fbpx

السلفية الكُردية وهابية … إلا أنها “تعوذ بالله من السياسة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

شكل “نبذ الخلاف والفرقة” على أسس تنظيمية، جوهر خطاب التيار السلفي الكردي المنبثق منذ نشأته من المد السلفي السعودي، إلا أنه انحدر إلى ما كان يحذر منه طوال سنوات وغرق في خلاف بين أجنحته المتناحرة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شكل “نبذ الخلاف والفرقة” على أسس تنظيمية، جوهر خطاب التيار السلفي الكردي المنبثق منذ نشأته من المد السلفي السعودي، إلا أنه انحدر إلى ما كان يحذر منه طوال سنوات، في الآونة الأخيرة عبر احتدام الخلاف بين أجنحته المتناحرة على خلفية موالاة رموز ودعاة يتصدرون “مشهد الدعوة”. وهو ما انعكس سجالات عنيفة بين أقطاب السلفية الكردية ودعاتها ومشايخها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن وصول السلفية بنسختها الوهابية إلى مناطق الأكراد مثّل تحدياً للإسلام المحلي، الذي شهد تاريخياً ازدهاراً لمدارس التصوف الذي اشتهرت فيه البيئة الكردية.

يعود تاريخ نشوء هذا التيار “السلفية العلمية”، في كردستان العراق إلى منتصف الثمانينات، من طريق السعودية التي كانت تساند بغداد في حربها مع طهران، فتأسست في السليمانية أول مدرسة باسم “عمر بن الخطاب السلفية” وتحديداً في مسجد “الإيمان” وعلى تلة تاريخية اسمها “مامه ياره”، بقيادة الملا عمر السلفي الذي تخرج من الجامعة الإسلامية في “المدينة”.

وكان نظام صدام يتغاضى عن انتشار هذا التيار الآتي من السعودية تارة، ويضيق عليه تارة أخرى، بحسب العلاقة مع الرياض من جهة، وشكاوى  وتحذيرات الشخصيات الدينية والاجتماعية الكردية النافذة، المناوئة لنهج السلفية والتي كانت لا تنسجم مع الإسلام الكردي التقليدي الموالي للطرق الصوفية، من جهة أخرى.

وبعد الانتفاضة الشعبية، وخروج المحافظات الكردية من قبضة النظام البعثي عام 1991، انطلق ربيع الإسلاميين الأكراد في ظل ما عرف بـ”الصحوة الإسلامية”، ومن ضمنها السلفيون الذين استغلوا الفرصة لتوسيع نشاطاتهم، بعد أن فتحت لهم أبواب التواصل مع الدعوة الأم في أرض الحرمين، بعيداً من أعين رجال الأمن والمخابرات العراقية. لكن وعلى عكس أقرانهم من “السلفية الجهادية” والإسلاميين الحركيين، الذين ركزوا على العمل السياسي ومواجهة “التغريب” و”العلمانية”، ركز السلفيون جل طاقاتهم في محاربة “الحزبية”، والتحذير من الانخراط في السياسة، إلى جانب تركيزهم على مواجهة “البدعة ومظاهر الشرك” وفق أدبيات هذا التيار الذي يفضل اسم “الدعوة” على ما سواها من المسميات الأخرى كـ “الجماعة” والـ”حركة”. فتوسعت النسخة السعودية من السلفية من أقصى شمال كردستان “دهوك” إلى أقصى جنوبه “كرميان”، وتصدر صفوفها دعاة ورموز تجاوزوا الجغرافيا الكردية، أشهرهم حمدي عبد المجيد السلفي، الذي ذاع صيته كمحقق ومؤلف لكتب الحديث وأسانيد الرجال، وكانت له حظوة في الخليج، بسبب تتلمذه على يد القطب السلفي الشهير محمد ناصر الدين الألباني، منتصف القرن الماضي.

ومع حلول سنوات الألفين، تراجعت “الصحوة الإسلامية” الكردية، لأسباب عدة بينها: تداعيات أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، وهيمنة الأحزاب العلمانية على السلطة في كردستان، وتشرذم الأحزاب الإسلامية وانشقاقها إلى أجنحة متناحرة، وتوقف المد السلفي عن التوسع مع توقف “الصحوة”، لفقدان الدعامة التي كان يستند إليها والمتمثلة بـ”ضرورة مواجهة الإسلام الحركي”.

هذا الجمود الذي أصاب الدعوة السلفية، فتح عليها أبواب الصراعات الداخلية، في ظل انشطار أجنحة جماعة الأم في السعودية إلى أجنحة “المدخلية” و”الصحوة”، وأتباع المشايخ القدامى التقليديين في السعودية وما يطلق عليهم “كبار العلماء”. وفي سياق هذا الحراك تمكن جناح “المدخلية” من ترجيح الكفة لصالحه في الوسط السلفي الكردي، نظراً إلى مكانته في السعودية، وتواصل “ربيع بن هادي المدخلي” نفسه ومساعديه، مع أقطاب السلفية الكردية، ومتابعة أحوالهم عبر لقاءات، وزيارات نظمت، على هامش رحلات الحج والعمرة.

سيطر “التيار المدخلي” في كردستان، وحسم الأمور لمصلحته، لكنه لم يتمكن من توحيد السلفيين الأكراد ضمن إطار تنظيمي جامع، فعلى رغم استقتال الدعاة والناشطين السلفيين الأكراد على منهج “المدخلي” الداعي إلى نبذ الحزبية ومقاطعة “المبتدعة” ورص صفوف السلفية، إلا أنهم أصيبوا بالداء ذاته، فانقسموا إلى أقطاب ورموز ومشايخ محليين بشكل حاد، وتخلل ذلك تبادل اتهامات على المناب.

البيانات والمنشورات السلفية التي تكشف التناحر في كردستان، دفعت كثيرين إلى القول إن الدعوة في هذه البقعة، بقيت كاسم برّاق لدى الموالين لها، إلا أنها تأبى الاجتماع في إطار جامع، وحتى الاتفاق على مشتركات للعمل، إذ يقاطع عدد كبير من دعاتها، القناة الفضائية الوحيدة السلفية باللغة الكردية “النصيحة”، ويحذرون من صرف الزكاة عليها، بحجة التعارض مع الشريعة، وغموض التمويل، والانحراف عن تفاهمات التأسيس، فيما ينهمك مديرها عبد اللطيف أحمد، والملتفين حوله في جامع ”بهشت- الجنة” في مدينة السليمانية، بالرد على خصمهم، شيخ جامع “الإيمان” عبدالكريم محمد، الذي يقوده الجناح المناوئ لهم، وتفاقمت الخلافات بينهما، حتى عجز شيخهم ربيع المدخلي عن حلها وتصفيتها، حينما حاول التوسط لإجراء مصالحة بين الجناحين.

انشغال جناحي السلفية في السليمانية التي تعد عاصمة للثقافة الكردية، بكباش الأقطاب، يعقب فقدان التيار عصره الذهبي حينما كان يمتلك همزة وصل قوية مع امتداداته في مدينة دهوك ومنطقة بهدينان، تمثلت بـ”كلية الشريعة”، التي كانت تُمول من السعودية، قبل أن تقدم حكومة الإقليم على إغلاقها بحجة “السير في الاتجاه الخاطئ ومعاداتها لوسطية الإسلام” قبل سنوات. تلك الكلية كانت ترفد السلفيين بخريجين دعاة في الوسط الأكاديمي، وأئمة جوامع، إضافة إلى ذلك شكلت نقطة تواصل مهمة بالنسبة إلى السلفيين في شمال كردستان وجنوبه، بعد غلبة أتباع الصوفية في العاصمة إربيل.

وكان شد الرحال إلى “كلية الشريعة في دهوك” أُمنية لدى كل سلفي كردي يتخرج من الإعدادية. وبتغييبها عن المشهد، ورحيل الداعمين لها أمثال “حمدي السلفي” و”علي بن نبي”، واختفاء معظم أساتذتها وانخراطهم في التعليم الأكاديمي الحكومي، فقد السلفيون في المنطقتين الكرديتين “سوران وبهدينان”، أواصر التواصل، ورسخت هذه القطيعة الانقسامات السياسية والثقافية واللغوية التي تتحكم أساساً بعلاقة هاتين المقاطعتين، وأدت هذه القطيعة إلى مزيد من التشرذم في صفوف السلفية الكردية، في ظل تمسكها برفض وتحريم إقامة روابط تنظيمية أو أحزاب وتجمعات عصرية، على شاكلة الأحزاب الإسلامية أو العلمانية.

وبانسحاب شيخ جامع “بهشت” ومدير قناة “النصيحة” عبداللطيف أحمد، من التيار “المدخلي”، وإعلانه الولاء لخط مشايخ السلفية التقليديين قبل فترة، أضيفت إلى المشاحنات السلفية البينية الكردية، جبهة جديدة، وهي ترجمة مناكفات السلفيين في البلد الأم السعودية في الساحة الكردية، في ظل معاناة سلفية مزمنة من هشاشة التنظيم والهيكلية، فضلاً عن التراجع تحت تأثيرات الحداثة والمد القوي للثقافة الغربية، بالتوازي مع دفع السلفيين “العلميين” المتصالحين مع الحكام، ثمن انخراط من يحملون اسمهم من “القاعدة” و”داعش” في أعمال عنف وقتل وتدمير، يستهلك التبرؤ منها الكثير من الجهود والطاقات بسبب تشابه مفردات خطاب الطرفين وتقاربها، على رغم اتساع الهوة بينهما في العمل والأسلوب والمواجهة بين “سلفية جهادية تكفيرية” تسعى إلى الحكم والخلافة، و”سلفية علمية” تركت الحاكمية لـ”ولاة الأمور” وتعوذ بالله من السياسة.