fbpx

النظام يحاول طيّ صفحتها: الثورة التونسية بلا نصب تذكارية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُشير غياب أنصب تذكارية تحتفي بالثورة التونسية إلى عدم رغبة النظام الحالي في اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من السردية الوطنية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تنشر هذه المادة بالتعاون مع المبادرة العربية للإصلاح ARI

أصبحت “ساحة 7 نوفمبر” بعد أيام قليلة على الثورة، تحمل اسم “ساحة 14 يناير 2011″. لكن لو قام  شخص ما بزيارة الموقع، ستصعب عليه معرفة ذلك، لأنه سيجد أن اللوحة الإرشادية الكبيرة التي كان يُفترض أن تُشير إلى اسم الساحة الجديد، لا تزال تحمل اسم “شارع الحبيب بورقيبة”. هذا ليس تفصيلاً. بل ينعكس بشكل واضح على الاندثار التدريجي للأثر الذي تركته الثورة التونسية في الفضاء العام في العاصمة.  يُلاحظ هذا الأثر في المقارنة بين “صمت” الثورة من جهة، والصخب الأقرب إلى الكوميديا الذي كان يثيره بن علي وبورقيبة لإثبات وجودهما في الفضاء العام. بن علي، كانت له صوره العملاقة، وأرقام 7 (إشارة لـ”7 نوفمبر 1987″، تاريخ الانقلاب الطبي الذي أطاح بحكم بورقيبة)، واللون البنفسجي (لونه المُفضل) و”الساعات الكبيرة الصامتة” في قلب المدن. أما بورقيبة، فنجد له تماثيل نصفية وتماثيل كاملة، إضافة إلى وجود شارع يحمل اسم “الحبيب بورقيبة” في كل مدن البلاد تقريباً.

أما الثورة، التي يفترض أنها قامت ضد الطغيان، فليس هناك الكثير ليُذكّر بها: ساحة “14 يناير 2011″ غير مرئية. و”شارع محمد البوعزيزي” الذي كان سابقاً “شارع 7 نوفمبر”، يشار إليه حالياً بالاسم الإداري “الطريق الوطني R21″، وأخيراً، ألواح رخامية، وضعتها العائلات أو الجيران، تكريماً لضحايا عنف النظام (يصفهم أهل تونس بالشهداء) الذين قُتلوا في شوارع بعض الأحياء. هذه المسألة، ترسم خطاً فاصلاً واضحاً بين الذين يعتبرون الثورة لحظة قطيعة في التاريخ الوطني من جهة، ومن جهة ثانية، الذين لا يرون فيها أكثر من صفحة عابرة وجب قلبها، وهو ما يكشف فشل أنصار الثورة في ترجمة لحظة ثورية تاريخية إلى مشروع سياسي. 

غياب قائمة متفق عليها لـ”الشهداء”

بالنسبة إلى بلدية تونس التي ترأسها حالياً سعاد عبد الرحيم من “حزب النهضة”، فإن الذي حال رسمياً دون تشييد نصب تذكاري هو “غياب قائمة رسمية بأسماء شهداء وجرحى الثورة”.

استغرق الأمر عشر سنوات من التعبئة والحشد من قبل الجرحى وعائلات الضحايا، لكي ترى هذه القائمة النور أخيراً، وتنشر في الجريدة الرسمية في 19 آذار/ مارس 2021. وتمكن إحالة هذا التأخير إلى التباين حول طبيعة التعريف المعتمد بموجب المرسوم القاضي بإنشاء “هيئة شهداء وجرحى الثورة” داخل الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. تُعرف المادة 6، “الشهداء” على أنهم “الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل الثورة، وقد ماتوا أو أصيبوا بجروح سببت لهم إعاقة، وذلك في الفترة ما بين  17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و28 شباط/ فبراير 2011”. اتهم أعضاء في اللجنة، بعض الجرحى، خلال إعداد اللائحة بتقديم شهادات طبية مزورة. واليوم مع نشر القائمة في الجريدة الرسمية، يتعين على أي معترض تقديم شكواه أمام المحكمة الإدارية، التي تلقت منذ نشر القائمة على موقع الهيئة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أكثر من ألفي طلب استئناف.

إلى جانب الغموض الذي أحاط بالقائمة، ساهم تأخير نشرها من قبل رئاسة الحكومة في الجريدة الرسمية في تعقيد الوضع. بالنسبة إلى خيام الشملي، ممثل “محامون بلا حدود”، هذا التأخير طابعه سياسي: “في عهد الباجي قائد السبسي ويوسف الشاهد، كان الجو معارضاً للعدالة الانتقالية عموماً، وحتى إزاء الاعتراف بالثورة. وقد عرقلت جميع الوزارات عمل هيئة الحقيقة والكرامة […] في عهد قيس سعيد، أولت حكومة إلياس الفخفاخ (شباط- أيلول/ سبتمبر 2020) الأولوية للعدالة الانتقالية، بما يفسر نشر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة في الجريدة الرسمية ، غير أن هشام مشيشي (الذي خلفه)، استخدمته النهضة وقلب تونس، وهما حزبان مناهضان للعدالة الانتقالية. في الواقع، من الناحية السياسية، كانت الطبقة السياسية كلها مسؤولة عن هذا الفشل الذريع”.

من كانون الأول إلى كانون الثاني/ يناير الأخيرين، احتلت أسر الضحايا والجرحى، “مقر الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية”. وجاءت عملية احتلال المقر رداً على عنف الشرطة، في 17 كانون الأول 2020، يوم إحياء ذكرى حرق محمد البوعزيزي نفسه– وهي تمثل بالنسبة إلى كثير من التونسيين التاريخ الشرعي لإحياء ذكرى الثورة – إذ نظمت تظاهرة أمام مقر رئاسة الحكومة. وجاء الجرحى وأهالي الضحايا يوم ذاك، للمطالبة بنشر القائمة.

وكانت العائلات وراء مبادرات التكريم القليلة جداً، احتفاء بالضحايا في الأماكن العامة في العاصمة تونس. كانت مجرد مبادرات خاصة أو من طرف جمعيات، من دون حضور من الدولة المركزية ومن دون مشاركة من سلطات البلديات، عدا استثناءات قليلة. في وسط تونس العاصمة، هناك حديقة حلمي المناعي، تكريماً من سكان الحي للشاب البالغ من العمر 23 سنة، الذي قتلته الشرطة في 13 كانون الثاني 2011، في حين  وضِعت في منطقة الكرم في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، لوحة رخامية تكريماً لثمانية أشخاص قتلوا على يد الشرطة في المكان في كانون الثاني 2011، قبل أن يضاف إليها دوار للسيارات في كانون الثاني 2019، صممه فنان بتكليف من مجلس المدينة.

مبادرات محلية ذات أهداف سياسية

تُعتبر بلدية الكرم واحدة من البلديات القليلة في البلاد التي تطوعت لوضع نصب تذكاري تخليداً لذكرى الثورة.

اشتهر فتحي العيوني، رئيس بلدية الكرم، الذي فاز في الانتخابات البلدية عام 2018، بخلافاته مع الدولة المركزية بعد إنشائه صندوقاً للزكاة، وخلافاته مع قيس سعيد، والدوارات المرورية الخارجة عن المألوف. ومنذ انتخابه، شهدتِ المدينة ظهور منحوتات عند الدوارات المرورية (سلحفاة بحرية، وطائرة  من دون طيار تُحلق في سماء فلسطين عام 1948، وجزء فايروس كورونا تُحطمه عصا هيرميس التي ترمز إلى الصحة، إلخ)، والتي كانت مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. يُعتبر إحدى هذه الدوارات المرورية الموجودة في مدخل غرب الكرم (يُطلق عليها الآن اسم “الكرم المدينة”)، تخليداً لذكرى الضحايا الثمانية الذين سقطوا في كانون الثاني 2011، في هذا الحي الشعبي في تونس العاصمة. بالنسبة إلى العيوني، فإن غياب اللائحة لم يكن أبداً عائقاً أمام بناء النصب التذكاري: “إنها مدينة صغيرة، حيث يعرف الجميع بعضهم بعضاً. وبالتّالي، يعرف السكان (الشهداء). عندما وصل مجلسنا البلدي، وجد لوحة رخامية وضعها السكان، كتبت عليها أسماء (شهداء) الكرم. لم نرغب في الدخول في تفاصيل تلك اللائحة الرسمية، لأنه وكما ترون بعد مرور 10 سنوات، لم تصدر لائحتهم بعد. نحن نعرف شهداءنا، لذلك أخذنا زمام المبادرة لكي تجد أوجاع أهاليهم وآلامهم ملاذاً في هذه المدينة”.

أما الآن، بعد نشر لائحة القتلى والجرحى رسمياً، ليس من المفاجئ أن تأخذ مسألة تخليد ذكرى الثورة مُنعطفاً سياسياً، يكشف مواقف البعض من شرعية ما يُسميه الكثير من مناصري النظام السابق “ثورة البرويطة” على سبيل الاستهزاء، إشارةً إلى عربة الفواكه والخضراوات التي صادرتها الشرطة من محمد البوعزيزي.

بالنسبة إلى بلدية تونس، تؤكد هندة بالحاج علي، مستشارة بلدية المدينة ورئيسة لجنة التسميات والنُصب التذكاري، ضرورة تحري الدقة في اختيار طريقة تخليد ذكرى الثورة، “حتى لا نسقط في فخ الشَعبوية الذي تفقد هذه المبادرات قيمتها المعنوية”، مشيرةً إلى العيوني الذي تعتبره شخصيةً شعبويةً. ولتعزيز وجهة نظرها، تعطي مثالاً عن ساحة في حي الخضراء في تونس العاصمة، كان يُطلق عليها اسم “ساحة الحبيب بورقيبة” قبل الثورة، ثمّ أصبحت تسمى باسم أحد الضحايا مباشرة بعد الثورة. وبحسب ما تقول، فإن الشخص المذكور “لم يكن ناشطاً، ولم يخرج للتظاهر. فالشاب رحمه الله، كان خرج في الظلام لتدخين سيجارة من الحشيش، والتي رأى أحد القناصين شرارتها من بعيد، فأطلق عليه النار وقتله […] وحين أتحدّث أنا شخصياً عن ساحة أو شارع، يتبادر إلى ذهني أشخاص قدّموا شيئاً لتونس، وضحّوا من أجلها. أشخاص شاركوا في   التظاهرات، وكانوا مُدركين أنهم بذلك عُرضة للخطر، أشخاص كانوا مستعدين للعطاء من أجل أن تشهد تونس التغيير، هؤلاء هم الذين ضحّوا، وإليهم يجب أن يُعطى الحق أولاً”.

ثمّ تُضيف: “لا يُمكننا وضع اسم ضحية ما على حائط سيُخلد لسنوات مديدة، لكن الأولوية يجب أن تكون لشهيد حقيقي شارك في تظاهرة بالفعل أو نظمها”.

هكذا تُميز المستشارة صراحةً بين ضحايا عنف الدولة. فـ”الشهداء الحقيقيون”، والنشطاء المُسيّسون لهم الحق في أن يذكرهم التاريخ. أما الضحايا فلا حق لهم في نيل هذا الشرف باعتبارهم من الخسائر الجانبية للثورة. 

وبحسب زميلها أحمد بوعزي، مستشار بلدية مدينة تونس، المُنتمي إلى حزب “التيار الديموقراطي” المُعارض، فإن غياب نصب تذكاري حكوميةٍ يرجع إلى أسباب سياسية بحتة “لأن السلطة السياسية التنفيذية ووزارة الداخلية، كلاهما ضد الثورة وضد أي شيء يُذَكِّر بها”. وفي رأيه، هناك مَعْلَمان يرمزان إلى عودة النظام السابق بطريقة أو بأخرى: تمثال الفروسية لبورقيبة واللوح التذكاري الذي نُصب تكريماً لضحايا وزارة الداخلية، وهما على بُعد أمتار من بعضهما بعضاً: “أَخْذُ تمثال بورقيبة ووضعه في المكان الذي أُقيمت فيه الثورة، يُعتبر انتقاماً من الثورة، ومن الشباب والضحايا، إنها طريقة أخرى لإخبارنا بأنهم قد عادوا”. أما في ما يتعلق باللوح التذكاري، تقول وزارة الداخلية: “وضعنا هذا اللوح لأجل (شهدائنا) ولا يُمكنكم المساس به أو الاقتراب منه”. إنهم يعلمون أن لا أحد يريد هذا اللوح، ولذلك فهو بعيد المنال، لكي لا يمسّه أحد”، وبالفعل لا يمكن وصول عامة الناس إلى هذين المَعْلمين نهائياً. وقد تم عرض تمثال بورقيبة لوقت قصير بعد ترميمه، لكن بعد قيام أشخاص بالكتابة على قاعدته عام 2016، مُنِع الاقتراب منه. أما لوح وزارة الداخلية التذكاري، فإنه يقع داخل محيط كبير تُغلقه وزارة الداخلية لحمايته، ولم يُسمح أبداً للمارة بالاقتراب منه: “العاصمة أرض تحتلها وزارة الداخلية. تفعل فيها ما تشاء، وتضع الحواجز حيث تشاء، ولا تستطيع البلدية فعل شيء حيال ذلك”، يقول بو عزي.

السلطة: “الثورة صفحة يجب قلبها”

إضافة إلى عدم رغبة السلطة في الاحتفاء بثورة جاءت لتزعزع مشهداً سياسياً قائماً على مفهوم الأمة المتحدة، المبنية على التوافق والعصرنة، يقول إيهاب قرمازي، معماري وطالب دكتوراه في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، إن “الثورة لم تكن يوماً فكرةً، لقد بقيت لحظةً مُخلدة. ولكن كيف يمكننا تمثيل لحظة ما؟”. ويرى قرمازي ان المشهد السياسي التونسي لم يتقبل أن لحظة الثورة كانت لحظةً جذريةً.

ويفترض قرمازي أن رموز حقبة بن علي (رقم “7”، اللون البنفسجي، الساعات الكبيرة المتواجدة في الساحات العامة) كلها كانت قشوراً فارغةً خاليةً لا تحمل أي قصة في طياتها: “أراد بن علي إخفاء حقيقة أنه ليس لديه ما يقوله أو يضيفه، عبر فرض وجودٍ مُفتقر للمعنى في الفضاء العام. “رقم 7 ما هو إلا رقم 7، […] الساعة الكبيرة ما هي إلا ساعة كبيرة. […] كانت رسالة الرموز الوحيدة تقول (أنا هنا ولا أتزحزح أبداً). وبعد عشرين عاماً من انعدام المعنى، كان من الحتمي أن تنطلق حركة جديدة: في السنوات الثلاث الأولى للثورة، كانت هناك لحظة جذرية. رحل الديكتاتور، وانهارت دولة 1956. وكان الناس بحاجة أن تتغير حياتهم، ليس في الذاكرة الجمعية فقط، بل في حياتهم اليومية أيضاً، أرادوا أن يُعيدوا تصور أنفسهم كأفراد”.

على رغم كل شيء، لا تزال الرغبة في التغيير، والتطلع إلى فجر جديد تخالج صدور كثر من التونسيين. فجاء قيس سعيد وقطع وعداً جذرياً بتغيير جزئي. وليس مصادفةً أنه مباشرة بعد انتخابه في تشرين الثاني 2019، نفذ المواطنون حملة تنظيف وتحسين كبيرة للفضاء العمومي، أُطلق عليها اسم «حالة وعي»، فكانت بمثابة إعلان لعودة المواطنين إلى الفضاء العمومي.

يُشير غياب أنصب تذكارية تحتفي بالثورة إلى عدم رغبة النظام الحالي في اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من السردية الوطنية. وحتى اليوم، لا تزال سردية عام 1956 الوطنية مُعتمَدة، على رغم الاعتراضات الكثيرة، وفي هذه السردية، الثورة ليست إلا صفحة يجب قلبها. ومبادرات تكريم المجهولين الذين لقوا حتفهم بينما كانوا يُعبّرون عن رغبتهم في التغيير، ليست كافية أبداً لِقِلّتها، حتى وإن نظّمتها سلطات محلية. فيما يبقى الفضاء العام ورقة سياسية، تستحوذ عليها الدولة تارة، ويستعيدها المواطنون تارةً أخرى. 

إقرأوا أيضاً: