fbpx

حيّ التنك في طرابلس…
الحياة لا تمرّ من هنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فهذه الأحياء العشوائية التي تشكل حزام بؤس يطوّق المدينة، ليست سوى تعبير لغياب الدولة والسياسات التهميشية المقصودة وغير المقصودة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“فيكي تساعديني لسافر؟”، كلمات استقبلنا بها مصطفى وهو طفل لا يتجاوز السادسة عشرة، في حي التنك، ميناء طرابلس. يريد مصطفى أن يهاجر إلى تركيا وقد حضّر أوراقه من أجل الحصول على جواز، لكنه لا يملك ثمنه ولا ثمن التذكرة. مصطفى وأمه وكل سكان الحي، يركضون إلى أي زائر جديد، ينظرون إليه كهدية محتملة، قد تحمل معها مساعدة اجتماعية أو غذائية أو مادية. فالحيّ منسي كأحياء كثيرة في طرابلس، أفقر مدن لبنان والمنطقة. لا يخافون من قول أسمائهم الكاملة، لا يفكّرون بأي وصمة أو حرج، لأن أسماءهم منسية أصلاً وتكاد تكون غير مرئية في سجلات الدولة والإنسانية.

مصطفى موعود بالعمل مع أحد المعارف في تركيا في مطعم، هذا هو حلم طفل لبناني مسكين في حي سقوف منازله من البلاستيك أو التنك. وأنا أنظر في عينيه الحزينتين، فكّرت في ما قد يفعله في حال لم يتأمّن المبلغ المطلوب. هل يسافر إلى جنّته الموعودة بقوارب الموت التي تعبر من شواطئ مدينته نحو تركيا وقبرص وغيرهما؟ وكم مصطفى يعيش في داخل الحارات التعيسة هناك؟

1300 عائلة

يُعتبر حي التنك أفقر العشوائيات الأربع التي تحتلّ الخاصرة الجنوبية لمدينة الميناء في شمال لبنان، وتحديداً لناحية مدخلها البحري للقادم من بيروت. تعيش في حي التنك 1300 عائلة، وفق إحصاء إحدى منظمات الأمم المتحدة. وهؤلاء غالباً ما لا يملكون دخلاً، يعيشون على المساعدات ويعمل أطفال كثيرون في جمع أواني التنك والبلاستيك وبيعها. 

تظهر الأرقام الموثقة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الميناء والمعروفة بـ”مدينة الموج والأفق”، أن ثمة تنافساً بينها وبين جارتها طرابلس على احتلال المركز الأول فقراً وحرماناً، وتالياً لجهة السكن غير اللائق. فبحسب “دليل الحرمان الحضري” الذي أعده الباحث أديب نعمة لصالح “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (الإسكوا) (2015) فإن 80 في المئة من سكان الميناء لا يتمتعون بأي ضمان صحي مقابل 76 في المئة من سكان طرابلس. كما أن 84 في المئة من سكان الميناء لا يملكون أي حساب مصرفي مقابل 78 في المئة من سكان طرابلس.

حي التنك يشبه بمآسيه أحياء كثيرة في طرابلس كحي الغرباء وحي الجديد وحي التنك في أبو سمراء ومنطقة الشلفة على ضفاف أبو علي… فهذه الأحياء العشوائية التي تشكل حزام بؤس يطوّق المدينة، ليست سوى تعبير لغياب الدولة والسياسات التهميشية المقصودة وغير المقصودة بحق طرابلس وأهلها.

يخبرنا محمد الذي لا يتجاوز العاشرة بحماسة عن عمله في جمع التنك، تلمع عيناه حين يشرح عن مهنته، وحين نسأله عن المدرسة، يقول “ما في مدرسة”. محمد وإخوته وأبناء عمومته وأصدقاؤه جميعهم يعملون في جمع التنك… وجميعهم خارج المدرسة وخارج حسابات الدولة. فالدولة تتدخل لمطالبة السكان بالرحيل، لكنها تغيب غياباً تاماً عن موضوع تأمين البديل وفرص العمل والتعليم لآلاف المواطنين الذين يعيشون هناك. وإذ تقدر نسبة التسرب المدرسي في الميناء بـ40 في المئة، فهي تناهز الـ80 في المئة في حيّ التنك.

التطبيع مع القهر…

الشعور الذي تمنحني إياه طرابلس كلما زرتها بحثاً عن قصة صحافية، لا يبرح يتجدّد، دائماً ما أعتقد أنني تجاوزت الأمر وسأتعامل مع القضية بمنتهى القوّة، لكنّ درجات البؤس تكبّلني من جديد. أنسى الأسئلة التي جئت من أجلها وأنغمس في تفاصيل أخرى.

في حي التنك لا يملك الأهالي ترف المشي على طريق طبيعي، فالأرض تحوّلت إلى مستنقعات من الوحل وبرك المياه مع بداية الشتاء. ويبدو مريباً أن الناس هناك طبّعوا مع هذا القهر، وقد أكّدوا جميعاً أنهم لا يريدون ترك منازلهم.

تحمل سميرة جبيلي (21 سنة) طفلها والابتسامة لا تفارق وجهها المتعب، الطفل بلا أوراق ثبوتية وهو غير مسجّل في أي مكان، لأن المستشفى الحكومي كما تروي احتجز وثيقة الولادة لأنها لم تدفع ما يتوجّب عليها، يوم أنجبت طفلها إلى العالم. إنه عالم يملك ما يكفي من الوقاحة ليلفظ طفلاً من ساعة ولادته، ويستمر في قذف لعناته عليه حتى يصبح رجلاً، ورجلاً بائساً.

تتجمع النساء حولنا ومعهن أطفالهنّ، يكررن سؤالاً يتيماً عما إذا كنا منظمة أو جمعية توزّع المساعدات. كل الخشية أن نرحل من هناك ولا تحصل عائلاتهن على حصة. تصبح وجوههن أكثر سواداً حين نخبرهن أننا مجرّد جهة صحافية وأن كل ما نملكه هو كتابة تحقيق يوثّق جزءاً صغيراً من هذا الحزن الطويل.

“15 ألف ليرة كلفة توصيل طفلي كل يوم إلى المدرسة في الباص، لذلك يسير مع أصدقائه إلى المدرسة التي تبعد نحو نصف ساعة من الحي”، إنها حال الجميع، تقول إحدى السيدات. “عندي خمسة أطفال، أحتاج كل يوم إلى 75 ألف ليرة ليذهب أولادي إلى المدرسة، وهذا أمر مستحيل!”…

استملاكات عشوائية

حي التنك عبارة عن أزقة ضيقة، جزء منها أملاك عامة والجزء الآخر ملكيات خاصة، لكن شيّدت الغرف منذ سنوات هناك من دون أي تنظيم، وإن كان القانون ينص على إخراج الناس من البيوت التي لا يملكونها أصلاً، فماذا يفعل القانون بهؤلاء؟ هل يرميهم على الطرق؟

الاستملاكات العشوائية توالت عبر السنين، حتى صار الناس يبيعون الغرف التي بنوها أو يؤجرونها إلى آخرين، بمقابل زهيد. وامتدت العشوائيات، فمن زوّج أولاده بنى لهم غرفاً محاذية ليسكنوا فيها، في غياب تام للدولة. كل ما تفعله الدولة حالياً هو ملاحقة من يسقف غرفته بغير التنك، فالقانون يعاقب على ذلك، وأخبرنا الأهالي عن دوريات تأتي في حال تم التبليغ عن شخص سقف منزله حتى لا ينزل المطر على أطفاله. وبالفعل هناك عائلات تم إخراجها من البيوت لتتوه بطبيعة الحال في العراء، فلا خطط سكنية ولا حلول للفقراء ولا أمل للأطفال بحياة طبيعية.

يعيش في حي التنك سوريون ولبنانيون، ولشدة البؤس يتنافسون على المساعدات القليلة التي تصل، والتي تشكّل طريقهم الوحيد للبقاء على قيد الحياة. 

مكتب المساعدات

موضوع المساعدات يشغل بال الجميع هنا، يخبرونك عن استنسابية في التوزيع وعن بيوت تأخذ حصة الأسد، فيما حارات أخرى لا يصلها شيء. وحي التنك مقسم إلى حارات، حارة أبو النمر، حارة الزعيم، حارة أبو ياسين…

“هنا يعيش 7 أشخاص في غرفة واحدة، في البيت المحاذي عائلة بلا أوراق ثبوبية، وهناك عائلة لديها أطفال من ذوي الحاجات الخاصة…”، تتوقف إيمان عن العدّ قليلاً وهي تراقب الدهشة على وجهي، ثم تضيف: “هون بكل بيت في قصة”. إيمان ياسين وزوجها أسسا مكتباً للمساعدات في الحي، في محاولة لتوزيعها بشكل منصف على الأهالي وتخفيف المشكلات. تؤكد إيمان أن وضعها المادي والاجتماعي يشبه وضع أهالي الحي، لكنها تحاول التخفيف من المعاناة.

أما المكتب فليس كما يُخيّل للمرء حين يسمع كلمة “مكتب”، إنه عبارة عن غرفة، فيها طاولة بلاستيكية وكراسٍ قديمة. تقول إيمان: “اقعدي الكراسي نضيفة”، أشعر بالأسى حقاً، المرأة تخشى أن أقلع عن الجلوس لأنني قد أشعر بالقرف. لكنّ ما يمنعك من الجلوس حقاً في مكان كهذا هو شعورك بالتعب والشفقة والغضب.

تدعونا أم هيثم إلى دكانها حيث سلع قليلة، تبتسم فتبدو أسنانها المنهكة، تقول: “ما عاد حدا يشتري متل قبل”.

تمرّ قطة بجانبنا، فأختبئ، يفاجأ الجميع، هل يأتي الخوف من قطة؟ هنا تبدو الفوبيا التي أعاني منها ترفاً مضحكاً. لكن الأطفال الشجعان حموني من القطط الكثيرة، تفهّموا خوفي، ربما لأنهم يعرفون ماذا يعني الخوف حقاً.

في طريق المغادرة، عاد مصطفى إلي، يبدو أنه وأمه يمضيان أيامهما في الوقوف عند مدخل الحيّ، لمحاولة إيجاد مساعدة للطفل الطامح إلى الهجرة. شعرت بالأسف وأنا أغلق باب السيارة من دون أن أملك كلمة واحدة أطمئن بها الطفل إلى مصيره. فتحت الشباك وقلت لأمه: “اتركيه يروح عالمدرسة لاحق يسافر”. وغادرت.

في البحث عن حي التنك، وجدنا أن هذه المأساة لا تقتصر على منطقة الميناء في طرابلس، ففي العالم البائس أحياء تنك أخرى منها في العراق والموصل… حيث يعيش مواطنون في فقر مدقع تحت سقوف تنك لا تحمي من الحر والبرد، والموت البطيء.

*هذا الموضوع تم إنتاجه بدعم من برنامج النساء في الأخبار التابع للمنظمة العالمية للصحف وناشري الأنباء “وان-ايفرا”.

إقرأوا أيضاً: