fbpx

لقد انتهت الرحلة يا عمو أسعد… آخر سائقي القطار في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

رحيل أسعد النمرود سائق القطار الذي ظلّ يتحسّر على ما حل بالسكك الحديد اللبنانية وظل يروي حكاياتها، رحيله حزن إضافي يلوح بين الأشجار اليابسة والقطارات المعطّلة، حيث أجول كل يوم تقريباً، تارةً بحجة الرياضة، وطوراً لالتقاط أنفاسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أقفل أسعد النمرود عينيه مرة أخيرة، كما لو أن القطار الذي بقي ينتظر عودته، وصل وأخذه معه إلى عالم أقل قسوة. أمضى العم أسعد (94 سنة) حياته بمحاذاة السكة في بلدة رياق البقاعية، في بيت يبعد منها مئة متر، حياته كانت هناك في تلك الأمتار المئة. 

ثم حين ترجّل من القطار، أصبح يتنقل على دراجة هوائية، أظن أن في الأمر حركة احتجاجية مسالمة في وجه من أخذ منه عالماً بقي شغوفاً به حتى اللحظة الأخيرة. صورته في رأسي لا تغيب، تلك الشيبة الناصعة والجسد النحيل، على دراجة رشيقة وحيوية مثله. هكذا عرفته، وهكذا سأتذكّره دوماً.

حين بلغ أسعد الثامنة عشرة عام 1946، دخل مصلحة السكك الحديد بوظيفة معاون سائق، ثم قاد أول رحلة بنفسه بعدما خضع للتدريب والامتحان، عام 1952، واتجهت الرحلة يومها من محطة رياق نحو سوريا. الجميع يعرفون الرجل، “سائق القطار”، إنه لقب التصق به أكثر من اسمه في البلدة هنا، رياق. 

عاش العم أسعد مراحل عمل السكك وانتكاساتها، لا سيما في الحرب الأهلية حين توقفت حركة جميع القطارات في البقاع عام 1975، إثر تعرضها للتخريب والسرقة، وصولاً إلى توقف القطارات تماماً عام 1990 على مختلف الأراضي اللبنانية.

رحيل أسعد النمرود سائق القطار الذي ظلّ يتحسّر على ما حل بالسكك الحديد اللبنانية وظل يروي حكاياتها، رحيله حزن إضافي يلوح بين الأشجار اليابسة والقطارات المعطّلة، حيث أجول كل يوم تقريباً، تارةً بحجة الرياضة، وطوراً للالتقاط أنفاسي.

حدث رحيل العم أسعد فيما يعود الكلام عن إعادة الحياة إلى السكك الحديد عبر خط ترانزيت مع سوريا… مذ فتحت عينيّ على العالم وأنا أقرأ حكايات مشاريع لم ينفّذ منها شيء، وما زالت السكك في بلدتي وفي أماكن أخرى، على رغم جماليتها، مكباً للنفايات وصورة شديدة الوضوح لفشل الدولة اللبنانية وفسادها…

انطلق القطار الأول من بيروت إلى دمشق عام 1895، بقرار من السلطان عبد الحميد الثاني، وصمدت الخطوط برغم المجاعات والحروب، فأصبحت العاصمة اللبنانية بفضلها مركزاً اقتصادياً وتجارياً مهماً في المنطقة، وأُطلق على البلاد لقب “بوابة الشرق”.

وكانت فكرة النقل العام في لبنان بدأت مع “تراموي” بيروت عام 1892 الذي ربط المناطق والأحياء بعضها ببعض قبل أن يتوقف سيره عام 1964. تسير عجلات البلاد إلى الخلف، فخطوط السكك الحديد التي تصل إلى 400 كيلومتر على امتداد الساحل ونحو شرق البلاد، فضلاً عن مسارين يعبران الحدود باتجاه سوريا، متوقفة، وكل المشاريع التي حكي عن تنفيذها لإحياء هذا المرفق، ظلت حبراً على ورق، وكذلك ترامواي بيروت (رزق الله عترامواي بيروت تقول الأغنية). حتى إن مشروع تحويل السكك في رياق إلى متحف فشل! وتشهد السكك الكثير من التعديات حيث يتم الاستثمار في تلك الأراضي الجميلة من أجل مشاريع تجارية وسياحية للاستفادة من جمالية المكان، ما ينتهك حرمة السكك ويبعد حلم عودة الخطوط إلى العمل إلى أجل غير مسمى.

هذا فيما تعاني البلاد من أزمة محروقات مستفحلة وتزداد الحاجة إلى النقل العام، ويعود السؤال الملحّ إلى رؤوسنا، إذا كان اللبنانيون قبل أكثر من 125 عاماً يملكون قطاراً، فبأي منطق لا يملكون هذا الخيار للنقل الآن؟ وهم بالمناسبة لا يملكون أي خيار تقريباً.

صباحاً ذهبت إلى السكك الحديد في رياق، في محاولة لالتقاط صور، وأنا أسير على تلك الحدائد الصدئة، تذكّرت أن الأمر مخالف للقانون، وهي مسألة لا تكف عن إضحاكي مذ أخبرني بها منذ سنوات مدير عام مصلحة السكك زياد نصر في مقابلة صحافية، حين قال إن المشي على السكك يعرّض الشخص للغرامة والمحاسبة وإن المصلحة تخصص حراساً للسكك المتوقفة لمراقبة المخالفين، وسألته حينها: “يعني معقول التران يمشي ويمعسني؟”. لكنني في هذا الصباح تخيلت أنفاس العم أسعد تمرّ بقطار ما من هناك… تلقي التحية على القطارات التي حوّلها الإهمال إلى جثث، تدخل إلى المحطة والمكاتب التي لم تعد سوى خربة… تلمّ عنها بعض الحزن وتمضي.

إقرأوا أيضاً: