fbpx

عن “قطيع العتم” الإيراني الذي يفترس بيروت وبغداد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل هي مجرّد مصادفات أن يكون عتم هذا المحور “سخياً” على شعوبه، في وقت ترمى كل المسؤولية على “الخارج” وشياطينه المختلفة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المولّد “شغّال”، وسينطفئ بعد ساعة لإراحته. صرتُ متأقلماً مع ساعات التقنين المستجدّة، مع الغياب شبه التام لما نسميه “كهرباء الدولة”. أنتظر العتمة وأتحضّر لها كما يليق بالقرن الواحد والعشرين. الـ”باور بانك” مشحون. وبطارية اللابتوب ملأى حتى آخرها. أغلق غرفة النوم حيث أعمل، قبل ساعة من التقنين، وأرفع من درجة التكييف وأخرج مع اللابتوب لأجلس في الصالون، لكي أعود إلى الغرفة وأتمتع ببعض البرود بعد انقطاع الكهرباء، الذي يسمح لي بالنوم حتى عودتها. الآن أفكّر في مفارقة العتم الذي يتسلل كـ”قطيع” إلى العواصم التي انكسرت بالقرب منها “قارورة عطر الجنة”. وهذه المصطلحات، استذكرها من أحد كتب حازم صاغية. أقول وأنا أفكّر في العتم المقبل، المرتبط موضوعياً الى حدّ بعيد بثقافة سياسية إقليمية، إنني قرأت عن هذا العتم في السابق في مكان ما من كتب صاغية. وأغتنم فرصة الضوء المتوفّر للبحث عن الكتاب في المكتبة، والعثور على المقطع الذي يتحدث فيه عن العتم كمشروع سياسي ينجح في طمس بيروت بالسواد الحرفي، من دون الحاجة إلى البلاغة ولا الاستعارات. 

أبحث عن “قطيع عتم” حازم صاغية كذئب متمرّس. وأعرف أن ذاكرتي لا تخونني ولو انني على الغالب قرأت الكتاب قبل ما يزيد على عشر سنوات. وربما أكثر. وهكذا، على غرار أنف “أبو كلبشا” الذي لا يخطئ، رحت أشمشم الكتب بحثاً عن “ارتكابات” صاغية، فأخرجت من المكتبة “ثقافات الخمينية” و”وداع العروبة”، وطرحتهما أرضاً، ثم بدأت افلفش فيهما كمن يفرغ بنطاله بحثاً عن مال ضائع. ونزل شيء من الظلام منهما، لكن ليس “قطيع العتم”. ولم تفح منهما رائحة “عطر الجنة”. أعدتهما إلى مكانيهما، ثم استدعيت كتباً أخرى للتحقيق. وضحكت وأنا أقوم بالمهمّة، إذ شعرت بأنني أشبه بمحقق في مركز استخبارات بعثي، يريد انتزاع اعتراف بالقوة. وصرت أشكّك في ذاكرتي. قلت ربما تكون مخطئة، ولا علاقة لحازم صاغية بـ”قطيع العتم”. ربما يكون كاتباً آخر. ربما أكون قد وقعت بما يسمّيه باتريك زوسكيند “فقدان الذاكرة الأدبية”، فيغلب التشوّش على اليقين وتنخدع الذاكرة ولا تجد ما تبحث عنه. لكنني لا أستسلم. أسحب تباعاً “نانسي ليست كارل ماركس” ثم “قوميو المشرق العربي”، وبعدهما “هجاء السلاح”، ولا أعثر على غايتي. أشكك مجدّداً بذاكرتي، وأقول إن العتمة امتدّت إليها، قبل أن تدلّني بقعة ضوء في الرأس إلى “هذه ليست سيرة” (دار الساقي، 2007). إنه هو. في هذا الكتاب يتحدث حازم عن قطيع العتم. أنا متأكّد. “أنفي لا يخطئ”!

أفكّر وأنا أفلفش الكتاب بحثاً عن العتم، في مفارقة حاجتي إلى الضوء للبحث عن “العتم”. وأفكر في مفارقة ثانية، هي عدم وجود خاصية البحث السريع عن كلمة أو جملة في الكتب الورقية على غرار محركات البحث الرقمية. كم كنت لأوفّر وقتاً وعناءً لو توفرت هذه الخدمة في الورق. عليّ الآن أن أقوم بشبه اعادة قراءة سريعة للكتاب حتى أعثر على “قطيع العتم” المختبئ فيه. وساعدتني على الاختصار العناوين في الفهرس: “اكتشاف اله كالح”. هذا هو العنوان المتناسب مع العتم. نقول عتم كالح. والكالح في اللغة هو المعتم والمتجهّم والكئيب. وهذا الفصل هو عن إيمان حازم صاغية بالخمينية في بدايات الثورة. وعثرت فيه على اللون الأسود، وما “حلّ ببيروت” بعدما “انكسرت على مقربة منا قارورة عطر الجنّة وفاحت رائحة لا يشتهيها أنف”. ولا بدّ إذاً أن أعثر على القطيع في مكان ما هنا. لكن بلا جدوى. كان مختبئاً في مكان آخر. في “مغارة” أخرى من مغاور الكتاب. وشعرت وأنا أفلفش بأنني أضع “أنتريك” (مصباح يعمل على البطاريات يذكّرني بالملاجئ أيام الحرب) في فمي وأبحث في نفق عن توهّج العتم في العتم. 

عثرت على العتم أخيراً في الفصل الأخير. في ثمانينات بيروت التي اسودّت يومذاك، كما يقول صاغية. و”حتى الآن يحضرني العتم كلما حضرتني ثمانيناتها” و”ليل المدينة كتلة سوداء”. ويروي في هذا الفصل كيف كانت “الوحشة تشتد حين أعود في وقت متأخّر إلى البناية الضخمة، ثم أضطر إلى صعود الطوابق الخمسة مستعيناً بأعواد ثقاب أرميها بعد أن تترمّد ماسّة أطراف أصابعي، ثم أفتح الباب بتوجّس من يفكّك عبوة”. هل يتحدث عن بيروت الثمانينات؟ أم عن بيروت اليوم؟ أم عن  بغداد 2021؟ كنت أبحث عن “قطيع العتم”، لأن مفارقة زحفه إلى عواصم تتصل مباشرة بنفوذ إيراني باتت أمراً يستحق التأمّل. من بيروت إلى دمشق وغزة وصنعاء وبغداد. وغدا الليل في هذه العواصم “عبئاً على أفراد أحبوّه” كما يقول صاغية عن ليل بيروت الثمانينات الغارق بعتمة “إله كالح”. هل هي مجرّد مصادفات أن يقترن العتم بالنفوذ الإيراني؟ أن يحضر العتم في هذه المدن يداً بيد مع الاستعصاء السياسي الذي يمثله المحور المرتبط بإيران، حتى ليبدو أن هناك عداءً بين أتباعه وبين الضوء. وبينهم وبين التبريد. وبينهم وبين النفط. هل هي مجرّد مصادفات أن يكون عتم هذا المحور “سخياً” على شعوبه، في وقت ترمى كل المسؤولية على “الخارج” وشياطينه المختلفة؟ 

أعلم أن الإجابة لا يمكن أن تكون قاطعة. كثيرون يشتركون في “دم الكهرباء” المسفوك في بيروت كما في بغداد وسواهما. لكن الإجابة ربما تكمن في النهاية التي يسطّرها صاغية لـ”سيرته” التي “ليست سيرة”: “واستمرّ قطيع العتم يتقدّم، وفي موازاته تنمو مشاعر الذنب حيال أخذ الناس كتلة واحدة ومعالجتهم جميعاً بالغضب. فالتمييز والتسامح صارا كمالية لا أملكها، وبقيتُ لا أملكها، يضاعف افتقاري إليها البقاء فوق مسرح الجريمة. ولم يصب بالنعاس ذلك الجمر الذي كنته وبقيته إلى أن جاء من يدعوني إلى لندن حيث ثمة فرصة عمل تنتظر. إذاً إلى لندن”. 

عثرت إذاً على “قطيع العتم”. وها هو يتقدّم ويسيطر مع انقطاع الكهرباء وانطفاء المولّد. أكمل هذه الكلمات الأخيرة تحت وطأة العتم الذي يلفّ المدينة بأسرها وينسحب إلى مدن وعواصم أخرى. الغرفة لا تزال باردة، كما خططت، وكما تأقلمت. سأنهي هذه المقالة وأنام. لم أتلق بعد دعوة من أحد إلى لندن أو سواها، مع أنني ارسلت سيرتي الذاتية إلى عواصم كثيرة خارج هذا “الشرق الأوسط الكبير”، بحثاً عن فرصة عمل تكون طوق نجاة لعائلتي من “قطيع العتم” الذي يفترس المنطقة بأسرها. 

إقرأوا أيضاً: