fbpx

رسالة أخيرة قبل انقطاع الانترنت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قلتُ لكم أستطيع أن أشعر بالوحدة بين الجموع، حتى بعد الموت. تحمّلوا تشاؤمي فقد تكون هذه فعلاً رسالة أخيرة. بعدها سنكون في عتمة دامسة بلا أي اتصال بالعالم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه رسالة أخيرة. أكتبها من جزيرة معزولة. لست تشاك نولاند. ولا يجلس بقربي “ويلسون”، كرة الطائرة التي حولتها إلى شخص كي أحادثه في وحدتي. لا أكتب إليكم من فيلم “هوليوودي”. في الواقع الجزيرة التي اعيش فيها ليست معزولة تماماً. وهي بالأحرى ليست جزيرة بالمعنى الجغرافي. شبه شبه جزيرة. بل شبه شبه بلد يدعى لبنان. رقعة جغرافية صغيرة جداً. نقطة سوداء باهتة في نقطة زرقاء باهتة. هناك أشخاص كثر يعيشون هنا، ولا حاجة لي لاخترع شخص من كرة طائرة، حتى لا أشعر بالوحدة. أستطيع أن أشعر بالوحدة بين الجموع. وهذا شأن خاص. ولا أريد أن أدخل في شؤوني الشخصية في هذه الرسالة. 

أكتبها لأنني أظنها ستكون الأخيرة قبل انقطاع الانترنت عن “الجزيرة” التي أعيش فيها. لماذا سينقطع الانترنت؟ لان الكهرباء ستنقطع بعد أيام بشكل كامل. تعيش معامل إنتاج الطاقة الكهربائية أيامها الأخيرة. مؤسسة كهرباء لبنان والشركات المشغّلة تسعى إلى التقنين لضمان الاستمرار في التغذية لفترة أطول. لكن لم تنجح الدولة في تأمين المحروقات بعد، بسبب عدم توفر الاعتمادات. أعتقد أنكم سمعتم عن اكبر سرقة مصرفية لأموال المودعين شهدها التاريخ. نعم حدثت هنا في هذه البقعة الجغرافية. وبسبب هذه السرقة أفلست البلاد، وما بقي من احتياطي المودعين في مصرف لبنان، تصرف منه الدولة لدعم السلع الرئيسية وشراء المحروقات والدواء. ومع شحّ الاعتمادات والخلافات السياسية حول التصرف بها، وهي أموال الناس بالمناسبة، بدأت تنقطع السلع الرئيسية لدينا. وعلى رأسها المحروقات. ومن دون المحروقات، لا كهرباء، ومن دون الكهرباء، لا انترنت. 

أكتبُ هذه الرسالة لأنني أظنها ستكون الأخيرة قبل انقطاع الانترنت عن “الجزيرة” التي أعيش فيها. 

مدير عام “أوجيرو” وهي الشركة التي تشكل البنية التحتية الأساسية لجميع شبكات الاتصالات بما في ذلك مشغلو شبكات الهاتف المحمول موبايل، ومقدمو خدمات البيانات، ومقدمو خدمات الإنترنت، حذّر عبر تغريدة من انقطاع الاتصالات والانترنت. كتب تغريدته فيما لا يزال ممكناً لمن يعيشون هنا أن يستخدموا مواقع التواصل الاجتماعي. قد لا يستغرق الأمر أياماً حتى يصبح من المستحيل إيصال رسالة مكتوبة على الكومبيوتر إلى العالم الخارجي لكي يسمعنا. ولن نستطيع حتى أن نتواصل في ما بيننا. سيكون علينا جميعاً أن نشعر بالوحدة بين الجموع المعتادة على التواصل عبر الهواتف الذكية. ستصبح هذه الهواتف بلا جدوى. حتى إننا بسبب غياب المحروقات والكهرباء سيصبح صعباً علينا أن نقوم بشحن بطارياتها. ستنطفئ مع بيوتنا وسياراتنا. سنبدو كأننا في بلاد منكوبة بعد قصف ذريّ. 

آه نعم، بمناسبة الحديث عن القصف الذري، قد لا نستطيع أن نتفاعل ونكتب وننقل الوجع في الذكرى الأولى على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس المقبل. إذا انقطعت الكهرباء وانقطع الإنترنت، سيستعيد أهالي الضحايا ومعهم اللبنانيون الذين وصل عصف الانفجار إلى أصغر تفاصيل حياتهم، الذكرى من دون القدرة على نقل الخبر إلى العالم الخارجي. لأننا بحسب ما يقال وينقل قد ندخل في العتمة الشاملة والانقطاع الشامل عن الإنترنت. ولا بقعة ضوء واحدة. هذا ما يقوله المتشائمون. أما المتفائلون بيننا، ومنهم خبراء اتصالات وطاقة، فيقولون أن خدمة الانترنت في بيروت قد تبقى متوفرة لبضع ساعات في النهار، فيما ستنقطع الخدمة عن الأطراف والقرى النائية بشكل كامل. أنا في طبعي متشائم. ولن أزيد لأنني كما ذكرت لا أريد الخوض في شؤوني الشخصية. وبسبب تشاؤمي أكتب هذه الرسالة وأرميها في الفضاء الإلكتروني لعلّها تصل، كنداء استغاثة من بلاد تغرق بحسب تقرير البنك الدولي الأخير. هي أشبه برسالة من تحت الماء. لكن طبعاً لا تشبه في شيء تلك التي كتبها نزار قباني لحبيبته. لكن أستعيرها لأقول، إننا لا نزال حتى اللحظة نتنفس تحت الماء. ولن يكفينا الأوكسيجين طويلاً. سينقطع “النفس الباقي بهاليومين”. هذه أستعيرها من زياد الرحباني الذي احبه كثيراً بالمناسبة. يبدو إنني انزلق مجدداً إلى شؤوني الشخصية. “شي عجيب كيف ماشي”! ربما لأن البشر عندما يقتربون من النهاية يصبحون عاطفيين. “مخشخش من دون خشخاشة”. تذكرت أيضاً عبارة أحبها تتناسب تماماً مع هذا السرد. جملة لرسام الكاريكاتير السوري سعد حاجو كتبها على رسم في “السفير” قبل أن تنطفئ الجريدة قبل سنوات طويلة. تقول الجملة: “أريد أن أدفن وحيداً في مقبرة جماعية”. قلت لكم أستطيع أن أشعر بالوحدة بين الجموع، حتى بعد الموت. تحمّلوا تشاؤمي فقد تكون هذه فعلاً رسالة أخيرة. بعدها سنكون في عتمة دامسة بلا أي اتصال بالعالم. “والفيلم مكفى وفاهمينه وشايفينه من دون شاشة”. سنبدو كنقطة سوداء منطفئة على الدوام في كاميرات الأقمار الصناعية. ولن يسمع أحد صراخنا. ولن يستطيع أحد أن يصوّر معاناتنا أو ينقلها إلى الخارج. “ولشو أهبل؟ ولشو غاشي؟”. لهذا أغتنم فرصة توفر الإنترنت وبعض ساعات الكهرباء لأرسل هذه الرسالة في الفضاء الإلكتروني، كما لو كانت رسالة ورقية مكتوبة قبل مئات السنوات، وموضوعة في قنينة زجاجية ومرمية في البحر من تائه عالق على جزيرة. 

“داخوا بأمرك كيف ماشي…

شي عجيب…

بس ماشي…

شي عجيب… 

بس ماشي…”.

إقرأوا أيضاً: