fbpx

رانيا رشوان التي خلعت حجابها في قرية الجهاديين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“نزعت الحجاب وتركت شعري يتنفس، كانت لدي قوة هائلة، لم أشعر بالخوف، لأنني لا أؤذي أحداً”… عدد من رجال القرية ضربوا رانيا وتحرشوا بها لأنها قررت خلع حجابها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أنا اتعرضت للضرب بسبب خلعي الحجاب، ونتيجة قراري دا  تعرضت  لاضطهاد واحتجاز وخطف، أنا عملت إيه عشان يحصل فيا كده”.

استغاثت رانيا رشوان (20 سنة) بفيديو لها على “فايسبوك”، ظهرت فيه بوجه متورم وآثار ندبات زرق تحت عينيها وأنفها وشفتيها، بعدما  تعرضت للضرب سُجنت أربع ساعات داخل أحد بيوت قريتها الكحك، في محافظة الفيوم.

ذهبت رانيا  لتطلب من أحد رجال قريتها أن يتوقف عن ترويج الشائعات عنها بأنها بدلت دينها للمسيحية، لأنها  نزعت الحجاب، لكنها فوجئت بأن من استغاثت به هاجمها بصحبة عدد من رجال القرية الذين ضربوها وتحرشوا بها وألقوا بها على الأرض وانتزعوا هاتفها منها بحسب ما صرحت لـ”درج”.

المعتدي محام تقول رانيا.

لم يكن الفيديو كافياً لنعلم حجم المعاناة اليومية لفتاة قررت نزع الحجاب في قرية ريفية في صعيد مصر، معظم نسائها منقبات، ولن تكون مكالمة هاتفية مع رانيا كافية لفهم طبيعة البيئة التي تعيش فيها، بخاصة أن قصتها مثيرة للاهتمام بسبب قرارها البقاء في القرية من دون حجاب، فقد اعتدنا في مصر أن نرى الفتيات المستقلات في الريف يتركن القرى إلى القاهرة، يُقتلعن من جذورهن، وفي حالات كثيرة يتبرأ الأهل منهن، لكن رانيا لم تترك القرية ولم تخف.

سافرتُ للقاء رانيا في قرية الكحك، جنوب القاهرة  بنحو 100 كيلومتر. أكثر من ساعتين من موقف “المنيب” إلى “مفارق أبشواي” في الفيوم، ثم نصف ساعة إلى قرية الكحك. في الطريق إلى أبشواي بحثت عن أي معلومات متاحة عن القرية وكانت الصدمة! تحقيق نشرته صحيفة “المصري اليوم” بعنوان “الشوقيون في قرية “الكحك” بروفة داعش في الفيوم”، وتحقيق آخر في موقع “حفريات” بعنوان “الشوقيون: من إمارة الكحك إلى خلافة داعش”.

الكحك… خضراء من الخارج سوداء من الداخل

على مفارق إبشواي كانت تنتظرني رانيا رشوان بقصة شعرها التي تشبه قصة شعر سعاد حسني في فيلم “خلي بالك من زوزو” يصحبها شقيقها الأصغر، هبطنا من التوكتوك إلى ناصية شارعها. الجارات المنتقبات كن يجلسن على المصاطب، ألقيت السلام فلم يرددن، كانت نظراتهن غاضبة، وتتركز على معدات التصوير التي أحملها، وعلى شعر رانيا ولبسها الرياضي.

دخلنا البيت وبعدما فتحت رانيا النافذة  المطلة على الشارع رأيت سقف البيت المواجه للنافذة، وقد نُقشت عليه سماء زرقاء وطيور محلّقة، وهو أول مشهد تقع عليه عين رانيا يومياً كلما فتحت النافذة.

“أنا كنت منتقبة زيهم، لبست النقاب في سن صغيرة جداً، لأني ولدت هنا ووجدت كل نساء القرية تقريباً منقبات، عشت في دور المرأة العجوز وأنا بالكاد أخطو نحو مراهقتي، كنت أرتدي ملابس والدتي، وقبل النقاب ارتديت الحجاب إجبارياً في المرحلة الابتدائية التعليمية (من6 سنوات حتى 12 سنة)”.

أحضرت رانيا صوراً لها مع عائلتها، قلت لها دعيني أخمن من أنت، لكنني فشلت في محاولتين، فأشارت هي إلى نفسها في الصورة، فتاة لم تدخل مرحلة المراهقة ترتدي خماراً وتحمل أشقاءها الصغار على فخذيها أثناء التقاط الصورة، تقول رانيا: “كان المدرس في الفصل يضربنا إذا ذهبنا إلى المدرسة ونحن بعمر 7 سنوات بدون حجاب، كان هذا أول تمييز أشعر به في سن مبكرة، لم أُُجبر على ارتداء الحجاب في المدرسة فقط، بل كان والدي يضربني إذا لم أرتدِ الحجاب داخل البيت”.

سألتها إن كانت تملك صوراً وهي منتقبة فأجابت بالنفي.

“كنت بحرّم كل حاجة بحكم الجو الذي نشأنا فيه، كل ما تقع عليه عيني كنت أفكر إن كان حلالاً أم حراماً، حتى الكنبة التي نجلس عليها، وعلى رغم ذلك كنت أسمع صوتاً عميقاً داخلي، أنني في شخصية ليست شخصيتي وأنني لم أولد بعد، فقط نسخة كرتونية عن كل نساء القرية”.

“الخلافة الفيومية” وذيول الفكر المتشدد والجهادي

قبل أكثر من عشرين عاماً لم تكن رانيا رشوان ولدت، ولم تشهد بالتأكيد المعركة الدامية بين الشرطة وتنظيم “الشوقيون” التكفيري، في قريتها الكحك، فقد سالت دماء غزيرة على أرض قريتها انتهت بتصفية “شوقي الشيخ” المنشق عن الجماعة الإسلامية ومؤسس ما يسمى “الخلافة الفيومية” التي روج خلالها لأفكار لا تختلف كثيراً عن أفكار “داعش”.

ومنذ تصفية شوقي الشيخ، في قرية الكحك، يتم التعامل مع اسمه كـ”فارس” و”شهيد”، وذيول أفكاره المتشددة ما زالت تسيطر على  أفكار كثيرين، مثل الموقف من الأقباط وتزويج القاصرات وفرض النقاب، والتكفير.

“الختان”… الفزع بوابة النهوض من الغفلة

اعتاد أهالي قرية الكحك كغالبية القرى المصرية وبالأخص في الصعيد ختان بناتهن، بقطع جزء من عضوهن الأنثوي بزعم ضمان عفافهن ببتر منبع الرغبة الجنسية كما يعتقدون، كانت الفكرة مفزعة لفتاة مراهقة، وعلى رغم تشدد رانيا دينياً وقتها وعلى رغم أن إسلاميين كانوا من أكثر مروجي هذه الجريمة، قررت رانيا رفض الختان مهما كلفها الأمر.

“أنا كنت منتقبة زيهم، لبست النقاب في سن صغيرة جداً، لأني ولدت هنا ووجدت كل نساء القرية تقريباً منقبات، عشت في دور المرأة العجوز وأنا بالكاد أخطو نحو مراهقتي”.

لا تفلت الفتيات بسهولة من جريمة الختان داخل القرى في مصر، وغالباً ما تؤخذ الفتاة في يوم عادي من وسط ألعابها أو دفاترها الدراسية إلى سرير وتبدأ سيدة أو حلاق ببترها من الأسفل بموس حاد، ولا تستوعب الفتيات ما يحصل، ما يسبب تروما لا تمكن معالجتها ببساطة.

تقول، “كان والدي يصر على ختاني وأنا أرفض بقوة وقمت بأفعال جنونية حتى أمنع ذلك، وأثار فضولي أن أبحث عن مخاطر الختان حتى وجدت مقالات نوال السعداوي عن الموضوع وغرقت في قراءتها”.

ابنة إيزيس تنتشل ابنة قرية الكحك

“شاهدت فيديوات لنوال السعداوي وهي تناظر مشايخ يشبهون مشايخ قريتي في شكلهم وتشددهم، وصُدمت من مدى حجتها وقوتها وذكائها، تجريمها الختان كان بداية انحيازي لأفكارها”.

طلبت من رانيا إحضار بعض كتب نوال السعداوي من غرفتها لنستعين بها في التصوير، فأشارت إلى هاتفها وقالت مكتبتي هنا، وكانت كتب نوال السعداوي الإلكترونية حاضرة على هاتفها، وكذلك مسرحية “إيزيس”.

“لما ماتت نوال السعداوي بكيت عليها بحرقة مثلما بكيت على شقيقي عبدالله، ماتت في وقت كنت أعيش فيه تحولاً كبيراً، كانت هي أحد أسبابه الكبرى، نزعت الحجاب قبل شهر من وفاتها وكنت أتمنى مقابلتها قبل رحيلها”.

لقبوه بـ”جرجس” حتى انتحر

“عام 2019 زرع جهاديون عبوة ناسفة في إحدى الكنائس المصرية وقُتل ضحايا من الأقباط، كان شقيقي عبد الله بصحبة زملائه في المدرسة، حينما فتحوا نقاشاً حول أهمية تفجير الكنائس والتخلص من المسيحيين، رفض عبد الله هذا الخطاب الدموي بشدة ومن وقتها لقبوه بـعبد الله جرجس، حتى انتشر اللقب في القرية كلها من باب التنمر وكأن الدفاع عن الأقباط فعل سيئ”.

اضطر عبد الله لمغادرة القرية فترة للعمل في القاهرة، وعندما أخبره شقيقه الأكبر بضرورة العودة مجدداً للقرية بسبب قلة العمل والرواتب في القاهرة، اختار عبد الله الانتحار على العودة إلى القرية التي تلقبه بـ”عبد الله جرجس”، بحسب رانيا.

وتضيف: “أخي عبد الله كان قارئاً نهماً، يدعمني في قراراتي، وقال لي مراراً (كوني نفسك)، لم يكن راضياً عن ارتدائي النقاب، لكن هذا الشاب الاستثنائي خسرته”.

عاشت رانيا طفولتها ومراهقتها تتابع كيف ينمو التشدد في مناطق هامشية بعيدة من القاهرة، المركز، فتنامت المواقف المسبقة من أي آخر، وباتت المجاهرة باستهداف الأقباط شأناً يتم تداوله علناً.

“قل و نفسن زأقتو ل مت”

خرجت برفقة رانيا وشقيقها وشقيقتها لزيارة قبر عبد الله الواقع فوق ربوة عالية صخرية تضم مقابر المتوفين من القرية. اللافت في هذه المقابر الكتابات العربية التي تشبه الطلاسم، لكثرة أخطائها. كانت المقابر تحمل عبارات مثل “قل و نفسن زأقتو ل مت”، لم أفهم العبارة في البداية وظننتها ضرباً من المعتقدات الشعبية لأفهم لاحقاً أن العبارة  هي الكتابة الخاطئة لعبارة “كل نفس ذائقة الموت” بدا هذا الأمر متكرراً في ظل تراجع مستويات التعليم وتصاعد معدلات الفقر في منطقة نائية وريفية مثل هذه القرية.

“كان المدرس في الفصل يضربنا إذا ذهبنا إلى المدرسة ونحن بعمر 7 سنوات بدون حجاب، كان هذا أول تمييز أشعر به في سن مبكرة”.

هناك حالات تسرب عالية من التعليم خصوصاً عند الفتيات، اللواتي يُجبرن على ترك المدرسة ويتم تزويجهن قبل بلوغهن السادسة عشرة.

عرض بعض أهالي القرية على رانيا وشقيقتيها زواج المسيار لكنهن رفضن بشدة. 

هنا أيضاً يتم حرمان البنات من التعليم ويجبرهن أهلهن على العمل بما يشبه السخرة بأجور زهيدة في مصانع الملابس، بحسب رانيا. لا تفكر الفتاة خلال ذلك في التعليم بسبب حجم الإنهاك البدني اللاتي يتعرضن له في العمل، “يتعرضن أيضاً للتحرش الجنسي ولا أحد يقوى على مساندتهن أو وقف ذلك بسبب حاجتهن للمال”.

داعمات في السر، محرضات في العلن

على رغم العنف والأذى اللذين يلحقان برانيا يومياً، إذ يتم رميها  بالحجارة أحياناً في الشارع والتحريض ضدها وإذاعة الشائعات أنها تتلقى أموالاً من الكنيسة لإحداث فتنةـ إلا أنها فوجئت برسائل على هاتفها من فتيات في القرية، يساندنها في السر “يا رانيا أنتي شجاعة خليكي على موقفك احنا بندعمك لكن في السر”.

لا تتعرض رانيا رشوان للاضطهاد بسبب نزعها للحجاب فقط على ما يبدو، بل لأن موقفها قد يشجع بنات القرية على المطالبة بحقوقهن واختيار ما يناقض أعراف القرية، وهنا مكمن الرعب لدى الدوائر التقليدية المحافظة التي يثير حفيظتها خروج فتاة شابة عن دائرة الطاعة والإذعان التي يفترض أن تخضع لها رانيا وكثيرات.

البحيرة… تحليقة أولى بلا حجاب

تطل القرى البحرية لمحافظة الفيوم على بحيرة قارون. التقيتها أمام البحيرة لتوديعها عليها بعد انتهاء زيارتي. كانت الساعة لم تتجاوز السادسة والنصف، لكن القرية غارقة في ظلام دامس. أعمدة الإنارة موجودة إنما مطفأة بالكامل، لا ضوء ولا صوت سوى صفير صراصير الحقول.

قرية الكحك لا تخلو من الإضاءات الليلية وحب، بل تخلو من المكتبات والأندية الرياضية والمسارح ودور السينما، السلطة تترك الهامش لطحالبه الضارة ونتعجب بعد فترة لماذا تزداد سطوة الجهاديين والتكفيريين على هذه الأماكن.

ابتسمت رانيا وهي تحكي عن شعورها لحظة نزع الحجاب للمرة الأولى أمام البحيرة، “كنت قاعدة قدام البحيرة ولابسة قميص عبد الله بعد موته، نزعت الحجاب وتركت شعري يتنفس وقمت لأعود إلى البيت بلا حجاب، كانت لدي قوة هائلة، لم أشعر بالخوف، وحتى الآن لا أشعر بالخوف، لأنني لا أرتكب جريمة مخالفة للقانون ولا أؤذي أحداً”.

عبرت مع رانيا إلى الطريق السياحي لأعود إلى القاهرة سألنا سيارة تقل عشرات الفتيات، إن كانت متجهة إلى القاهرة، لم نسمع أي رد، حملقة وصمت، وحسب. أعدنا السؤال ما لا يقل عن ست مرات، وفي كل مرة حملقة وصمت، سألت رانيا إن كن فاقدات للنطق، قالت هن عائدات من مصنع الملابس منهكات ومستنزفات ويرون فتاة بشعر أحمر تحمل آلات تصوير، يحاولن استيعاب الأمر بالحملقة.

لا تريد رانيا مغادرة القرية بسبب هؤلاء الفتيات، “كل البنات دي محتجاني، مش همشي من هنا إلا لما ينتهى زواج القاصرات والمتعة والمسيار ويتوقف الآباء عن تسريب بناتهن من التعليم”.

إقرأوا أيضاً: