fbpx

بيروت مدينة عصيّة على البشاعة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نعم بيروت تتألم اليوم ولكن ربما لتشفى من قدرة استهلاكية فاقعة أقنعوها فيها ودور اقتصادي وهمي ألبسوها إياه وتسليح لا يسلّح ولا يصلح لشيء. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أما في الليل فالصمت شامل دائماً: كأنك في مقبرة”. 

لا ينقصنا الكثير لكي تتحول  بيروت الى بيريتوس، المدينة التي قدمها لنا ربيع جابر في روايته التي تحمل هذا الاسم. يشعرنا الليل في بيروت بأننا في مقبرة، والسكان حالياً يتداولون عملةً نقدية، أكاد أجزم أن قدرتها الشرائية أقل من “الصدف البحري”، عملة بيريتوس في رواية جابر. يشتري سكان بيريتوس السمكة الكبيرة من السوق بصدفة واحدة حمراء، كما أنهم لا يستطيعون الحصول على القهوة والشاي، فيقطعون جذور أعشابٍ تنمو بين الصخور ويجففونها ثمّ يغلونها، فيأتي طعمها كالنعناع اليابس، وهذا ما يشربونه بديلاً عن القهوة والشاي. ومع غلاء الأسعار ورفع الدعم عن كل شيء، يبدو أننا نقترب في بيروت إلى استبدال المنبهات ببدائل ستظهر قريباً في الأسواق، فماذا سيفعل سكان هذه المدينة الذين يعيشون على المنبهات والمهدئات؟ 

في الرواية نفسها، تخبر إحداهن البطل الذي يعاني من كسور في وركه وعظمة فخذيه، أن الطبيب يقول: “كلما تألمت أكثر شُفيت أسرع. هذه عظامك تنمو، لهذا تتألم”.

لم أكن يوماً من القارئات اللواتي يقفن عند جمل معينة، لكنني وجدت نفسي وأنا أعيد قراءة هذه الرواية للمرة الثانية، لا أفعل غير ذلك. أقف عند جمل معينة وأتأملها في محاولة لاستشراف المستقبل أو لأتقبل الحاضر. أزيّنه بلغة روائية تساعدني على تقبّله. ولكنني أذهب أبعد من ذلك. أغرق في فكرة واحدة تختصر حاضري ولا أعرف ماذا أفعل معها: 

“مش معقول شو حلوة بيروت”. جملة أخاف الإفصاح عنها كيلا أوصف بالمراهقة أو المنفصلة عن الواقع المرير.

نعم رأيت بيروت في الفترة الأخيرة، في ليلها الذي يشبه المقبرة، لكن كل ما شعرت به هو “هيبة الموت” والسكينة التي لا بد أن تطفو على وجه الميّت. وهكذا بيروت في ليلها، وعلى رغم المآسي التي يعيشها من لم يُنفَ بعد عن مدينته، إلّا أن كلّ ما أشعر به وأنا أتجول في ليلها ألّا شيء يضاهي هيبتها وجمالها المنكسر. 

تبدو لي بيروت على رغم الممارسات الظالمة في حقها من تدمير ممنهج لتراثها المعماري وإفلاس وتفجير وسطوة سلاح ضعيف ولكنه مميت، عصيةً على البشاعة. لا أعرف إن كان هذا التعبير مستخدماً، لكنها مدينة ذات معالم ساحرة لا يمكن طمسها. كلما تراءى لك أنها تقترب من مراحل ستغدو فيها أقل جمالاً، يظهر لك من حيث لا تدري، أحد الشوارع: الحمراء والمنارة وشارع لبنان والجميزة ومار الياس وويغان وسرسق والكثير من الشوارع المتفرعة، يصدمك فيها خليط عماراتها المتكئة على بعضها بعضاً، وتلك الشبابيك والشرفات التي تدعو المارين أن يسترقوا النظر إلى البيوت، وعلى عكس العمارة الجديدة والتي ألغت من قاموسها الشرفات وأي صلة لساكني شققها مع العالم الخارجي. 

ميزة جمال بيروت أنه غير مبال، وهنا طبعاً لا أشجع على إهمال تراثنا المعماري وطبعاً أعتبر مشاهد النفايات المتكوّمة جريمة موصوفة، بقدر ما أحاول أن أشرح أن جمال بيروت يكمن أحياناً في أنها لا تتزين ولا تمانع في أن تظهر على سجيتها، بكل مآسيها وانكساراتها.   

وهذا يذكرني بمفهوم الـArt Brut  أي الفن الخام الذي أطلق موجته الفنان الفرنسي جين دوبوفيه، وأحب أن أصفه بالفن القليل التطفل والمقتصد في الحرفية والزخرفة. وبيروت تطلّ علينا كمدينة ساحلية، لا تعنيها أشكال الزخرفة ولا تبالي بكل المحاولات البراقة والمهرجانات المتطفلة على الفن والثقافة. بيروت اليوم هي شوارع صامتة وجدران صاخبة وأحياء صامدة ونشاطات معدودة وحركة بطيئة تعيد فيها المدينة اكتشاف واحتها البحرية ومساحتها العامة المحدودة جداً. أصبحت الحدائق العامة أكثر اكتظاظاً وكورنيش البحر أكثر ونساً، وقد ازدادت أعداد صيادي السمك فيه وتفاصيل نعيد اكتشافها بسبب الفراغ، والبطء الذي نتحرك فيه. هنا درج نمرّ من خلاله إلى المرفأ القديم قبل أن ينقشع أمامنا البحر وهذا شارع تظلله شجرة بأزهارٍ بنفسجية وهذا مبنى شرفاته الدائرية تميل وكأنها ترقص، وهذا دكان سمانة يصرّ صاحبه على الابتسام، على رغم شحّ البضائع على رفوفها.

نعم بيروت تتألم اليوم ولكن ربما لتشفى من قدرة استهلاكية فاقعة أقنعوها فيها ودور اقتصادي وهمي ألبسوها إياه وتسليح لا يسلّح ولا يصلح لشيء. 

إقرأوا أيضاً: