fbpx

اضطرابات الصدمة والاكتئاب تتفاقم: كيف يواجه اللبنانيون ضغوط الصحة النفسية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تُشير تقارير “البرنامج الوطني للدعم النفسي” والخط الساخن للوقاية من الانتحار في لبنان، أنها تلقت ثلاثة أضعاف المكالمات عام 2020 مقارنة بما كانت عليه عام 2019.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سارة كاثرين موراني

باحثة متطوعة، قسم الطب النفسي، الجامعة الامريكية في بيروت

ماري-كريستين غريشي

مساعدة الأبحاث والحملات، كرايسس أكشن، نيويورك

بسبب الكوارث المتعددة التي حصلت خلال السنتين الأخيرتين، عانى اللبنانيون من ضغوط كبيرة أضرّت بصحتهم النفسية. وعلى رغم الاضطرابات السياسية التي عانوا منها على مر تاريخ طويل، إلا أن مناقشة القضايا المتعلقة بالصحة النفسية، تبدو من المحرمات الثقافية في لبنان. لا تزال الاستجابات المرتبطة بالصحة النفسية غير مدعومة وفي الأشهر المقبلة ستعقّد التحديات المحيطة بهذا القطاع الصحي عملية خروج لبنان من الأزمة. 

غالباً ما تؤدي الصدمة إلى تشويه الذاكرة الجماعية أو الفردية. وفي سياق المجتمعات التي يمزّقها الصراع، يقوم الأفراد بقمع ذكريات تواطؤ مجتمعهم في جرائم الحرب، ويصفون أفعالهم بأنها دفاع عن النفس. علاوة على ذلك، بإمكان العقيدة والتسلسل الهرمي الراسخ والمخاوف القائمة على الهوية المستمدة من الصدمة، أن تجعل الناس يصوّتون أو يدعمون سياسياً الكيانات التي لا تخدم مصالح الفرد أو المجتمع المعني. 

في الحالة اللبنانية، يمكننا أن نلحظ مواصلة المجتمعات المختلفة دعم الأحزاب الطائفية وأفرادها بغض النظر عن سجلهم الحافل بنشر المعلومات المضللة والإفلات من العقاب على سلوكهم الإجرامي والفساد. قد يجادل بعض الباحثين بأن أعضاء المجتمعات المختلفة، المتأثّرين بسياسات الهوية القائمة على الخوف، يواصلون إما تجاهل تصرفات قادتهم الطائفيين أو تبريرها، بسبب اعتقادهم بأن حياتهم على المحك وأن مصيرهم يقع في أيدي هؤلاء. ولا تتفاقم هذه التبعية إلا من خلال صدمات الماضي التي تزامنت مع الانقسامات الطائفية. والسمة الأخرى المشتركة بين المجتمعات المتضررة من الصراع العنيف هي الصدمات المتتابعة. ويحدث هذا عندما يتم بلا وعي معالجة سلسلة من الأحداث الصادمة التي تشمل الاعتداءات الخفية والكثير من الاعتداءات العلنية، والتي يمكن أن تتراكم لتشكّل اضطراب ما بعد الصدمة. وقد يؤثر تراكم الصدمات بين السكان في قدرتهم على الرد على التجاوزات التي ترتكبها الطبقة السياسية الحاكمة. لذا أضحت معالجة التداعيات النفسية للاضطرابات السياسية بشكل مناسب أكثر أهمية، وقد تساهم في تحقيق الاستقرار السياسي.

الصحة العقلية في لبنان

لطالما تعرض الشعب اللبناني للصدمات المرتبطة بالنزاع وعدم الاستقرار الداخلي، ما أحدث مجموعة من اضطرابات الصحة العقلية. حتى قبل الأزمة الحالية التي طال أمدها، كان حوالى ربع البالغين في لبنان يعانون من اضطراب نفسي واحد على الأقل، ما يدل على ارتفاع معدلات الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (نحو 25 في المئة). ويعود تاريخ آخر دراسة شاملة أُجريت حول انتشار الاضطرابات المختلفة في لبنان إلى عام 2006، ووفقاً لهذه الدراسة، كانت الاضطرابات الأكثر شيوعاً بين اللبنانيين هي الرهاب والاكتئاب والقلق، وكانت هذه الاضطرابات مرتبطة غالباً بالصدمات التي أحدثتها الحروب. وتبّين أن الاكتئاب هو الاضطراب الفردي الأكثر شيوعاً في لبنان، حيث سُجّلت معاناة 16.7 في المئة من السكان باضطرابات القلق ومعاناة 12.6 في المئة من الاضطرابات المزاجية. وعانى ما يقرب من 4.3 في المئة من السكان أيضاً من الأفكار الانتحارية. والأفراد الذين تعرّضوا لصدمات مرتبطة بالحرب يكونون مهددين أكثر بالإصابة بواحدة من هذه الاضطرابات، وأكثر عرضة بثلاث مرات للإصابة باضطراب المزاج وأكثر عرضة مرتين للإصابة باضطراب القلق. ومن المحتمل أن يكون لهذا الخطر المضاعف تأثير واسع في لبنان، فقد تعرض ما يقرب من 70 في المئة من السكان لواحدة أو أكثر من حالات الصراع العنيف.

الهياكل الحالية للصحة النفسية

ثمة ثلاث جهات فاعلة رئيسية داخل لبنان مسؤولة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للصحة النفسية: المؤسسات العامة التي تتكون من فروع مختلفة تحت مظلة وزارة الصحة، المستشفيات والعيادات الخاصة، وهذه تمارس عملها خارج المجال العام، إضافة إلى مجموعة من المؤسسات غير الحكومية- المحلية والدولية- التي تمارس أنشطتها داخل المجتمع المدني، وتضطلع بسد الفجوات التي تعجز هياكل الدولة عن سدها. 

قبل عام 2013، كانت مهمة إنشاء البنية التحتية لمؤسسات الصحة النفسية منوطة- في المقام الأول- بالقطاع الخاص، وبعبارة أوضح: المستشفيات الخاصة. وكانت المنظمات غير الحكومية- المحلية والدولية- تعمل جنباً إلى جنب مع هذه المؤسسات الخاصة. أطلقت وزارة الصحة العامة عام 2014 البرنامج الوطني للصحة العقلية، بجانب استراتيجية الصحة النفسية واستخدام المواد المسببة للإدمان التي تمتد لخمس سنوات، وذلك لتعزيز الالتزام بخطة العمل الدولية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية بخصوص الصحة النفسية 2013-2020. كان الهدف من هذه الاستراتيجية تدريب العاملين في مجال الرعاية الأولية، ونشر العلاجات التي ثبتت فاعليتها بالأدلة، وزيادة إمكانية وصول اللاجئين السوريين للخدمات. 

أما الدعامة الأخرى التي قامت عليها هذه المبادرة، فهي توسيع نطاق الدعم الممنوح للأبحاث في هذا المجال؛ تلك الأبحاث التي تشمل المشاريع التي تهدف إلى تحسين إمكانية الوصول إلى برنامج المعالجة المطورة للمشكلات باستخدام التكنولوجيا الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية، كما هدفت المبادرة إلى تعزيز البرامج المماثلة لخدمة الأطفال والمراهقين، وتطوير الدعم النفسي والاجتماعي الذي يركز على الأسرة للشباب المعرضين للخطر. جرت عادة وزارة الصحة العامة في معظم الأحيان بالتعاقد مع المستشفيات الخاصة لخدمة المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية داخلية. وقبل انفجار بيروت، كانت هناك فقط ثلاثة مستشفيات للأمراض العقلية وخمس وحدات للأمراض النفسية عاملة داخل المستشفيات العامة.

إذا ما نظرنا إلى الشمولية والتغطية، سنجد أن وزارة الصحة العامة تخصص 1 في المئة فقط من ميزانيتها للمرضى الباحثين عن علاج للاعتلالات النفسية؛ وهذه النسبة تُوجه لدعم الحالات التي تحتاج إلى الاستشفاء في أحد المستشفيات الحكومية الثلاثة المخصصة للأمراض النفسية، بجانب نسبة ضئيلة للاستشفاء في الوحدات الخاصة. كما توفر الوزارة الأدوية النفسية. يغطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الاستشفاء في أحد المستشفيات الثلاثة المحددة، والأدوية النفسية، وجزءاً من رسوم الاستشارة النفسية في الوحدات الخاصة. كما يتمتع أفراد الجيش وموظفي الحكومة بدعم يغطي نفقات الأدوية، ونسبة من تكاليف الاستشارة، والاستشفاء.

يحظى موظفو الحكومة، على وجه الخصوص، بتأمين صحي تتكفل به تعاونية موظفي الخدمة العامة؛ كما تغطي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ما بين 85 إلى 90 في المئة من الرسوم المطلوبة من اللاجئين السوريين، وتكلفة اختبار PCR لفايروس “كورونا” (كوفيد-19)، بينما تتكفل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بدفع الرسوم المطلوبة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وثمة مؤسسات غير حكومية مختلفة في المجتمع المدني تتكفل بنفقات اللبنانيين الآخرين غير القادرين على تحمل تكاليف التغطية أو التأمين. وبالنظر إلى المهمشين والضعفاء، فقد حددت الحكومة 13 جماعة مهمشة/ مستضعفة، وذلك ضمن استراتيجيتها التي تهدف إلى تحسين خدمات الصحة النفسية في البلاد. غالباً ما يكون هؤلاء من الأفراد الذين لا يملكون هوية قانونية لدى الدولة، ويواجهون عراقيل عدة في سبيل الوصول إلى الخدمات. أيضاً لا يزال دعم مجتمع الميم مقتصراً على الخدمات المتاحة في بيروت، إذ تضطلع المؤسسات غير الحكومية مثل “موزاييك” Mosaic و”الجمعية الطبية اللبنانية للصحة الجنسية” و”جمعية العناية الصحية” SIDC و”الهيئة الطبية الدولية”، بدور حاسم داخل هذه الجماعة.

فرق الصحة النفسية

عام 2013، أنشأت وزارة الصحة العامة -بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية واليونيسيف- فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ووفقاً لموظف سابق في هذا الفريق، فإن هذه الوحدة تنسق عملها مع 62 جهة فاعلة من الجهات غير الحكومية في مجال الصحة النفسية والعقلية، كما تسعى إلى تنفيذ مختلف التدخلات التي ثبتت فعاليتها بالأدلة. تتضمن هذه الإستراتيجيات دمج الصحة النفسية ضمن برامج الرعاية الصحية الأولية، وتطوير فرق عمل مجتمعية متعددة التخصصات في مجال الصحة النفسية، وتدريب مقدمي الخدمة على العلاج النفسي القائم على التواصل الشخصي، وتجربة تقديم خدمات الصحة النفسية إلكترونياً. وبعد انفجار بيروت، قدمت هذه المبادرة لاختصاصيي الصحة النفسية دليلاً شاملاً عن تقديم الدعم النفسي للمتضررين.

يوضح موظف سابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي كيف أن مخاوف الجمهور التي تكتنف ثقتهم في الحكومة لم تؤثر على عمل الفريق، وذلك لأنهم كانوا خبراء في هذا المجال، ومحايدين سياسياً، ويتمتعون بالشفافية. تتمثل إحدى الطرائق التي قال الفريق إنه يعمل من خلالها في تحديد أي الجهات الفاعلة التي تضطلع بمسؤولية قضية معينة، وتسليط الضوء على الخدمات المتاحة والاضطرابات العقلية الأكثر انتشاراً، وذلك عبر منصة تديرها الوزارة. وقّعت المنظمات والجهات الفاعلة ذات الصلة اتفاقيات تفاهم مع الفريق، والتي بموجبها وافقت هذه الجهات على تقديم تقارير عن أنشطتها، وفي المقابل سيكون بإمكانهم الوصول إلى المعلومات المتعلقة باحتياجات عموم السكان التي رصدها الفريق. لكن على رغم العلاقات الإيجابية التي يقال إنها تربط فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي بهذه المنظمات، إلا أن هذه الأخيرة لا تقدم تقارير شاملة للفريق عن كل الأنشطة التي تقوم بها بسبب عبء المهمات التي تقع على عاتقها، بدايةً من الالتزامات تجاه المانحين الخارجيين و/أو عدم ارتباط تقديم هذه التقارير بأي دعم يحفزها على إنجازها.

المنظمات غير الحكومية (المحلية والدولية)

على عكس ادعاءات التي أطلقتها وزارة الصحة، فإننا نرى لدى الجهات الفاعلة من المجتمع المدني سردية مختلفة تماماً فيما يتعلق بعملها مع الوزارة على أرض الواقع. إذ يؤكد جورج كرم، رئيس “معهد التنمية والبحث والمناصرة والرعاية التطبيقية” (إدراك) -وهي منظمة غير حكومية- أن وزارة الصحة العامة لم تبذل الجهد المطلوب لتوفير الموارد اللازمة للجهات الفاعلة من المجتمع المدني، والتي تؤدي دورها باعتبارها جزءاً من فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي. بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقول إن الوزارة لم تفِ بما عليها من التزامات تجاه معالجة القضايا التي أثارتها المنظمات غير الحكومية المختلفة. فمثلاً؛ في ما يتعلق بنقص الخدمات والمرافق النفسية للمرضى الداخليين بسبب الجائحة، لم تفعل الوزارة شيئاً بعد عام ونصف العام من التقاعس، سوى تفويض عدد من المنظمات غير الحكومية المختلفة مسؤولية جلب الأموال اللازمة لبناء مرافق جديدة.

يعاني اللاجئون من مستويات أعلى من اضطرابات الصحة العقلية، لا سيما القلق.

من بين المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الرعاية الصحية النفسية؛ تظل “الهيئة الطبية الدولية”، و”أبعاد”، منظمة “أمبريس” وإدراك، و”منظمة أطباء بلا حدود” أكبر الجهات التي تجمعها شراكة مع وزارة الصحة العامة. وفي ما يتعلق بفايروس “كورونا” تحديداً، كان هدف فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي من العمل مع هؤلاء الشركاء هو رفع الوعي حول سبل التعامل مع الضغوط الناتجة عن الأزمة، وإرشاد الأفراد إلى خطوط الخدمات المحلية ومراكز الاتصال، وتوفير الدعم النفسي لكل من المعزولين في الحجر الصحي، والعاملين في الخطوط الأولى في مجال الرعاية الصحية.

الفجوات والتحديات

هناك فجوات في البنية التحتية للصحة النفسية في لبنان. بغض النظر عن الاحتياج العام لمزيد من التمويل والخبرات، فإن أحد التحديات الرئيسية يتمثل في إرساء نظام إحالة قوي بين مستويات الرعاية كافة، وذلك لضمان وصول الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية إلى الخدمات الطبية الداخلية والخارجية. في لبنان، هناك 1.5 طبيب نفسي لكل 100 ألف نسمة، ومعظم هؤلاء الأطباء يعملون في عيادات خاصة أو منظمات غير حكومية. وإضافة إلى النقص الحاد في الموارد، فإن الغالبية العظمى من اللبنانيين الذين يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة لا يبحثون أصلاً عن المساعدة أو العلاج، بسبب انخفاض الوعي بهذه الاضطرابات، بجانب عوائق أخرى (مثل العجز المالي، ونقص الموارد) والوصم الاجتماعي.

فقد أظهرت دراسة أُجريت في لبنان أن الأفراد الذين يعانون من أعراض القلق المرضي، ربما يمكثون من 6 إلى 28 عاماً قبل البحث عن العلاج المناسب وتلقيه، وذلك بسبب العوائق المجتمعية سالفة الذكر. ويمكن أن يؤدي عدم التعرف إلى تلك الحالات إلى تفاقم هذه الاضطرابات المزمنة بسرعة وتحولها إلى حالة من الوهن والتدهور.

تحظى خدمات الصحة النفسية بدعم قليل جداً من الدولة، والتغطية التأمينية المخصصة لها قليلة جداً، أو معدومة. تتركز هذه الخدمات في المناطق الحضرية، وتعاني من نقص التمويل. تتبدى القيود الجغرافية بجلاء في مناطق مثل عكار ومرجعيون والمناطق القريبة من الحدود اللبنانية الإسرائيلية ومنطقة بعلبك/ الهرمل، التي لا تزال منطقة نائية، وتعاني نقصاً في العاملين بقطاع الصحة النفسية.

الأزمة الراهنة

تفاقمت هذه التحديات المتعلقة بالصحة العقلية بسبب الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2019، الأمر الذي أدى إلى زيادة هذه العوائق أمام أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية مزمنة أو اضطرابات جديدة، ولا سيما بالنسبة للفئات السكانية المستضعفة بصفة خاصة، مثل الفئات ذات الدخل المنخفض، والمجتمعات المهمشة (مثل اللاجئين والعمال المهاجرين وغيرهم). في حين أصبحت  نوبات الاكتئاب أكثر انتشاراً في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف أنحاء البلاد في الفترة نفسها وما تلاها من أزمة اقتصادية. وفي أعقاب انفجار بيروت في آب/أغسطس 2020، وصل العديد من اللبنانيين إلى مستويات من الاكتئاب المرضي.

فضلاً عن ذلك، انتكست الحالة الصحية للأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية أخرى منذ ذلك الحين. في حين تُشير تقارير “البرنامج الوطني للدعم النفسي” والخط الساخن للوقاية من الانتحار في لبنان، الذي أطلقته منظمة “أمبريس” غير الحكومية، أنها تلقت ثلاثة أضعاف المكالمات عام 2020 مقارنة بما كانت عليه عام 2019، وهذا يعزى جزئياً إلى العوامل الموضحة أعلاه، إضافة إلى الضغوط الناجمة عن إجراءات الإغلاق المرتبطة بفايروس “كورونا”. وقد تزامنت هذه الزيادة في الاحتياجات مع ضربة قاصمة لقدرة الدولة على الاستجابة لتلبيتها.

وعام 2020، تسبب انفجار مرفأ بيروت في تدمير وحدتين للأمراض النفسية لرعاية المرضى المقيمين في المستشفى، في حين أُغلقت وحدات أخرى بسبب النقص في الأسرّة في ظل جائحة “كورونا”. بيد أن لبنان كان يعاني بالفعل من نقص في الأسرّة في هذه الوحدات حتى قبل انفجار بيروت. وحث رئيس جمعية “إدراك” على ضرورة توفير مزيد من المرافق النفسية لرعاية المرضى الداخليين بسبب هذا الوباء، وهو ما أخفقت وزارة الصحة في تنسيقه. وأضاف الدكتور كرم أن نقص الأدوية أصبح أكثر شيوعاً لأن المرضى قاموا بترشيد ما يكفي لأشهر من أدوية العلاج النفسي عند تخزينها مجدداً بسبب الأزمة الاقتصادية وقرار البنك المركزي بعدم تقديم الدعم للأدوية.

وعلاوة على ذلك، يتعين على التنظيمات والمبادرات الحالية أيضاً بذل مزيد من الجهود للاعتراف بمستويات الضعف المختلفة التي يعاني منها مختلف الفئات السكانية، وخصوصاً اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية والعاملين في الخدمة المنزلية، والاستجابة لها على نحو ملائم. وفي ضوء جائحة “كورونا”، تفاقمت أوجه الضعف القائمة هذه، ما أدى إلى ظهور مجموعة من اضطرابات الصحة العقلية. وبالنسبة إلى كثيرين في هذه المجتمعات، أدى القلق بشأن التهجير والإخلاء والتمييز واحتمال فقدان سبل معيشتهم إلى معاناة نفسية اجتماعية هائلة.

في نيسان/ أبريل 2020، أفادت التقارير بوقوع مزيد من حوادث الانتحار بين اللاجئين، إلى جانب ارتفاع حالات التهديد بإيذاء النفس وإيذاء الآخرين والعنف المنزلي والطلاق. وبسبب الضغوط المحيطة بالسكن وعمليات الإخلاء، تتعرض اللاجئات بصفة خاصة لخطر التعرض للعنف الجنسي والعنف الجنساني في هذا الصدد. ونتيجة لهذه العوامل، يعاني اللاجئون من مستويات أعلى من اضطرابات الصحة العقلية، لا سيما القلق، الذي قد يؤدي إلى عودة هذه الاضطرابات بصورة متكررة على المدى الطويل وعلى نحو أكثر حدة. في حين يُقدر انتشار الاكتئاب بين اللاجئين بنحو 1 من كل 4 لاجئين.

إضافة إلى اللاجئين والمشردين، فقد تفاقمت أيضاً الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المماثلة التي يتعرض لها المهاجرون العاملون في الخدمة المنزلية في لبنان بسبب تلك الأزمة المتعددة الجوانب. فوفقاً لمنظمة “أطباء بلا حدود”، ظهرت أشد أعراض اضطرابات الصحة العقلية على العاملات المهاجرات اللاتي تواصلن مع المنظمة لتقديم الخدمات النفسية والاجتماعية، إذ تعاني 30 في المئة منهن من اضطرابات اكتئابية وتعاني 27 في المئة منهن من أعراض الاضطرابات النفسية منذ بداية الجائحة.

بحسب عضو سابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، لا تزال الوصمة الاجتماعية والشواغل المتعلقة بالسرية المحيطة باضطرابات الصحة العقليّة من أكبر التحديات التي تواجه العلاج في لبنان اليوم. وفي دراسة حديثة، أشار المشاركون إلى عدم الثقة في نظام الرعاية الصحية، وكمية الخدمات المُقدمة، وقدرة المتخصصين على تلبية الاحتياجات بشكل ملائم واحترام السرية. وعلاوة على ذلك، لا يدرك الكثير من الناس مدى قرب المنظمات والخدمات المتاحة لهم. ونتيجة لذلك، لا تستهدف هذه المنظمات في كثير من الأحيان سوى الفئة نفسها أو الأشخاص أنفسهم في حملاتها، وهم عادة من المراهقين ومن لديهم إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي.

وعلى رغم أن وزارة الصحة نظمت حملات مختلفة على شاشات التلفزيون، فقد أصبح هذا النهج نادر الحدوث منذ اندلاع الأزمات الأخيرة. في حين بات الذين يعانون من وضع اجتماعي واقتصادي متدنٍ، وكبار السن وأولئك الذين يعانون من اضطرابات عقليّة شديدة، هم على الأرجح الذين لا ينالون نصيبهم من الرعاية والاهتمام وتقديم الخدمات. فضلاً عن أن العضو السابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، يشير إلى أن التمويل شكّل مصدر قلق حتى انفجار بيروت. بيد أنه في أعقاب الانفجار، حدث تدفق في التمويل والخدمات، ما أدى إلى زيادة جهود التوعية.

توصيات بشأن السياسات العامة واستراتيجيات مستقبلية

يبدو أن تحسين طرائق معالجة احتياجات الصحة العقلية في لبنان أمر بالغ التعقيد، غير أنه في ضوء الأحداث الأخيرة، أصبحت له أهمية قصوى. ويتطلب التصدي لمجموعة التحديات ذات الصلة وجود طائفة متنوعة من الأدوات والحلول.

على صعيد الحوكمة والإدارة، حث عضو سابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي على سن بعض مشاريع القوانين التي أهملها البرلمان، على سبيل المثال، أحد القوانين التي من شأنها أن تجعل فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي جهازاً رسمياً تابعاً لوزارة الصحة، وله ميزانية كبيرة. ومن شأن هذا الاعتراف أن يضفي على الإدارة المعنية بالصحة العقلية مزيداً من الشرعية، وبالتالي يؤدي إلى جعل دورها في الصحة العامة طبيعياً على نطاق أوسع. ومن شأن تخصيص مزيد من التمويل لهذه الإدارة أن يسمح أيضاً بتوفير مزيد من الخدمات إلى الأفراد، نظراً إلى أن 1 في المئة فقط من الأموال تصل إلى هذه الإدارة، لا سيما من أجل تحسين سُبل تقديم الرعاية للمرضى الخارجيين، فضلاً عن الاستشفاء داخل المستشفيات. 

القانون الوحيد القائم والمتعلق بالصحة العقلية في لبنان هو قانون “رعاية وعلاج وحماية المرضى العقليين” (مرسوم اشتراعي رقم 72، بتاريخ: 09/09/1983). وقد أشار المحاميان نزار صاغية ورنا صاغية إلى أن هذا القانون لا يتوافق مع المعايير الدولية. وعام 2014، قامت “المفكرة القانونية” بمراجعة القانون وتنقيحه، واقتراح بعض التعديلات، التي أقرها البرنامج الوطني للصحة النفسية التابع لوزارة الصحة. ومن شأن مشروع القانون أن يحدد مفهوم الصحة العقلية على أساس المعايير الدولية، وأن ينص على إجراءات واضحة لتعزيز العلاج ومسؤولية الدولة الواضحة عن تحقيق هذه الأهداف. سيعطي هذا القانون الأولوية لثلاثة أهداف: أولاً، حماية حقوق الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وحقوقهم الأساسية، وخاصة ضد التمييز والوصم. وثانياً، سيتناول القانون المخاوف المتعلقة بالمساواة في الحصول على الخدمات، وثالثاً، سينظم القانون حالات إدخال المرضى ضد رغبتهم إلى مصحات الأمراض العقلية من خلال ضمانات قضائية. غير أن هذه النسخة المحدثة من القانون لا تزال مجرد مشروع حتى الآن.

وعلى صعيد البحث، فإن آخر دراسة شاملة حول اضطرابات الصحة العقلية وانتشارها في أوساط اللبنانيين أجريت منذ ما يزيد عن 10 سنوات، ما يؤكد ضرورة إجراء دراسة حديثة وشاملة، لا سيما في أعقاب الحالات المختلفة للصدمات الجماعية التي شهدها العامان الماضيان، وما تلاها من احتياجات الصحة النفسية.

تعاني 30 في المئة من العاملات الأجنبيات من اضطرابات اكتئابية وتعاني 27 في المئة منهن من أعراض الاضطرابات النفسية منذ بداية الجائحة.

أما في ما يتعلق بنظام الرعاية الصحية نفسه؛ فيجب أن تكون هناك حملات تسهل على غير الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ومن يعانون من وضع اجتماعي واقتصادي متدنٍ الوصولُ إليها؛ فهذه الحملات يمكن أن تضع ضمن خططها الظهورَ على القنوات الإخبارية المحلية، وهي القنوات التي يتابعها مشاهدون من مختلف الديموغرافيات نظراً إلى انتشار التلفزيون على نطاق واسع أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي. على هذه الحملات أن تتصدى بقوة لأكثر عوائق العلاج النفسي انتشاراً، وتحديداً الوصم الاجتماعي والتكتم إذ يلاحقان من يبحثون عن دعم الصحة النفسية في لبنان. وبحسب ما ذكره مؤسس جمعية “إدراك”، فإن الدراسات التي أجرتها الجمعية تُظهر أن عدم سعي الأفراد وراء رعاية الصحة النفسية هو في المقام الأول بسبب نقص المعلومات عن الخدمات المتاحة، أكثر من كونه ناتجاً عن محدودية الموارد المالية. وهذا بدوره يسلط الضوء على الحاجة المتزايدة لرفع الوعي باضطرابات الصحة النفسية، وكذلك الموارد المتاحة.

وأخيراً، نظراً إلى الطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية من بُعد بسبب جائحة “كورونا”، بإمكان المبادرات التي توفر خدمات الصحة النفسية من بُعد أن تمثل طوق نجاة للفئات الضعيفة والمهمشة في لبنان، لا سيما في المناطق حيث الخدمات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ كما أن هذه المبادرات قد تكون فعّالة بالنظر إلى تكلفتها، ومرنة بما يكفي لتتكيف مع السياقات المتغيرة. وعلى رغم مخاوف هذه الفئات بشأن سرية المعلومات الحساسة، وحماية البيانات والخصوصية، والعراقيل الناتجة عن تدهور البنية التحتية (الكهرباء والاتصال بالإنترنت)، إلا أن هذه المبادرات يمكنها أن تساعد في رفع جزء من العبء الذي يتحمله نظام الرعاية الصحية بسبب الزيادة الهائلة في احتياجات الصحة النفسية.

توصيات حول السياسة الخاصة بالصدمات

تتجه نماذج علم نفس الكوارث نحو اتخاذ التدابير النفسية الوقائية، وذلك من أجل الاستعداد بشكل أفضل قبل وقوع الكوارث. لذلك من الضروري أن تكون لدى لبنان خطط مستقبلية لتوفير الرعاية الصحية النفسية والاجتماعية والعقلية في حالة وقوع كارثة، على أن تتضمن هذه الخطط كلاً من المراحل الفورية وطويلة الأمد.

من المهم أثناء التخطيط الوقائي، وتحديداً في مرحلة وضع السياسات؛ الأخذُ في الاعتبار أن كل مرحلة من مراحل ما بعد الكارثة لها مجموعة محددة من الأهداف الضرورية. ففي المراحل الفورية يُنصح بإجراء تقييم مبدئي للاحتياجات النفسية، وتحديد الفئات الأكثر عرضة للخطر، والإسعافات النفسية الأولية؛ وهذه الأخيرة تتضمن اتخاذ تدابير مدعومة بالأدلة لتهدئة ضحايا الكوارث، وتقليل فرص تفاقم اضطرابات نفسية مستقبلية. 

ويمكن تحقيق هذا الغرض من طريق البحث عن الأفراد المعرضين للخطر، وتوفير وسائل السلامة والراحة، والعمل على إعادة الاستقرار للمرضى المنهكين، وتوفير المعلومات اللازمة حول أساليب التأقلم وربطهم بمراكز تقديم الخدمات التي يحتاجونها، إذا لزم الأمر. ومن الممكن أن يقدّم هذه الخدمة متخصصون غير مدربين مثل العاملين في الاستقبال، أو غرف الطوارئ. كما يجب أن توفر هذه العملية الدعم لمقدمي الرعاية الصحية المتأثرين بآلام الضحايا والواقعين تحت وطأة ضغط شديد.

كما أثبت انفجار مرفأ بيروت، لم يعد لبنان في مرحلة التخطيط الوقائي. بل على الدولة الآن أن تخطط للمستقبل من خلال ترسيخ أدوات فعالة للتأهب للكوارث النفسية، وفي الوقت نفسه -للخروج من الأزمة الحالية- يجب التركيز على تشخيص حالات الصحة العقلية الناجمة عن الصدمات على المدى الطويل وعلاجها. ولا يمكن تحقيق الإصلاح الحقيقي والموضوعي إلا من خلال هذه المقاربة ذات الشقين.

من أجل إصدار حكم أفضل على الاستراتيجيات النفسية، يجب توفير مزيد من الأبحاث والأطروحات حول أي الاستراتيجيات النفسية نجحت في لبنان وأيها فشل. وما توفره المؤلفات البحثية يجب تعديله ليتماشى مع الحساسيات الثقافية في لبنان.

إقرأوا أيضاً: