fbpx

مخيما الهول وروج: معسكران للعقاب في شمال شرقي سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“الحياة” هناك عقاب يصل حد التعذيب على جريمة غير محددة قانونياً، وإن كانت الإرهاب فلا سلطة لتنفيذ الحكم أو مراعاة شروط السجناء القانونيّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صدر أخيراً عن منظمة “حقوق وأمن الدوليّة” الجزء الأول من تقرير بعنوان “غوانتانامو أوروبا: الاحتجاز غير محدد الزمن لأطفال ونساء أوروبيين في شمال شرقي سوريا”. وقبل الحديث عن التقرير لا بد من الإشارة إلى أنها ليست المرّة الأولى التي يُتداول فيها مصطلح “غوانتنامو” بمعانيه القضائيّة والسياديّة في وصف سياسات بعض الدول الأوروبيّة. 

اقترُح في فرنسا العام الماضي وهذا العام مرة أخرى مشروع قانون بنفي المدانين بجرائم إرهابية، “لأن فرنسا كدولة ذات سيادة لها الحق في تقرير من تستقبله ومن لا تستقبله”، وفي اقتراح سابق، أُشير إلى إمكان تحويل جزر كيرغولين في أقصى جنوب الكرة الأرضيّة إلى معسكر للاعتقال يوضع فيه من تتم إدانتهم بتهم “الإرهاب”، سواء كانوا داخل فرنسا أو خارجها، ناهيك بسحب الجنسية الفرنسيّة منهم إن كانوا من حامليها. 

التقرير السابق الذي أنجز بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 وتشرين الثاني 2020 يشير إلى أن مخيمي الهول وروج الخاضعين لسلطة “قوات سوريا الديمقوراطيّة”، هما مخيمان للاعتقال مشابهان لغوانتانمو (قانونياً)، وفيهما نساء وأطفال أوروبيون من 5 دول (بلجيكا، فرنسا، ألمانيا، هولندا وانكلترا) وعددهم من بين الـ70 ألف محتجز هناك، 11 ألفاً، بينهم 640 طفلاً، و230 امرأة، كما أن نصف الأطفال من كل الجنسيات، أعمارهم تحت الـ5 سنوات، والآخرون أقل من 12 سنة، وهناك أكثر من 500 طفل يتيم أو من دون راع بالغ. 

يتعرض المحتجزون في المخيم لأشد أشكال المعاملة قسوة، من عنف مباشر مطبق عليهم أو بسبب شروط الاحتجاز، وهم لا يخضعون لأي قانون، لا قوانين الحرب ولا قوانين بلدهم الأصلي، نتيجة خضوعهم لجماعة مسلحة لا تمتلك اعترافاً قانونياً، ولتنطبق القوانين السابقة عليهم، لا بد من تصنيف النزاع في تلك المنطقة كـ”صراع مسلح ذو طبيعة غير دوليّة”، أي أن الأطراف ضمنه ليست دولاً ذات اعتراف رسمي، بل جماعات مسلحة تسيطر على الأرض، إذا افترضنا أن طرفي النزاع هما تنظيم “داعش” و”قوات سوريا الديموقراطيّة”.

جُرّد الأوروبيون المحتجزون في هذه المخيمات غير الشرعية من حق التقاضي العادل وشروط الاحتجاز الإنسانيّة، ويخضعون لمعاملة يوميّة تشبه التعذيب، بسبب قرار سياسي من بلدانهم بـ”تركهم” هناك، وعدم استقبالهم وتسهيل عودتهم لمواجهة القانون في بلادهم. 

تلخيص التقرير أو استعراض نتائجه والحجج القانونيّة التي يستند إليها لوصف المخيمين بغوانتانامو، والاستثناء القانوني والدولي الذي يمثله، لن يشرح بدقة الموقف الأوروبي، بل سيكون تكراراً للألم الذي يختبره من هم هناك، وعلامة على عجز القانون الدولي أمام القرار السياسي، وترديداً للبلاغة السياسيّة التي وظفتها الجهات الأوروبيّة في ردودها على صنّاع التقرير. 

لكن لا بد من الإشارة إلى المنهجيّة التي أنتج وفقها التقرير لتحقيق نظرية “المخيّم”، التي تعطّل القانون. هذه المنهجية تتحرك بأسلوبين، الأول قانوني يُناقش عبره الوضع القانوني للمخيمين والقائمين عليهما وعلاقتهم بالقانون الدولي والقوانين الأوربيّة المحليّة، والتي نصل إثرها إلى نتيجة تفيد بوجود تنسيق أمني أوروبي مع القائمين على المخيم لعدم ترحيل من فيه من أطفال وسجناء وعدم تسهيل عودتهم إلى بلدانهم الأصليّة. 

الأسلوب الثاني هو اللقاءات الشخصية التي قام بها صناع التقرير لرصد طبيعة الحياة في المخيم والعنف الذي يتعرض له المحتجزون هناك، والذي يتأرجه بين العنف الاعتباطي الذي يمارسه القائمون على المخيم والأذى الجسدي والجنسي للأطفال والنساء، مع تأكيد الأثر النفسي على المحتجزين.

ما سنحاول القيام به هو الإشارة إلى مفاهيم مرتبطة بـ”المخيم” ودلالاتها في أوروبا ولفهم الإصرار على “ترك” مواطنين أوروبيين للموت، في حين أن غيرهم يتمتعون بحماية السيادة الوطنيّة وينطبق عليهم القانون، خصوصاً أن هذا الـترك أو الـBan ليس الأول من نوعه في أوروبا، إذ مورس سابقاً وأفقد أفراداً حقوقهم كبشر، كحالة مخيمات الاعتقال اليهودية وسفن نقل اللاجئين. 

كتلة الأعداء الذين لا يستحقون الحياة 

العداوة التي تمارسها الدول الأوربية ضد مواطنيها “الممنوعين” من دخول أراضيها قائمة أولاً على أساس التجانس، أي أن الأعداء ومن يتشابه معهم يتعرضون للمعاملة ذاتها، وهي الترك في المخيم من دون أي حقوق قانونيّة، لكن الموضوع لا يرتبط بالمقاتلين الذكور الذين كانوا في “داعش” وحسب، بل أيضاً أطفالهم وزوجاتهم، هذا التجانس الذي ترى فيه الحكومة الأوروبيّة “أعداءها” ككتلة واحدة، حتى لو كانوا من مواطنيها، انتهاك صريح لحقوقهم كأفراد خاضعين لسيادة الدولة المسؤولة عن “حياتهم”. 

عدم التفريق بين المحتجزين على أسس الاتهام القانوني يعني أنهم جميعاً “إرهابيون”، ولا أحد منهم يختلف عن الآخر  من المنظور السياسي، هو عدو لا يستحق الدخول حتى في النظام القانوني الوطني. ويصبح المعتقلون أشبه بكتلة واحدة، بعدما اتخذ قرار بـ”تركهم” لموتهم وإعاقة عودتهم إلى أوطانهم. 

“هم ليسوا على الإطلاق أبرياء حتى تثبت إدانتهم”

مفهوم “لا يستحق الحياة” هنا نتاج قرار سياسيّ، فغياب عقوبة الإعدام في الدول الأوربويّة وسجن الإرهابين فقط لا يرضي الرأي العام بالمقارنة مع ما فعلوه فـ“هم ليسوا على الإطلاق أبرياء حتى تثبت إدانتهم”، أما الترك للموت كما في مخيم الاحتجاز، فيلبي نداء الرأي العام الذي يرى في الإرهابيين الإسلامويين وكل من يدعمهم لا عناصر “ضد المواطنة” وحسب، بل يراهم أيضاً أفراداً لا يستحقون الحياة والمحاكمة العادلة أمام دولهم الأصليّة. 

هم كتلة من الأعداء لا بد من أن تترك بعيداً على أرض “غريبة” غير خاضعة للسيادة الوطنيّة، بالتالي هم يفقدون “فرنسيتهم” أو “ألمانيتهم”، وكأن ما ارتكبوه ليس بجرائم، بل نفي لمفهوم الوطن نفسه الذي يرفض استقبالهم أو عودتهم.

أمن “الجميع” مقابل “موت” البعض 

تباطأت الحكومات الأوروبيّة في موضوع “أُسر داعش”، أي مواطنيها ممن انضموا للتنظيم كزوجات، أو أبناء ولدوا هناك لآباء أوروبيين، وحجج عدم استعادتهم لمحاكمتهم تتلخص بعدم توافر آليات ترحيلهم إلى أوطانهم كذلك غياب معرفة حقيقة ما قاموا به من “جرائم”، والحجة الأشد سذاجة هي عدم توافر البنى التحتية لاحتجازهم، أي أنه لا يوجد سجن للإرهابيين في فرنسا مثلاً. 

أطلقت صفة “التباطؤ” بوصفها معياراً للحياة، فكلما امتدّ الزمن في الاحتجاز، تناقصت احتمالات النجاة، فالموت هو الهدف هنا، وهذا ما نراه حين تسعى قوة الأمن داخل الأراضي الفرنسيّة مثلاً إلى قتل المشاركين في الأعمال الإرهابية أثناء مطاردتهم أو تنفيذهم هجماتهم، كون المحاكمة لا ترضي الرأي العام، والعقوبات لا تتناسب مع طبيعة الجرم “الإرهابيّ”، فيختزل الزمن عبر القتل. 

يخلق الفناء لحظة الاشتباك أو الترك للموت فئتين، الأكثرية التي تتمثل بالمواطنين الصالحين. والأقلية، أولئك الأعداء الذين يشكلون تهديداً وجودياً ومستمراً في الزمن، والذين من الأفضل تركهم في المخيمات، فهم موسومون بالـ”لا فرنسية” واللاانتماء إلى قيم الجمهوريّة. 

إن أردنا أن نقارب الموضوع من وجهة نظر ثقافيّة، أولئك المتروكون في المخيمات أقرب للأُضحيّة، قَتلهم في المخيم لا يُجرّم أحداً، وتركهم لموتهم اختزال للعنف الذي يمكن أن يسببوه إن عادوا. هذه الأضحيّة تُقدم لحماية “الأكثريّة”، أولئك الصالحون المقيمون على أرض الوطن، الذين لهم الأولويّة، بعكس أولئك “الأعداء” المهددين بأن يُطردوا من النظام القانونيّ كلياً عبر نزع الجنسية منهم أو عدم محاكمتهم، فموتهم لا تدخل مباشراً للسلطة فيه، أي أنها لم تأمر بقتلهم، بل عرقلة عودتهم، ما يعني أنهم يجنون ثمار ما حصدوا، وعلى ابتذال هذه العبارة، لكن الجريمة الإرهابيّة تبدو حجة أوروبيّة لتعطيل القانون وترك الموسوم بها لموته. 

أفضليّة العقاب على المحاكمة 

لم يخضع أي من الموجودين في المخيم للمحاكمة، لأنهم ليسوا متهمين بشيء، خصوصاً الأطفال، هم في مساحة غامضة أطلق عليها في التقرير مصطلح “Absentia” أي “حوكموا غياباً”، من دون أن يواجهوا تهماً أدينوا بها، وإن تمت إدانتهم فهم لا يمضون مدة الحكم في المخيم، بل هم محتجزون قسراً. 

هنا نقترب من لغة الأدب، فـ”الحياة” هناك عقاب يصل حد التعذيب على جريمة غير محددة قانونياً، وإن كانت الإرهاب فلا سلطة لتنفيذ الحكم أو مراعاة شروط السجناء القانونيّة. وهنا تظهر خاصية أخرى لـ”مخيم الاعتقال” وهي تعليق الزمن وتحويل انتظار المحاكمة أو تنفيذ الحكم إلى عقاب منفصل عن العقاب على الجريمة، أي حتى لو تم الترحيل إلى فرنسا مثلاً، وإعلان البراءة أو الإدانة القانونيّة، فلا تحسب المدة التي أمضوها في المخيم كجزء من الحُكم. 

هذا “التكنيك” قرأنا دلالته في نص اقتراح القانون المذكور في البداية “فرنسا ليست مدينة لهم بشيء”، لكن هذه الـ”هم” تعود إلى نساء وأطفال لم يشاركوا في أعمال إرهابيّة، هم متروكون هنا في ظل تأخير بيروقراطيّ وأمني، أشبه بموت بطيء لا يتدخل “الوطن” به بل يشرف على إنجازه بتعطيل سيادته على مواطنيه. 

“الحياة” هناك عقاب يصل حد التعذيب على جريمة غير محددة قانونياً.

إشكاليّة الأنا الوطنيّة 

هذه العمليّة السياسيّة التي يحتجز إثرها المواطنون الأوربيون فقط لاقتران اسمهم بـ”داعش”، سواء كانوا أطفالاً رضعاً أو نساء أسرى، يدفعنا لإعادة النظر في مفهوم العداوة للتشدد الإسلاميّ، إذ يبدو أن هذا التشدد ينتقل بالدم من الآباء إلى الأبناء، وجنسياً من الرجال إلى النساء، سخافة هذه المقاربة التي نقترحها، هي ذاتها سخافة الحجة الأوربيّة التي ترى أن “الأنا الوطنيّة” البيضاء، لا يمكنها أن تنتج نوعاً من التشدد كهذا، والأمر أقرب إلى فايروس من الشرق، والمصابون به، لا بد أن يتركوا هناك ويحجروا كي لا تنتقل العدوى التعاطفيّة لبقية المواطنين المطيعين. 

هذا المُعدي بتشدده لا بد من إفنائه، إثر ذلك يظهر الترك للموت هنا كتقنية سياسية لا قضائيّة، كون المؤسسة القضائية من وجهة نظر الرأي العام غير قادرة على الوقوف بوجهه، ولا حتى المحاولات الثقافية كافتتاح “مراكز نزع التشدد” و”نشر التسامح” كانت ناجعة. 

هذه العدوى تظهر بوضوح في التهم الموجهة لفئة من المتشددين في فرنسا، لا يخالفون قيم الجمهوريّة فقط، هم أيضاً انفصاليون، أي يهددون وحدة التراب الفرنسي، وترحيل بعضهم أو ترك الإرهابين منهم لموتهم، ليس سوى “تطهير” للجسد الوطني الأوروبيّ، من ذاك العدو الذي لا تمكن محاكمته ولا إعادته إلى داخل هذا الجسد، بل لا بد من نفيه ونزع صفة المواطنة عنه، ما يتركه لأهواء مُحتجزيه. 

إقرأوا أيضاً: