fbpx

“لا رجل ينتظرني في أوروبا”: عن لحظاتي الأخيرة في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لكلّ فتاة مخططها للخروج من سوريا، قد ينجح أو يفشل، كثيراتٌ ينتظرن لحظة يلتقين بأزواجهن أو الشبان الذين ارتبطن بهم عبر القارات. في عيادة طبيب الأسنان أراقب الفتيات المشرقات بانتظار لمّ الشمل مع رجالهن، انتبه الطبيب، أيقظني من شرودي: “حان دوركِ”. سباق أسناني مع الزمن يُفاجأ طبيبي حين أطلب منه الاستعجال في إنهاء علاج أسناني، “حتى أنتِ بدك تسافري!” يبدو أنني الفتاة الخامسة التي تخبره أنها ستسافر قريباً، ما زال اليوم في أوله، وعلى هذا النحو سيصبح عدد المهاجرين بالعشرات مساءً. يعالج السوريون أسنانهم قبل الهجرة أو في إجازاتهم القصيرة لسبب بسيط، أجور الأطباء في الخارج مرتفعة، والنصيحة الأولى التي يتلقاها كل مُقدِم على السفر: “عالج أسنانك قبل رحيلك وإن كنت ترغب بإجراء أي عملية تجميل، فلا تخرج من سوريا قبل إجرائها”، وأنا أخذتُ بهذه النصيحة وبدأت رحلة العلاج، لكن الوقت بات ضيقاً أو ربما هكذا أظن. أكثر المرضى هن فتياتٌ عُقِد قرانهن على شبان مهاجرين في دول أوروبا، يطمحن إلى لقاء رجالهن بابتسامة هوليوودية عريضة، “كل صبية سفرها بعد شهور، تأتيني طالبة المعجزات، لا تقويم أسنان ينتهي في ثلاثة أشهر، لكنني أحاول تصحيح الوضع قدر المستطاع”، يقول الطبيب. أنظر إلى أسناني في المرآة الصغيرة وأنا ممددة على كرسي العلاج، بينما يسألني: “ألن تعودي ولو زيارة إلى هنا؟ ربما نكمل…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لكلّ فتاة مخططها للخروج من سوريا، قد ينجح أو يفشل، كثيراتٌ ينتظرن لحظة يلتقين بأزواجهن أو الشبان الذين ارتبطن بهم عبر القارات. في عيادة طبيب الأسنان أراقب الفتيات المشرقات بانتظار لمّ الشمل مع رجالهن، انتبه الطبيب، أيقظني من شرودي: “حان دوركِ”.

سباق أسناني مع الزمن

يُفاجأ طبيبي حين أطلب منه الاستعجال في إنهاء علاج أسناني، “حتى أنتِ بدك تسافري!” يبدو أنني الفتاة الخامسة التي تخبره أنها ستسافر قريباً، ما زال اليوم في أوله، وعلى هذا النحو سيصبح عدد المهاجرين بالعشرات مساءً. يعالج السوريون أسنانهم قبل الهجرة أو في إجازاتهم القصيرة لسبب بسيط، أجور الأطباء في الخارج مرتفعة، والنصيحة الأولى التي يتلقاها كل مُقدِم على السفر: “عالج أسنانك قبل رحيلك وإن كنت ترغب بإجراء أي عملية تجميل، فلا تخرج من سوريا قبل إجرائها”، وأنا أخذتُ بهذه النصيحة وبدأت رحلة العلاج، لكن الوقت بات ضيقاً أو ربما هكذا أظن.

أكثر المرضى هن فتياتٌ عُقِد قرانهن على شبان مهاجرين في دول أوروبا، يطمحن إلى لقاء رجالهن بابتسامة هوليوودية عريضة، “كل صبية سفرها بعد شهور، تأتيني طالبة المعجزات، لا تقويم أسنان ينتهي في ثلاثة أشهر، لكنني أحاول تصحيح الوضع قدر المستطاع”، يقول الطبيب. أنظر إلى أسناني في المرآة الصغيرة وأنا ممددة على كرسي العلاج، بينما يسألني: “ألن تعودي ولو زيارة إلى هنا؟ ربما نكمل علاجها خلال زياراتك”، أجيبه بينما يضع مثقاب الأسنان في فمي بتمتمة تكاد لا تخرج بسبب عجزي عن الكلام: “حدا بيطلع وبفكر يرجع!”، ليعدني بأنه سيبذل جهده لننتهي في أقرب وقت، أردُّ ساخرةً: “مع أن لا رجل ينتظرني في أوروبا”.

العريس الوهميّ

منذ اقتربتْ لحظة خروجي من سوريا، بدأت تحضيرات تتعلق بجسدي، لدي شعور دائم بضرورة الخروج بأفضل شكل من هنا، لا يجوز بعد حرب استمرت أكثر من عشر سنوات الرحيل كيفما اتفق، أو الخروج بكيلوغرامات زائدة بسبب القلق والتهام الطعام عند كل شعور بالخوف أو التهديد. أخرج من العيادة متوجهةً إلى النادي الرياضي، أخطط للتخلص من بعض الكيلوغرامات الزائدة قبل الهجرة. كنت قد انقطعت مدةً عن ممارسة الرياضة، أقول للمدربة: “معي أشهر قليلة ويجب أن ينزل وزني، سيأتي شاب تقدم لي من أوروبا ويجب أن أكون بصورة مثالية”، بتُّ أحب الخدع الصغيرة التي أصطنعها منذ قررت الرحيل، أكذوبات تتعلق بعريس غير موجود، برجل من أوروبا، لا يكترث المجتمع هنا لفتاة تودّ السفر بمفردها بينما يبذل قصارى جهده للاعتناء بالفتيات المقبلات على الزواج قبل رحيلهن. هذا ما دفعني لأقول للبائع في أحد محال الألبسة الداخلية في منطقة الحريقة أنني العروس، كانت تكفي هذه الكلمة السحرية ليعرض البائع ما هب ودب من ثياب النوم والثياب الداخلية بينما وقفت صديقتي جانباً تسخر من العريس الوهمي و”اللانجري” الفاضحة التي أصرّ البائع أنها أساسيات أي عروس تود السفر إلى زوجها، “كل الفتيات اللواتي مررن من هنا قبل سفرهن اشترين هذه القطع”، يؤكد لي، بينما أرفضها بذريعة أن عريسي لا يحب هذه التصاميم والألوان، ليرضخ البائع الذي يخطط للزواج مرة ثانية، فلا يمكن شراء ما قد لا يعجب الزوج!

يشغل الزواج من مهاجر سوريّ في أوروبا كثيرات، شاب يودُّ الزواج وتأسيس عائلة بعيداً من الانحلال الأخلاقي كما ادعى زوج صديقتي حين أخذها معه الصيف الماضي، هناك فتيات يخرجن بالفعل بدافع الدراسة أو يقررن الهجرة بمفردهن لكنهن قليلات، اليوم تسافر فتيات نحو الإمارات العربية المتحدة، كثيرات ممن أعرفهن وصلن بسهولة، الحصول على الفيزا بات سهلاً بخاصة مع وجود معرض إكسبو دبي، حيث سيفعلن ما في وسعهن للحصول على عمل كيلا يعدن على الإطلاق! 

في النادي الرياضي تبذل المدربة كلّ جهدها في تدريبي، تستمر في إعطائي تمارين أصعب وأصعب، الكثير من “الكارديو” والأوزان وحرق السعرات، أخرج في نهاية اليوم وكلّ عضلة في جسدي منقبضة، تعقب المدربة واثقة: “لا بأس يستحق العريس ذلك”.

إقرأوا أيضاً:

ألن تخبرني ماذا حصل في المعتقل؟

مذ اعتقل صديقي قبل عام، باتت الأيام ثقيلة ومخيفة، وكأن الثقل في روحي انتقل إلى جسدي، وبات القلق يعني تناول المزيد من الحلويات والكحول والتدخين، لشهور لم أسمع خبراً عنه، وكلما سألت عائلته أكدوا لي أنه سافر، كنتُ أعلم أنه لم يسافر، لا هجرة من دون أثر، حاولت تصديق أنه لم يودعني قبل رحيله، لا أستطيع السؤال أكثر، لربما يكون في خطر، حاولت تجاهل خطه المغلق ورسائل “الواتس أب” التي لم تصله، لم أرد تصديق اعتقاله، لا يمكن أن يتعرض للتعذيب في اللحظة التي اسأل فيها عنه.

وعندما التقيته للمرة الأولى في باب شرقي بعد خروجه من المعتقل، عانقته بقوة، لم أتعرف إليه للحظة، كان قد فقد الكثير من وزنه. اعتُقل صديقي لأن شخصاً آخر أراد الاستحواذ على مكان عمله فكتب تقريراً أمنياً اتهمه فيه بدعم المعارضة السورية، إضافة إلى تهم أخرى كفيلة بقتله داخل المعتقل، اعتُقل فقط لأن أحداً أراد إزاحته من طريقه، لكنه خرج. المعجزات تحصل بوجود علاقات مع شخصيات مهمة في الدولة. في ذلك اليوم الصيفي توقفت السيارات في باب شرقي، تنتظر أن ننهي عناقنا الطويل وسط الشارع المستقيم، العناق الذي لم يكن رومانسياً كما اعتقد السائقون إنما هو احتضانٌ اطمأننت فيه أن السجّان لم يسرق أي جزء من صديقي.

يطلب مني صديقي كتابة ما حدث معه، لا يريد لأحد سواي الاحتفاظ بما حدث معه، لكننا حتى الآن لم نجرؤ على الحديث عمّا مرَّ به وكأننا نؤجل سرد الذكريات المؤلمة ونكتفي بعلاجه نفسياً مما مرّ به والتأكد من أنه حيّ بالطبطبة على يده وبالعناقات الدافئة. والآن وبانتظار سفري خلال الأشهر المقبلة، هل سيتسنى لنا الحديث عمّا حصل معه في المعتقل؟ في بعض الأحيان، أشعر بأنه يتحاشى إخباري كيلا يثير الذعر داخلي، فهو يعلم تماماً كم يخيفني الأمن السوريّ وحكايات تعذيبه المعتقلين، وبينما أكدّس الثياب وذكرياتي والكتب الأحب إلى قلبي والهدايا الثمينة من رفاقي في الحقائب، أفكّر، متى سألتقي صديقي مرة أخرى ليخبرني عما عاشه في المعتقل؟

لا أطمح لتوفير المال بعلاج أسناني في سوريا بدلاً من الخارج، ولا أريد جسداً مثيراً، كلّ ما أحتاجه هو الخروج بابتسامة عريضة نكاية بهذه البلاد، أريد الرحيل وقد تخففت من كلّ أوزان الخوف والقسوة وأدوية القلق والاكتئاب.

إقرأوا أيضاً: