fbpx

الأوكسيجين السوري: الاستثمار السياسي بالبؤس اللبناني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يفتح هذا البؤس الذي نعيشه الباب أمام شتى أنواع التوظيف والاستثمار السياسي، تماماً مثل خطوة زيارة وزير الصحة دمشق، واستعراضه عملية التبرّع بالأوكسيجين. إنه التسبب بالبؤس، ومن ثم الاستثمار به!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من بوّابة إنقاذ البلاد من أزمة نقص الأوكسيجين المقبلة، زفّ وزير الصحّة من دمشق خبر هبة الأوكيسجين السوريّة، وقوامها نحو 75 طناً ستأتي على ثلاث دفعات، منها 25 طناً طلب الرئيس السوري إرسالها كدفعة أولى إلى لبنان. الهبة، وعلى رغم “ضخامة” الرقم الشكليّة، بالكاد تكفي لحاجة مستشفى واحد كمستشفى بيروت الحكومي لمدّة ثلاثة أسابيع، وهو ما يجعل الاحتفاء الإعلامي الكبير بهذه الكميّة الضئيلة أقرب إلى الاستثمار السياسي المستغرب، في قضيّة حسّاسة لا يُفترض أن يتم توريطها بهذا النوع من الحسابات والاستعراضات. هذا النوع من التوظيف السياسي لعمل الوزير، الذي تم تسويقه من البداية كوجه تكنوقراطي نشيط، ذكّر الجميع بحادثة توريط وزير الصحّة السابق جميل جبق في مؤتمر صحافي في أوجّ أيام الثورة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، يوم حذّر من تداعيات قطع الطرقات والاحتجاجات على القطاع الطبي وتوريد المستلزمات الطبيّة، في حين أن القطاع كان يصرخ في تلك الفترة من تداعيات شح الدولار ونقص المستلزمات نتيجة الأزمة الماليّة. 

أغرب ما في الأمر في خطوة وزير الصحّة الحالي، لم يكن ضآلة قيمة الهبة قياساً بحجم الاستعراض الإعلامي الذي أحاط بها، بل ابتعادها أساساً من التعامل مع أكبر مشكلات القطاع الفعليّة، والتي يفترض أن يُسأل عنها وزير الصحّة نفسه مع سائر وزراء حكومة حسان دياب المستقيلة اليوم من واجباتها كحكومة تصريف أعمال، بعدما استقالت منذ بداية تشكيلها من واجباتها في التعامل مع آثار الأزمة الماليّة. فمستشفيات لبنان لا تعاني اليوم من أزمة في تأمين أوكسيجين، الذي يُنتج محليّاً بكميات وازنة، بل تعاني من أزمة كبيرة في تأمين المستلزمات الطبيّة نتيجة شح الدولار وتقنين مصرف لبنان السيولة التي يوفّرها لاستعمال هذه المستلزمات، بعد تهريب دولارات الاحتياطي طوال السنة الماضية بغياب قانون “الكابيتال كونترول” الذي تراجعت حكومة دياب عن طرحه، من دون أن يبادر أي وزير –ومنهم وزير الصحة- إلى قرع جرس الإنذار أو المبادرة للتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة على جميع القطاعات التي تستفيد من الدعم ومنها القطاع الصحي. وبذلك، تصبح خطوة وزير الصحة الأخيرة أبعد من التوظيف السياسي لمأساة صحيّة موجودة، لتصل إلى حد تجاهل المسؤوليّة والاستثمار بالبؤس الناتج عن ذلك.

القطاع الصحي: ضحيّة تهريب السيولة

لم يعد هناك شك لدى أحد في هذه الجمهوريّة أن ما يحصل على مستوى شح الدولارات المتوفرة لدى مصرف لبنان ناتج قبل شيء عن ظاهرة تهريب السيولة من خزائن المصرف المركزي، وأن هذه الأزمة ناتجة عن تواطؤ سياسي رسمي أدى إلى التقاعس عن إقرار ما يلزم من قوانين لمنعها. قبل سنة بالتمام، كان لدى مصرف لبنان ما يقارب الـ35 مليار دولار من الاحتياطات، فيما تبقى اليوم نحو 16 مليار دولار، وفقاً لتصريح وزير الماليّة الأخير. بمعنى آخر، استنزف مصرف لبنان خلال سنة واحدة نحو 19 مليار دولار من احتياطاته، في حين أن مجمل ما احتاجته البلاد لدعم استيراد السلع الأساسيّة لم يكن يتخطى مستوى الـ6 مليارات دولار (500 مليون دولار شهريّاً، وفقاً لتصريح وزير المال). وبذلك، يصبح من الأكيد أن ما يقارب 13 مليار دولار خرجت من خزائن مصرف لبنان لأسباب تتصل حكماً بتهريب السيولة لمصلحة فئة محدودة من النافذين في القطاع المالي والنظام السياسي.

قبل سنة تحديداً، خلال شهر آذار/ مارس 2020، طرح مجلس الوزراء على بساط البحث فكرة إقرار مرسوم مشروع قانون للكابيتال كونترول، لمنع الاستنسابيّة في التعامل بين المودعين، ولمنع تهريب ما تبقى من سيولة في النظام المالي ومصرف لبنان، ولحماية القطاعات التي ما زالت تستفيد من دعم المصرف المركزي، كالقطاع الصحي. يومها، دخل وزير الماليّة طالباً سحب مشروع القانون من نطاق التداول، مطلقاً عبارته التي باتت شهيرة منذ ذلك الوقت “لأن مرجعيتي السياسيّة ترفض ذلك”. ومنذ ذلك الوقت، نامت فكرة مشروع القانون في مجلس الوزراء، وأطلقت الحكومة بذلك التسيّب في كل ما يتعلّق باستعمال دولارات المصرف المركزي، وشهد اللبنانيون التهريب المنظم لدولارات مصرف لبنان. 

وهكذا، وبعد سنة كاملة من استنزاف دولارات مصرف لبنان في عمليات تهريب الأموال، وبعد غياب كامل للحكومة بمختلف مكوناتها عن المشهد، وبعد الشح في الدولارات المتبقية لدى المصرف المركزي، وصلنا إلى مرحلة ترشيد  الدعم أو تقنينه. الحكومة، مرّة أخرى، كانت غائبة عن المشهد، ولم تحدد أي أولويات أو معايير لترشيد الدعم على أساسها. ومن بين الغائبين عن المشهد كان حكماً وزير الصحّة الذي لم يقدم على أي خطوة ليضمن تحييد القطاع الصحّي عن تداعيات هذه المرحلة. 

بغياب الخطة الحكوميّة، وجد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه مطلق اليدين ليرشّد الدعم ويقننه على هواه، وأوّل ضحايا هذا التقنين كان القطاع الصحّي والمستشفيات. فمصرف لبنان لم يعلن عن أي سياسة رسميّة لتقنين الدعم المقدّم لاستيراد المستلزمات الطبيّة، لكنّه عمد إلى تعقيد معاملات استيراد المعدات الطبية وإبطائها إلى أقصى حدود، وصولاً إلى مراكمة معاملات الاستيراد لأشهر في أدراج البنك المركزي. أما النتيجة فكانت إحجام المستوردين عن اللجوء إلى دولارات مصرف لبنان المدعومة، ومطالبة المستشفيات بالدولار النقدي لتأمين المستلزمات الطبيّة، وخصوصاً في ظل رفض الشركات الأجنبيّة الموردة لفكرة الانتظار لأشهر قبل تلقي مستحقاتها.

أما أخطر ما في الموضوع، فهو أنّ مستوردي أجهزة التنفّس الاصطناعي كانوا في طليعة المطالبين بالدولارات الطازجة لاستيرادها، بالنظر إلى التنافس الشديد الذي تشهده الأسواق الخارجيّة على هذه الأجهزة في ظل أزمة “كورونا”، ومطالبة الشركات المنتجة لهذه الأجهزة بالدفع السريع والفوري. كل هذه التطورات، دفعت نقابة المستشفيات الخاصّة في مرحلة من المراحل إلى إطلاق صرختها الشهيرة، التي حذّرت من تراكم المعاملات العالقة لدى مصرف لبنان، ومن ظاهرة طلب الموردين للدولار النقدي لشراء الأجهزة والمعدات الطبيّة، ومن قدرة المستشفيات على الصمود في ظل هذه التطورات.

وهكذا، دفع القطاع الصحي ثمن تقنين مصرف لبنان الدعم من دون وجود خطة متفق عليها حكومياً لهذا التقنين، ومن دون تدخّل صارم من الوزير الذي يفترض أن يحرص على مصالح هذا القطاع. لا بل دفع القطاع قبل كل شيء كلفة غياب الآليات الكفيلة بالحفاظ على دولارات مصرف لبنان، منذ أكثر من سنة، وبإصرار متعمّد من القوى السياسيّة المشاركة في الحكومة.

فوضى اللقاحات

عملياً، لم يكن شح الدولار أزمة القطاع الصحي الوحيدة التي نتجت عن التقاعس الرسمي. الفوضى في عمليّة التلقيح، وما نتج عنها من تجاوزات، كانت أبرز تجليات هذا التقاعس، وخصوصاً مع تقديم نحو 15 ألف لقاح لأشخاص من خارج المنصّة التي أعلنت عنها وزارة الصحّة. حجة بعض المسؤولين عن هذه التجاوزات كانت تقاعس عدد من المسجلين على المنصّة عن التقدّم لأخذ دورهم في تلقي اللقاح، وهو ما دفع بعض المستشفيات إلى تمرير هذه اللقاحات لأشخاص آخرين، بعضهم كان من خارج الفئة العمريّة المستهدفة. لكنّ الكثير من المتابعين يشيرون إلى أنّ هذا اللغط جاء عن قصد، من خلال إغراق المنصّة بطلبات وهميّة متكررة، لإتاحة المجال لأشخاص آخرين لتلقي هذه اللقاحات مكان هذه الطلبات الوهميّة. وفي كل الحالات، وكما كان متوقعاً، ما زالت قضيّة هذه المخالفات قيد التحقيق لدى التفتيش المركزي، من دون أن ينتج عنها حتى اللحظة أي خطوات عمليّة لكشف المسؤولين عنها.

ومع التأخّر الذي تشهده البلاد في الحصول على جرعات كافية من اللقاح، ومن المشكلات التي يعاني منها القطاع الصحي نتيجة شح الدولار، ما زال اللبنانيون أسرى أزمة صحيّة غير مسبوقة تفاقمها هجرة الأطباء والممرضين بفعل تراجع قيمة أجورهم مقارنةً بمستشفيات الخارج. وفي ظل مسؤوليّة السلطة السياسيّة عن هذا الواقع، يفتح هذا البؤس الذي نعيشه الباب أمام شتى أنواع التوظيف والاستثمار السياسي، تماماً مثل خطوة زيارة وزير الصحة دمشق، واستعراضه عملية التبرّع بالأوكسيجين. إنه التسبب بالبؤس، ومن ثم الاستثمار به!

إقرأوا أيضاً: