fbpx

هل يتكرر السيناريو الأفغاني
بانسحاب أميركي من العراق؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الآن يقول لنا الأميركيون، بعدما فشلوا فشلاً ذريعاً في كلا البلدين، إن إمارة طالبان الإسلامية يمكنها أن تكون مكوناً ملحاً للمصلحة القومية الأميركية، وأن عراقاً تحكمه الميليشيات هو الآخر يمكن أن يكون أيضاً مكوناً ملحاً  للمصلحة نفسها. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لعل السؤال الأكثر إلحاحاً بعد سقوط كابول بيد طالبان هو عن إمكانية تكرار السيناريو الأفغاني في حال خروج الولايات المتحدة الأميركية من العراق.

وهذا السؤال يفترض سؤالاً آخر، هو هل ستنسحب الولايات المتحدة الأميركية من العراق في المستقبل المنظور كما انسحبت من أفغانستان؟

لنبدأ من السؤال الأخير؛ كان انسحاب الولايات المتحدة من العراق نهاية عام 2011 هو الخطوة الأولى لتكريس سلسلة من السياسات الطائفية، أدت إلى سقوط أكثر من ثلث مساحة العراق بيد تنظيم الدولة “داعش”.

عام 2013، أي في السنة السابقة لغزوة  “داعش”، كان تعداد القوات العسكرية والأمنية العراقية يزيد عن 984211 فرداً (661914 فرداً في وزارة الداخلية، و322297 فرداً في وزارة الدفاع)، تبعا للأرقام التي وردت  في قانون الموازنة الاتحادية العامة للسنة نفسها، إضافة إلى بضعة آلاف آخرين في أجهزة اخرى. 

وبلغت ميزانية هاتين الوزارتين حينها ما مجموعه 87.415 مليار دولار ما بين عامي 2006 و 2013 (بواقع 42.882 مليار دولار لوزارة الدفاع، و44.569 مليار دولار لوزارة الداخلية)، تضاف اليها بضعة مليارات أخرى خصصت في موازنتي العامين 2004 و2005، ومليارات أخرى صرفتها الولايات المتحدة والدول المانحة الأخرى على هذه القوات. كل هؤلاء الأفراد، وهذه المليارات، لم تستطع الوقوف بوجه بضعة آلاف من مقاتلي “داعش”، على أعلى تقدير، بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة.

بعد سيطرة “داعش” على الموصل، وتمدده جنوباً وغرباً، لم تكن هناك استجابة دولية حقيقية لما يحصل على الأرض، فالجميع عمدوا إلى تسويغ ما حصل بأنه نتيجة حتمية للسياسات الطائفية التي اعتمدها الفاعل السياسي الشيعي المهيمن على القرار السياسي في العراق. وقامت المقاربة الأميركية حينها على أساس أن سقوط الموصل كان نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية التي مارسها رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. من هنا اعتقد الأميركيون أنه لا بد من التزام الحكومة العراقية بمقاربة سياسية تعيد ثقة الجمهور السني بالدولة العراقية كمقدمة ضرورية لهزيمة “داعش”. وكانت الفكرة الرئيسية في هذا السياق تشكيل قوى محلية، بقيادات محلية عبر نموذج “الحرس الوطني”، يمكن ان تكون مقدمة لمعالجة أزمة الثقة القائمة بين جمهور المحافظات الخاضعة لسيطرة “داعش” والحكومة العراقية والقوات العسكرية والأمنية التابعة لها. لهذا السبب انتظرت الولايات المتحدة شهرين تقريباً قبل أن تعلن تدخلها لمواجهة التنظيم؛ نتيجة خطأين استراتيجيين وقع بهما “داعش”، الأول الإبادة الجماعية للإيزيديين في جبل سنجار، والثاني مهاجمة مخمور وتهديد أربيل. حينها أعلن الرئيس أوباما في السابع من آب/ أغسطس تدخل القوات الأميركية بعمليات عسكرية مباشرة، واعتمدت الاستراتيجية الأميركية التي أعلنت في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر، ركيزتين أساسيتين: ضربات جوية منهجية، ودعم قوات محلية “سنية”، مع استبعاد تام لأي مشاركة برية مباشرة من القوات الأميركية.

في المقابل، كان الفاعل السياسي الشيعي حريصاً على إدارة المواجهة وفقاً لمصالحه، رافضاً فكرة أن ظاهرة “داعش” هي نتيجة طبيعية للسياسات التمييزية التي اعتمدها، عبر تسويق فكرة أن ما حصل هو نتيجة “مؤامرة دولية”، وأن “داعش” ليس تنظيماً عراقياً، بل تنظيم اجنبي كان نتاجاً للصراع في سوريا. لهذا بدلاً من فكرة “القوات المحلية لمحاربة داعش”/ الحرس الوطني، وهي الفكرة التي اقترحها الأميركيون، وتم تبنيها في البرنامج الحكومي للسيد حيدر العبادي (2014 ـ 2018) الذي حاز ثقة مجلس النواب في أيلول/ سبتمبر 2014، عمد الفاعل السياسي الشيعي إلى وأد هذه الفكرة فوراً، مستبدلاً إياها بفكرة “الحشد الشعبي”، بعد “تحريف” فتوى السيد علي السيستاني الخاصة بالجهاد الكفائي التي دعا فيها إلى التطوع في المؤسسة العسكرية والأمنية، ليستغل هذه الفتوى لشرعنة ميليشيات عقائدية شيعية كانت قائمة قبل الفتوى، ومنحها غطاء رسمياً.

إقرأوا أيضاً:

نتيجة لضغط “داعش”، وانهيار المؤسسة العسكرية العراقية، اضطر الاميركيون إلى التخلي تدريجياً عن مقاربتهم السياسية للمسألة، والخضوع لوجهة نظر الفاعل السياسي الشيعي، وذلك بالتركيز أكثر فأكثر على المقاربة العسكرية. وفي النهاية أصبحنا أمام استراتيجية أميركية تقوم على المقاربة العسكرية وحدها لهزيمة “داعش”، من دون ربط ذلك بأي إصلاح سياسي في ما يتعلق بالسياسات التمييزية، بل على العكس تم تكريس هذه السياسيات في سياق استثمار الحرب على “داعش”، من خلال القبول بدور للميليشيات العقائدية في هذه الحرب، والصمت المطبق عن انتهاكاتها الموثقة، وهو ما جعل الجنرال ديفيد بترايوس القائد السابق للقوات الأميركية في العراق، والرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات الأميركية، يحذر مبكراً من تحول الطائرات الأميركية إلى غطاء جوي لميليشيات عراقية تديرها إيران!

وكانت الخطة العسكرية التي تم اعتمادها، بتوجيه أميركي، هي خطة “نقلة الفرس”، أي اعتماد مبدأ حركة الفرس في الشطرنج، والتي تقوم على طرد تنظيم الدولة من المدن التي سيطر عليها، وليس هزيمته هزيمة نهائية. وذلك عبر الانتقال من مدينة إلى أخرى، من دون ملاحقة عناصره التي تنسحب عادة باتجاه محيط تلك المدن، وإلى المناطق التي كان يتمركز فيها قبل القيام بغزواته المتتالية بداية من كانون الثاني/ يناير 2014. لا سيما أن الاستراتيجية القتالية التي اعتمدتها القوات العراقية لمواجهة “داعش” استندت حينها إلى ثلاثة عناصر رئيسية: التحشيد والحركة بأعداد كبيرة؛ واستخدام الكثافة النارية من جميع أنواع الأسلحة بشكل عشوائي؛ والغطاء الجوي الأميركي. وهي استراتيجية لا يمكن اعتمادها، في الواقع، عند ملاحقة أفراد ومفارز “داعش” في المناطق الصحراوية والوعرة التي لجأوا إليها، وهو ما جعل داعش تتحرك بمرونة عالية في هذه المناطق، وتقوم بتهجمات شبه يومية على أطراف المدن والبلدات، ثم تعود إلى قواعدها، وهي تعلم أن القوات العراقية لن تلاحقها بسرعة، بل تحتاج إلى استعدادات واسعة قبل القيام بهكذا مهمة، وبالتالي تفقدها عنصر المباغتة، وتعطي الفرصة لمقاتلي “داعش” لتغيير مواقعهم.

هكذا بقي “داعش” يشكل خطراً حقيقياً، من خلال استثمار تداعيات المشكلة السنية لمصلحتها، واستثمار السياسات التمييزية من أجل مزيد من “المتطوعين”، الذين انضموا إليها ليس إيماناً بالايديولوجيا نفسها، بل بحثاً عن ملاذ آمن، أو رغبة في الانتقام، وبالتالي ما زال التنظيم ينتظر اللحظة المناسبة لاستعادة لحظة 2014 مرة أخرى. 

 الإجابة على السؤال المتعلق بتكرار سيناريو أفغانستان تقتضي النظر في عوامل هي:  طبيعة القوات الأمنية، واستمرار السياسات التمييزية وتعزيزها عبر الميليشيات العقائدية الشيعية، خطر “داعش” الكامن، ثم النظر في العامل الرابع المهم والذي يتجاوز العراق، ويتعلق بالتغول الإيراني في المنطقة، وهو أمر يهمّ الولايات المتحدة كثيراً؛ فإيران تسيطر على القرار السياسي في العراق، ولديها ميليشيات عقائدية في سوريا ولبنان واليمن مستعدة للقتال بالوكالة بأوامر إيرانية، ومن ثم فإن أي انسحاب أميركي مبكر من العراق سيعني أن أميركا ستفقد مصالحها في العراق لمصلحة الغريم الإيراني، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات تمس الأوضاع في دول الإقليم الحليفة للولايات المتحدة (البحرين والعربية السعودية بشكل مباشر) والمنطقة ككل بشكل غير مباشر.

في المقابل، ليست ثمة إرادة حقيقية لدى ايران، ولدى وكلائها بالتبعية في العراق، للضغط باتجاه سحب القوات الأميركية من العراق، لأسباب موضوعية ومنطقية بالنسبة إلى إيران التي  تخشى من تعرض العراق إلى عقوبات أميركية في حال الانسحاب، وهي عقوبات من شأنها أن تفقد إيران  المصدر الثاني للعملة الصعبة  مع وجود العقوبات الأميركية عليها. وبالتالي يجب التعامل مع صواريخ الكاتيوشا والدرونز بوصفها مجرد “رسائل” إيرانية للضغط على الأميركيين لحثهم على القبول  بالشراكة الإيرانية في العراق، كما كان عليه الحال بعد عام 2003 من دون أي تعديل، فضلاً عن الإفادة منها كورقة ضغط في سياق المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الايراني. كما ليس ثمة إرادة حقيقية لدى الفاعلين السياسيين الشيعة أيضاً لذلك، بسبب وعيهم بمدى الحاجة إلى بقاء القوات الأميركية في العراق على المدى القصير، تحديداً القوات الجوية التي لا بديل لها في حالة الانسحاب، وبالتالي فقدان العراق العنصر الأكثر حسماً في مواجهة خطر “داعش”. 

يأتي الجواب عن السؤال الذي طرحناه بداية مع كل هذه الأسباب التي  تجعل الولايات المتحدة حريصة تماماً على الإبقاء على وجود لها في العراق، حتى وإن كان وجوداً عسكرياً رمزياً على الأقل في المدى القصير. صحيح ان الاستراتيجيات المتتالية للأمن القومي الأميركي، بدءاً من الاستراتيجية التي اعتمدها الرئيس أوباما عام 2010، وانتهاء بوثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي” التي أصدرها البيت الأبيض بعد أسابيع من تولي الرئيس جو بايدن مهماته، ركزت على منطقة المحيط الهادئ والدور الصيني والروسي المتعاظم، في مقابل التقليل من أهمية الشرق الأوسط عموماً، إلا أن هذه الاستراتيجيات  تناولت أيضاً موضوع الأمن، تحديداً في مواجهة المنظمات المتطرفة، وإمكانية تكرار سيناريو 11 أيلول/ سبتمبر، وبالتالي ما يصلح مع طالبان في أفغانستان لا يمكن أن يصلح مع “داعش” في العراق، من دون الدخول في تكهنات مفرطة حول الدور المحتمل لطالبان في سياق الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين أو روسيا أو إيران.

في مقال نشرته كونداليزا رايس في مجلة Foreign Affairs عام 2008 بعنوان “إعادة التفكير في المصلحة القومية، الواقعية الأميركية لعالم جديد”، قالت رايس إن بناء دول ديموقراطية في العراق وأفغانستان هو “مكون مُلِح لمصلحتنا القومية”. 

الآن يقول لنا الأميركيون، بعدما فشلوا فشلاً ذريعاً في كلا البلدين، إن إمارة طالبان الإسلامية يمكنها أن تكون مكوناً ملحاً للمصلحة القومية الأميركية، وأن عراقاً تحكمه الميليشيات هو الآخر يمكن أن يكون أيضاً مكوناً ملحاً  للمصلحة نفسها. 

إقرأوا أيضاً: