفة والمؤسسات الصناعية، ولا يعفي البلديات ووزارة البيئة من مسؤوليتها في إدارة النفايات المنزلية الصعبة (…) ولا يمكن أيضاً إعفاء وزارتي البيئة والزراعة من مسؤوليتهما عن التلوث الناتج عن المزارع والمسالخ. فتحمّل هذه الجهات كلها بمسؤوليتها يساهم في عودة مصلحة الليطاني للقيام بدورها الأساسي في تطوير المؤسسة إدارياً واستثمارياً”. 

أموال معالجة التلوّث موجودة ولكن لمصلحة الخبراء

أكثر من 20 عاماً من الانتهاكات المستمرة والتلويث الدائم، دفعت مئات السكان إلى مغادرة منازلهم وأراضيهم والنزوح قسراً إلى قرى أخرى أو إلى خارج محافظة البقاع هرباً من أطول نهر في الجمهورية اللبنانية، وما يحمله من ملوثات وأمراض وسرطانات، كان يمكن الحد من آثارها بل وإصلاح النهر بخاصة في السنوات السابقة.

فالسلطة في لبنان والتي دائماً ما تتحجج بعدم قدرتها المالية على معالجة قضايا عدة، وذلك نتيجة اختلاس المال العام والفساد المستشري، كان بإمكانها الحد من الأضرار الاقتصادية والبيئية والصحية الناجمة عن ملف تلوث نهر الليطاني، لكن الفضيحة تكمن بوجود الأموال المرصودة من ضمن ميزانية الدولة اللبنانية ومن احدى الجهات الدولية، من دون أن يصار إلى صرفها لإنقاذ حياة مئات الأشخاص الذين تفتك بهم أنواع السرطانات في القرى والبلدات المجاورة للحوض الأعلى للنهر في البقاع.

85

هو عدد المصانع الموجودة في الحوض الأعلى، والتي تقوم بأعمال تسبيل للصرف الصحي في مجرى النهر وروافده.

فعام 2016 وبعد إعلان موت بحيرة القرعون سريرياً من قبل المجلس الوطني للبحوث العلمية ونتيجةً للضغط الشعبي والإعلامي، أقرّ المجلس النيابي القانون 63\2016 المشار إليه سابقاً والذي خصص 1100 مليار ليرة تُصرف على خمس سنوات، لمكافحة التلوث في منطقة حوض نهر الليطاني من النبع إلى المصب.

وفي العام ذاته، أقر المجلس النيابي أيضاً القانون 64\2016 المتعلق بالموافقة على اتفاقية قرض لمشروع الحد من تلوث بحيرة القرعون وهو قرض بقيمة 55 مليون دولار، مقدّم من البنك الدولي، يفترض صرف 90 في المئة من ميزانيته على بناء شبكات الصرف الصحي.

المفارقة أن وزارات الصناعة والزراعة والبيئة لم تصرف ليرة واحدة من الاعتمادات التي رصدت لها بحسب قوانين الموازنة العامة في الأعوام 2017، 2018، 2019، فيما صرفت وزارة الطاقة والمياه 45 مليار ليرة (30 مليون دولار) فقط عام 2017 من أصل 150 مليار ليرة، أي أقل من 30 في المئة من كامل المبلغ المرصود لها.

أما شبكات الصرف الصحي المقررة والتي رُصدت لها أموال قرض البنك الدولي، فلم ينشئ مجلس الإنماء والإعمار سوى 4 في المئة، بحسب تقرير “المراجعة نصف المرحلية للمشروع” الذي أعدّه فريق البنك.

إنشاءات الصرف الصحي هذه تغطي مساحة 18 كلم فقط من أصل441 كلم، إضافة إلى 168 منزلاً، تم وصلها من العدد المحدد على شبكة الصرف الصحي من أصل العدد المحدد في المشروع والبالغ 9150 منزلاً، في حين لم يُصرف من نسبة القرض المقررة لإنشاء شبكات الصرف الصحي سوى 6.3 في المئة فقط.

في حين يتقاضى الخبراء من مختلف الوزارات رواتب وصفتها “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” بالمفرطة، معتبرة هذه الرواتب تبذيراً لأموال اللبنانيين والمال العام فبعض هؤلاء الخبراء لا يحضر حتى الاجتماعات الخاصة بالمشروع.

هذا التأخير في تنفيذ المشاريع أدّى إلى تفاقم الوضع الصحي وتهديد صحة الناس والمساهمة في انتشار أوسع للأوبئة والأمراض السرطانية، وفقاً لما تثبته أرقام وزارة الصحة العامة والدراسات العلمية المنشورة، إذ تظهر الفحوص المخبرية التي تجريها “المصلحة” بشكل دوري عدم وجود تحسن في نوعية مياه بحيرة القرعون ونهر الليطاني خلافاً لما يروج له مجلس الإنماء والإعمار في رسائله للبنك الدولي والمصلحة.

وجّه معد التحقيق رسائل إلى الوزارات المعنية المذكورة أعلاه لسؤالها عن سبب عدم صرف الأموال المرصودة لمعالجة تلوّث النهر، وعن الإجراءات التي قامت بها خلال السنوات الثلاث السابقة، إلا أن أياً منها لم يقدّم جواباً حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.

وسط هذه الحلقة من المخالفات والاعتداءات والإهمال والتسيب والتأخر في تنفيذ المشاريع، على رغم توفّر الأموال المرصودة لها، تم تنسيق نهر الليطاني أطول أنهار لبنان ليصبح نهراً سابقاً في حين تُرك سكان ضفته العليا للمرض والسرطان والموت. 

يحرص عادل  يزبك على مواساة أهالي الضحايا ومساعدة من يعرف بحاجته إلى الطبابة، لعله بذلك يواسي قلبه بعد فقدانه ابنه علي بسبب السرطان. “جارنا أصابه المرض ذاته، أخوه أيضاً وكذلك أولادي عمي، كلهم أصيبوا بالمرض ذاته (السرطان)، لم نعد نستطيع التحمّل، المصائب حلّت على رؤوسنا، ولا نملك القدرة على الطبابة”، يضيف عادل “الله لا يسامحهم لكانوا السبب…هيدا كله من ورا الليطاني”.

انجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة كانديد

إقرأوا أيضاً: