fbpx

تأسيس إسرائيل وتاريخ تعذيب العرب الذي تم إخفاؤه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“دائماً ما قيل لي إن العرب جميعاً هم أعداء للدولة وطابور خامس”… حلت إسرائيل جهاز الحكومة العسكرية منذ سنوات، لكن ذكراه ما زالت راسخة داخل إسرائيل وخارجها، في الأراضي المحتلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يعود أصل الوحشية التي تم توثيقها بكل بشاعتها، عندما أطلق جندي إسرائيلي النار على شاب فلسطيني غير مسلح كان يحاول حماية مولد الكهرباء الذي يستخدمه هو وأسرته التي تعيش في فقر مدقع في تلال الخليل الجنوبية، إلى عقود ماضية، عندما كان الفلسطينيون يعيشون في إسرائيل تحت الحكم العسكري. فقد سلطت شهادات وردت في وثائق سرية كُشف عنها النقاب أخيراً- إضافةً إلى سجلات تاريخية من الأرشيف الإسرائيلي- الضوء على العنف الشديد الذي ساد نظام “الدولة داخل دولة”، الذي مارسته إسرائيل، بين عامي 1948 و1966، في مناطق شاسعة من البلاد كان يقطنها فلسطينيون.

لأكثر من 18 عاماً، كان معظم مواطني البلاد الفلسطينيين رهن نظامٍ مستبد. فمن جملة التضييقات التي تعرضوا لها، كان لا بد من استخراج تصريح لأيّ تحرك لهم خارج قراهم، وكانت مناطقهم تخضع لحظر تجوال مستمر، وقد منعوا من الانتقال للسكن في منطقة أخرى من دون الحصول على موافقة رسمية، وحظرت عليهم أشكال التنظيم السياسي والمدني، ومنعوا من دخول مناطق كاملة كان يعيشون فيها قبل عام 1948. وعلى رغم أن هذا الجزء من التاريخ تم إخفاؤه إلى حدٍ كبير عن معظم سكان إسرائيل من اليهود، فإنه يُشكل جزءاً لا يتجزأ من الهوية والذاكرة الجمعية لمواطني البلاد العرب. تتضمن هذه الذاكرة الجمعية أيضاً -إلى جانب نظام التصاريح والأذونات- التعرض للإساءة بشكل يومي وشبكة المخبرين والمتواطئين. 

من الناحية العملية، كانت الديموقراطية الإسرائيلية بالنسبة إلى الذين كانوا تحت الحكم العسكري مختلفة اختلافاً جوهرياً عمّا كانت عليه بالنسبة إلى اليهود. فقد ورد في خطاب من أرشيفات الدولة يعود إلى تشرين الأول/ أكتوبر 1950، كتبه جوشوا بالمون، مستشار رئيس الوزراء دافيد بن غوريون للشؤون العربية، إلى مقر الحكومة العسكرية أن ثمّة تقارير تُفيد بأن أفراد الحكومة العسكرية في منطقة المثلث (وهو تجمع لمدن وقرى عربيّة محاذية للخط الأخضر، وتقع في وسط البلاد)، كانوا يمارسون “ضغوطاً غير قانونية خلال التحقيق مع السكان، من قبيل استخدام الكلاب [ضدهم]، وتهديدهم وما شابه ذلك”.

بعد عام من ذلك، أوضح باروخ يكوتيلي، نائب بالمون، لأمين مجلس الوزراء أن الوضع في المناطق العربية يتطلب أحياناً “تعامل السلطات بقبضة من حديد”. صحيح أنه لم يتطرق إلى تفاصيل هذه السياسة، لكن الشهادات التي تم الكشف عنها تصف طريقة تطبيقها، وتُظهر كلها تعرض السكان العرب للإذلال والقهر.

ثم تَبين أن ممثلي الحكومة العسكرية هددوا المواطنين لمنعهم من تقديم شكاوى حول الإجراءات التي اتخذت ضدهم. مثلاً، أمر حاكم عسكري (كان هناك ثلاثة حكام عسكريين: حاكم لِلنقب وحاكم للمثلث وحاكم للشمال) المترددين على مقهى القرية بالوقوف احتراماً له عند دخوله إلى المقهى، وهدد كل من رفض الانصياع لأوامره، وكان الجنود يسلون أنفسهم بترويع المواطنين العرب وذلك من خلال استخدام أكتافهم لتثبيت الأسلحة عليها، بينما منع آخرون المواطنين المسلمين من تأدية الصلاة. وفي أحيان أخرى، كان ممثلو الحكومة العسكرية يضايقون المزارعين ويدمرون ممتلكاتهم. وقد تعرض الناس للإذلال باستمرار وخوطبوا بأسلوبٍ فظ، وارتكبت أعمال عنف بحق الأطفال، وتوعد موظفو الحكومة العسكرية المواطنين العرب في حال عدم تصويتهم للمرشحين المفضلين لدى السلطات.

سُئل أحد الضباط: “هل يتملكك شعور بأن العرب هم أعداء دولة إسرائيل؟” ليجيب بمنتهى البساطة قائلاً، “نعم”. وعندما سُئل: “هل ستقدم على قتل أي شخص؟ حتى لو كانت امرأة، وحتى لو كان طفلاً؟” أجاب مجدداً: “نعم”. 

لكن تلك الأخبار دحضتها معلومات ذكرها زلمان ميرت، حاكم المثلث، في شهادته التي أدلى بها عام 1957 خلال المحاكمة العسكرية التي عُقدت لمحاسبة منفذي مذبحة كفر قاسم التي وقعت عام 1956، وذلك عندما فتحت شرطة حرس الحدود الإسرائيلية النيران على قرويين عرب لم يكونوا على علمٍ أصلاً بفرض حظر التجول، ما أودى بحياة 49 شخصاً منهم. وفقاً لميرت، لم تصدر أوامر مباشرة بقتل من ينتهك حظر التجوال، لكن كان هناك بروتوكول نوعاً ما للعقاب: “يمكنك صفع من ينتهك حظر التجول أو ضربه بعقب البندقية على ساقه أو الصراخ في وجهه”.

تُقدم لنا مجموعة من الشهادات الطويلة التي أدلى بها ضباط من شرطة حرس الحدود، الذين كانوا يقومون بدور الشرطة في القرى العربية، صورة عن الحياة اليومية في ظل الحكومة العسكرية. فقد كانت صراحة الضباط في شهاداتهم التي أدلوا بها بلا حرجٍ وبلا أيّ مواربة خلال محاكمة كفر قاسم مفجعة للغاية. فقد سُئل أحد الضباط: “هل يتملكك شعور بأن العرب هم أعداء دولة إسرائيل؟” ليجيب بمنتهى البساطة قائلاً، “نعم”. وعندما سُئل: “هل ستقدم على قتل أي شخص؟ حتى لو كانت امرأة، وحتى لو كان طفلاً؟” أجاب مجدداً: “نعم”. شهِد ضابط آخر أنه إن تلقى أمراً بفعل ذلك، لفتح النيران على حافلة فيها نساء عربيات. في حين فسر ثالث ذلك قائلاً: “دائماً ما قيل لي إن العرب جميعاً هم أعداء للدولة وطابور خامس”.

إقرأوا أيضاً:

لم يبد الضباط قدراً كبيراً من الشفقة عندما سُئِلوا عن إطلاق النار على أفراد لا حول لهم ولا قوة، بل وأكَّد أغلبهم أنهم لن يترددوا في فعل ذلك إذا ما لزم الأمر. وأشار أحدهم إلى أنه لو قابل طفلاً مصادفةً، “انتهك” حظر التجول، “على رغم من أن الأمر قد يبدو قاسياً، كنت لأطلق النار عليه. إذ إنني سأكون ملزماً بفعل ذلك”.

“يمكنك صفع من ينتهك حظر التجول أو ضربه بعقب البندقية على ساقه أو الصراخ في وجهه”.

قدم أشخاص كانوا يعيشون في ظل الحكومة العسكرية شكاوى من دون الكشف عن هوياتهم. عام 1958، أُرسل تقرير صادر عن “الرابطة اليهودية العربية للسلام” إلى لجنة وزارية، جاء في مستهله توضيح الأسباب وراء تجهيل هوية مقدمي الاتهامات: “في حالات سابقة، مارس جهاز الحكومة العسكرية أساليب التهديد والضغط على الأشخاص [أي المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل] الذين أدلوا بشهاداتهم ضده”. وقد جمعت الرابطة عدداً كبيراً من الروايات وأرفقت اسم مقدم الشكوى بكل منها، وطلبت “من الوزراء الموقرون أن يضمنوا عدم ممارسة مثل هذه الضغوط وعدم تعرض الأشخاص للأذى بسبب شهادتهم”.

سلطت شهادات من قرية الجش (غوش حلاب) يرجع تاريخها إلى عام 1950– ومحفوظة في سجلات أرشيف ياد يعاري- الضوء على ما حاولت الحكومة العسكرية إخفاءه. فقد روى أحد السكان المحليين، ناما أنتاناس، كيف اقتحم عناصر تابعون لها منزله في منتصف الليل واقتادوه للتحقيق معه.

حلت إسرائيل جهاز الحكومة العسكرية منذ سنوات، لكن ذكراه ما زالت راسخة داخل إسرائيل وخارجها، في الأراضي المحتلة. آنذاك، كان هذا الجهاز يُشرف على المواطنين الفلسطينيين في البلاد، ويحكمهم داخل حدود الخط الأخضر، في حين يتولى الجنود الآن القيام بأعمال الشرطة ضد السكان المدنيين على امتداد الخط الأخضر. وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ لا تزال غالبية الشعب الإسرائيلي تتقبل الأخطاء التي تُقترف وهي صامتة.

وجهت إلى أنتاناس تهمة شراء زوج من الأحذية المهربة. وقال له المحققون إنه إذا لم يتحدث، فإنهم سيجبرونه على الحديث بطريقتهم. وبحسب شهادته: “في هذه الأثناء، أُمرت بخلع حذائي وإزالة غطاء رأسي. وعندما فعلت ذلك، أُجبرت على الجلوس على الأرض ورُفعت قدماي ووُضعتا على كرسي. وفي تلك اللحظة، اقترب مني جنديان وطَفِقَا يضربانني على أخمص قدماي بعصا خشبية مأخوذة من جَرِيد النخل القاسي”. ثم أُلقي به إلى خارج المكان غير قادر على المشي.

روى شخص آخر أيضاً، يُدعى الطافي، أن قوات الأمن اقتحمت منزله وضربته بلا رحمة. وأخبره أحد مسؤولي الحكومة العسكرية بأنهم سيعدمونه وأمروه بركوب السيارة، بينما وقفت زوجته تشاهد ما يحدث وهي في حالة ذهول. وبعد قيادة السيارة لمسافة قصيرة، توقفت السيارة إلى جانب الطريق، ووجه مسدس إلى رأس الطافي. وبعد ذلك، تعرض مجدداً للضرب المبرح وألقي في حظيرة حيوانات، حيث قال إنه ظل قابعاً هناك لمدة أسبوعين.

تعرض حنا يعقوب جراسي لمعاملة مماثلة، بعدما وصفه الحاكم العسكري بأنه “قمامة”. وضُرب على يديه حتى نزفتا. يتذكر ما حدث معه قائلاً، “بعد ذلك أخرجوني وأحضروا أحد أصدقائي، وفعلوا الشيء ذاته معه. ثم أحضروا ثالثاً وتكرر الأمر  مجدداً”.

تدفعنا مجموعة الشهادات المتنوعة التي كشفناها إلى التشكيك في أقوال ميشيل شاهام، قائد الحكومة العسكرية بين عامي 1955 و1960. فعام 1956، قال أمام إحدى اللجان الحكومية التي كانت تناقش مستقبل تلك الهيئة، إنها “ليست خطيرة”، بل إنها “تُشكل عنصراً أساسياً من عناصر التوعية بالمواطنة الصالحة”.

الأمر الواضح هنا هو أن الدولة اتخذت خطوات لحجب المعلومات عن العامة في ما يتعلق بما حدث في ظل الحكومة العسكرية. ففي شباط/ فبراير 1951، ثار غضب رئيس هيئة أركان قوات الدفاع الإسرائيلية آنذاك، يغائيل يادين، بسبب نشر تقرير عن طرد 13 قروياً عربياً من قراهم. ووفقاً لما قاله يادين، “فإن تقارير كهذه من شأنها أن تضر بأمن الدولة، وعلى هذا فلا بد من إيجاد وسيلة تُمكن الرقابة من تأجيل نشرها”. كان الشاعر ناتان الترمان يعرف ما كان يتحدث عنه عندما كتب بعد عامٍ واحد قصيدة “اهمس سراً”، التي انتقدت نظام الرقابة الصارم.

حلت إسرائيل جهاز الحكومة العسكرية منذ سنوات، لكن ذكراه ما زالت راسخة داخل إسرائيل وخارجها، في الأراضي المحتلة. آنذاك، كان هذا الجهاز يُشرف على المواطنين الفلسطينيين في البلاد، ويحكمهم داخل حدود الخط الأخضر، في حين يتولى الجنود الآن القيام بأعمال الشرطة ضد السكان المدنيين على امتداد الخط الأخضر. وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ لا تزال غالبية الشعب الإسرائيلي تتقبل الأخطاء التي تُقترف وهي صامتة.

هذا المقال مترجم عن هآرتس ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً: