fbpx

سوريا… عن هؤلاء الراحلين الذين لا نعرفهم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نجد ما نتمناه لبلدنا المتخيل، بمن يرحل من نخب ومعارضين، فتسبغ الصفات تلو الصفات، ويُغرّب من يرحل عن نفسه وسيرته، وكذلك سوريا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من يتتبع الصفات التي أُسبغت على المعارض السوري الراحل، ميشيل كيلو، يلحظ أنها تحتاج إلى أكثر من ميشيل واحد، ليمتلكها، ربما عشرة ميشيلات، 20 أو أكثر. حكايات كثيرة سردت ضمن مقالات صحافية عن مواقف الراحل النبيلة، من قصة العصفور الشهيرة مروراً بالحماسة لمساعدة الناس بالأموال و”مسح دموع الحزانى”، وصولاً إلى العناية بالمرضى. أما وصيته التي كتبها قبل وفاته، فهي “ميثاق وطني للمرحلة المقبلة… وعقد اجتماعي”، وندرة إصداراته، تعود إلى أنه “مؤدلج يومي” و”أستاذ جيل”، عدا أن “خطايا” الرجل في السياسة هي “خطايا عاشق” وقع في حب بلده، ووجب تكريماً لذكراه “تنكيس أعلام الثورة”. أما ديانة الراحل فهو لم يعرفها إلا حين صار بالعشرين.

“المؤدلج اليومي” و”العاشق” و”ماسح الدموع”، و”أستاذ الجيل” تختلط مرجعياتها، بين الشاعري، حيث تفسير السياسة بالشعر للقفز فوق الأخطاء، والتذاكي المعرفي والإسقاطات المنزوعة من سياقها لتبرير عدم وجود مؤلفات، يُعتدّ بها للراحل. واختلاط المرجعيات، واستخدامها كأدوات تعمل بالضد من معانيها، وتفرّغ بعضها من بعض، تفسّر الابتعاد من سيرة الراحل الحقيقية واختراع أخرى متخيلة، يعمد صنّاعها للابتعاد من الدقة، فتجعل من كيلو “قديساً” يتكرس موقعه الجديد، مع الرجم الذي يناله من أنصار النظام والانتقادات من بعض الأكراد. هكذا تستبدل الموضوعية والعلمية والمهنية، بالعاطفة والشعر والحزن والرثاء والعلاقات الشخصية، لتصنع للفقيد صورة مختلفة عن الواقع، ونصبح حيال ميشيل آخر غير الذي توفي، صفاته تفيض عنه.

وكيلو ليس الوحيد، من الراحلين، الذي نال صفات غير دقيقة وموضوعية، من خارج سيرته، فقد سبقه المخرج حاتم علي، والممثلة مي سكاف، وجزئياً عبد الباسط ساروت. إذ يمكن القول، إننا أمام تقليد سوري، يخترع راحلين غير الذين يرحلون، عبر تضخيم سيرهم وإسباغ الاستثناءات عليهم.

هكذا تستبدل الموضوعية والعلمية والمهنية، بالعاطفة والشعر والحزن والرثاء والعلاقات الشخصية، لتصنع للفقيد صورة مختلفة عن الواقع، ونصبح حيال ميشيل آخر غير الذي توفي، صفاته تفيض عنه.

ومردّ ذلك، على الأرجح، النظر إلى الراحلين من زاوية التمني لسوريا، أي أن من يرحل انطلاقاً من انخراطه في الشأن المعارض، يصبح جزءاً من حالة مشتهاة لسوريا الحرة غير المتحققة، يمتزج خاص الراحلين بعام ما نحلم به لبلدنا. هزيمة هذا الحلم يتم ترحيلها إلى من يموت، فتسبغ عليه صفات استثنائية، تعالج، ما ضاع وسقط، من حلم سوريا الخالية من الاستبداد. وعليه، نعوّض بكيلو وسكاف وعلي والساروت، وغيرهم، ما فاتنا من هدف لم يتحقق.

صحيح أن ذلك يحصل عبر استنفار العواطف واستخدام الشعر ولغة الرثاء، لكنه يحصل أيضاً، بوعيين، أحدهما عشائري والآخر ديني. فالعشيرة لحظة موت أحد أبنائها، تسبغ عليه المدائح بوصفه امتداداً لها عملاً برابطة الدم، حتى لو كان الراحل بعيداً من العشيرة، أو فرداً اختار حياة بمعزل عن نسبه، العشيرة تستعيده لحظة موته، وتعيده إلى أصله، فتخترعه من جديد عبر صفات ليست منه. والأديان أيضاً، تعمل على قاعدة “اذكروا محاسن موتاكم”، وتجتزئ من سيرتهم ما يجعلهم أقرب إلى الجنة منهم إلى النار، حتى لو كان المتوفي غير مؤمن أو بعيداً من طقوس العبادات، الدين يستعيده، من “هرطقته” و”كفره”، ويسلك مسار العشيرة في إعادته لأصله واختراعه مرة أخرى. الطرفان يستعيدان إذاً، من يرحل، من أجل الحفاظ على ما يتخيلونه، من نسب وميتافيزيق.

والحال، فإن الوعيين، مترابطان مع تخيل سوريا الحرة، الذي يحصل بعناصر ما قبل موضوعية تتقاطع مع أدوات العشيرة والدين وربما العائلة والإيديولوجيا، بحيث نجد ما نتمناه لبلدنا المتخيل، بمن يرحل من نخب ومعارضين، فتسبغ الصفات تلو الصفات، ويُغرّب من يرحل عن نفسه وسيرته، وكذلك سوريا. 

إقرأوا أيضاً: