fbpx

حين توقفت حياتي لحظة وفاة ابني في انفجار بيروت!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الزمان والمكان لم يعودا يعنيان الشيء نفسه، والحزن ليس على خسارة ابني وحسب، ولكن أيضاً على فكرة أن حياتنا تغيرت إلى اللاعودة، حيث الوقت سيمضي سواء أحببنا ذلك أم لم نحب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ أشهر، فقدت ابني.

أكتب هذه الكلمات المعدودة، وأعيد قراءتها مراراً، من دون أن أفهم أي شيء منها، وكأنني أقرأ بلغة غريبة عني. عبثاً أحاول قراءتها، وكأنني أقرأ كلمات لغيري، وكأنها لا تتحدث عني. أقرأها وكأنها مقتطف من رواية، أو خبر مؤلم عن عائلة لم ولن ألتقيها يوماً، أقرأها خبراً يحزنني لبرهة قبل أن أعود إلى حياتي. كلمات أستصعب أن أصدّق أنها باتت تختصر حياتي، وأنني أصبحت من هؤلاء الذين يحدّق بهم الناس قبل أن يشكروا الله أن ما أصابني لم يصبهم.

سارة كوبلاند وابنها اسحاق

ما زلت بعيدةً كل البعد من مشاعر الحزن. أتنقل بين مراحل مختلفة من الإنكار. لم أستطع أن أستوعب أي شيء بعد فاجعة موت ابني في انفجار بيروت، وهو أكبر انفجار غير نووي في التاريخ. كل شيء حدث بسرعة. أذكر أنني كنت مع ابني اسحاق نتناول العشاء ونغني، وبعدها وجدت نفسي في منزل أهل زوجي في مدينة برث في أستراليا، أبعد ما أكون من بيروت، ولكن من دون اسحاق. أعرف أن الكثير من الأحداث حصلت بين هاتين اللحظتين، الانفجار والمستشفى وتحدي السفر خارج لبنان. ولكن كل هذا أذكره أطيافاً مبعثرة. بثوان، تغيرت حياتنا رأساً على عقب وهوت على الأرض. ما حصل كان صعب التصديق، وعقلي ما زال غير قادر على التعامل معه، فهو يقع خارج فكرتنا عن أي شيء كنا نعتبره خيالياً. عندما أفكر في هذا اليوم، يوم الانفجار، وكل الأيام التي تلت، لا أتذكر الأحداث بل أشعر بأنني أشاهد نفسي في فيلم.

عدم قدرتي على استيعاب ما حصل في الانفجار وكيف مات اسحاق، يعني أيضاً أنني لا أستطيع استيعاب واقعي الجديد. أشعر بنفسي متطفلة على هذا العالم، مشاهدة لا مشاركة. والحياة في برث تبدو سوريالية وغير طبيعية، وكأنني انزلقت في عالم موازٍ، وأنتظر لحظة عودتي إلى العالم “الحقيقي”، حيث اسحاق ينتظرني لتكتمل عائلتنا. وفي المناسبات المعدودة، التي أدرك فيها أنني فعلاً أعيش في ضاحية برث، وأن هذا العالم بات حقيقياً، أصبح غير قادرة على التعامل مع حياتي السابقة وكأنها كانت حقيقية في يوم من الأيام، ويصبح ماضيَّ – حيث اسحاق – هو الخيال. فهل كانت حياتي مع اسحاق مجرد حلم جميل؟ أو هل أعيش الآن كابوساً يأسرني وأعجز عن الاستيقاظ منه. التناقض بين الحياتين فجّ، وحياتي الآن سوريالية، والصدمة كانت قاسية، لدرجة أنني أعجز عن مصالحة هاتين الحياتين، ولذلك أفترض أنه لا يمكن إلا أن تكون واحدة منهما حقيقية والثانية خيالاً.

عندما أفكر في هذا اليوم، يوم الانفجار، وكل الأيام التي تلت، لا أتذكر الأحداث بل أشعر بأنني أشاهد نفسي في فيلم.

الصلة الوحيدة بين هاتين الحياتين، هي هذه الذكريات التي تعصف يومي من دون استئذان. صوت قوي يجعلني أرغب في الاختباء في سريري، أصوات الأطفال تعود بي إلى المستشفى، حيث كان المصابون يتنقلون بين الممرات، ولحظات الصمت تعيد إلي صورة اسحاق الأخيرة ووجهه الخائف والقلق. الناس حولي يذهبون إلى العمل ويقصدون الحفلات ويمضون الوقت مع أولادهم. يضحكون ويبكون ويقلقون على مشكلاتهم. يعيشون حياة عادية، غير مدركين أن تفاصيل صغيرة تعود بي مجدداً إلى هذا اليوم المشؤوم في بيروت. يكملون حياتهم بينما أبقى أنا حيث أنا، مجمّدة في مكاني.

تأثير الوقت في الحزن يختلف عما اعتقدته في السابق. نعم، الشمس تشرق يومياً وتغيب يومياً، ولكن الحياة كما عرفتها توقفت يوم 4 آب/ أغسطس الساعة 6:08 مساء، وبقي جزء مني هناك، وصعب علي أن أستوعب مرور أشهر على الانفجار. كيف عشتها من دون ابني الصغير؟ قبل موته، كنت أمضيت سابقاً ثلاث ليال فقط بعيدة منه. الليلة الأولى عندما كان عمره 8 أشهر، وكنت قد دخلت المستشفى بسبب فايروس في معدتي. أذكر أنني كنت أجلس على سريري في مستشفى في نيويورك، أضخّ الحليب من صدري وأبكي بحرقة، واسحاق كان على بعد كيلومتر واحد، موجود في مكان آمن مع والده، ولكنني شعرت وقتها بأنه بعيد ملايين الأميال. والمرة الثانية كانت عندما كان يبلغ من العمر ثمانية عشر شهراً، وكان علي أن أسافر لمدة ليلتين إلى الكويت في مهمة عمل. بكيت وقتها طوال الوقت وعاهدت نفسي ألا أسافر مجدداً إلا إذا كان اسحاق معي.

ها أنا أمضي أكثر من 154 ليلة بعيدة منه، وما زال أمامي عمر كامل.

عندما كنت أتذكر هذه الليالي الثلاث التي أمضيتها بعيداً من إسحاق، كنت أصفها على أنها العذاب الأقصى، ولكن ها أنا أمضي أكثر من 154 ليلة بعيدة منه، وما زال أمامي عمر كامل. كيف أمضيت هذه الليالي من دون أن أقرأ له قصة قبل النوم؟ من دون أن يحضنني ويتمنى لي ليلة سعيدة؟ من دون أن أتسلل إلى غرفته ليلاً لأتفقده في سريره؟ كيف استطعت أن أعيش أكثر من 154 ليلة؟ لا أريد أن أتقدم خطوة إلى الأمام، فكل خطوة أمامية تبعدني منه ومن حياتنا معاً. ولا أستطيع أن أرجع إلى الوراء، فأجدني هنا عالقة في اللازمان، حيث الحياة تتحرك حولي، أما أنا فما زالت عقارب الساعة عندي تشير إلى 6:08 مساء. 

اللحظات المرعبة التي عاشها إسحاق وما حصل له، والحزن الذي أشعر به، يتملكان كياني، يفيضان بي إلى أن أختنق. أعيش في حالة متواصلة من التنافر المعرفي cognitive dissonance أو رفض الواقع، فمن جهة، أنا مدركة تماماً لما حصل، ومن جهة أخرى، أنا غير قادرة على تصديقه أو تقبّله. الزمان والمكان لم يعودا يعنيان الشيء نفسه، والحزن ليس على خسارة ابني وحسب، ولكن أيضاً على فكرة أن حياتنا تغيرت إلى اللاعودة، حيث الوقت سيمضي سواء أحببنا ذلك أم لم نحب.

*سارة كوبلاند موظفة في الأمم المتحدة تعمل على قضايا الجندر وحقوق النساء

ترجمة : فرح شقير

هذه المادة مترجمة عن موقع theguardian.com لقراءة المادة الأصلية زوروا الرابط هنا

إقرأوا أيضاً: