fbpx

سامي و”التوحد”: حكايات السوريين المنسيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتلخّص يوم سامي الطويل بنشاط واحد يتكرّر وهو الاستماع إلى شريط أغانٍ يحبها ومداعبة حبات السبحة بأصابعه ويمكنه أن يصرخ أو يقفز على الفراش عدداً لانهائياً من المرّات .

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تك تك تك تك …

تضبط الصوت على دقّات قلبها . يجب أن تميّز التكّات  أينما تنقّلت في البيت لأنّ صوت الشريط الغنائي يطغى عليه أحياناً. ولأن صوت تكّات السبحة بين أصابع سامي التي لا تتوقف عن الحركة منذ أن يصحى في الصباح وحتى تنام عيناه ساعات قليلة بعد منتصف الليل هي الدليل الوحيد على إن إحدى نوبات الصرع اللعينة لم تصبه وهي غافلة عنه تقوم بأعباء المنزل .

لقد مرّ زمن طويل منذ أن سمعت صوته  يقول “ماما ” لأول مرّة قبل أن يبلغ سنته الأولى . وقتها كان سامي يتحرّك ويتصرّف مثل طفل بعمره . وترّقبت أن يبدأ بالكلام . ولكنّ اكتفى من اللغة بثلاث كلمات فقط هي ماما و بابا وكلمة يعبّر بها عن امتنانه هي  “بيبي” اختصاراً ل “حبيبي “. وبهذا المنطق اختصر سامي احتياجاته من المجتمع واكتفى بالضروري منها .

  في ليالي السهر الطويلة أمام سريره حلمت كثيراً بذلك الزمان .  يمكنها استعادة صورته عشرات الآلاف من المرات تهدهد عقلها قبل أن تنام وتحلم بأن سامي شفي وعاد طفلاً  يناديها : “ماما” ويلفظ بضع كلمات بتعثّر ويبتسم للكاميرا ويداعب شعرها بيده .

سوف يبلغ سامي العشرين قريباً . شابّ بقسمات ملائكية . لا يتكلّم بل يصدر صيحات سرور أحياناً وصيحات غضب معظم الأحيان . مصاب بالتوّحد والصرع . مرهق من جرعات الأدوية التي يتناولها وعيناه ضائعتان ينظر خلالهما إلى أشياء لا نراها نحن.

عندما يمرض يصمت مبتلعاً أوجاعه. لأنّه لا يعرف كيف يشتكي. لكنّه عندما يحبّ يستحضر تعابيراً كونية ويغمرك بشعور من الودّ والسكينة والرضا لا يمكن وصفه بكلماتنا .

بينما تصبح مهمة الأمّهات بعد سنّ معيّن مراقبة نمّو أولادهن ومتابعة دروسهم  وتخفّ تدريجياً الأعباء الملقاة على عاتقهنّ فإن ساعات اليوم  لا تكفيها لمساعدة ابنها الذي طوّر منهجه الخاص والذي يحتاج إليها في أداء العيش كما يجب . 

يتلخّص يوم سامي الطويل بنشاط واحد يتكرّر وهو الاستماع إلى شريط أغانٍ يحبها ومداعبة حبات السبحة بأصابعه ويمكنه أن يصرخ أو يقفز على الفراش عدداً لانهائياً من المرّات .

وبين فقرات اللعب وفقرات الاستماع إلى أغنيات تتكرّر عشرات المرات يسرع نحوها ويتناول معصمها ويتحسّس بأصابعه النحيلة نبضها لبضع ثوان ويبتسم مبتعداً . تسمّى هذه الحركة إشباع حاسة اللمس . وتعتبرها أمه وسيلة تواصل بديلة عن الاحتضان والقبل . وكأنهما يجددان في كل مرّة عهود المضيّ في ساعات الحياة اليومية بهذا الروتين الذي يفرضه هو وتقبله هي بكل حب.

يصنّف الأطباء عند سامي إضطرابات في جميع الحواس  ما عدا حاسة الذوق . فهو يتذوّق الطعام مثل خبير . لا يأكل سوى الطبخ الفاخر الذي تعدّه أمه . وتنأى نفسه عن تناول الوجبات المعلبة الجاهزة أو المحضّرة في السوق .  يتذوّقها ثم يرفضها . يفضّل اللحوم ويعشق الأكل المطبوخ باللبن .

تقضي أمه ساعات في المطبخ لإرضاء ذوقه بالأكل كإحدى الوسائل المتاحة لإبداء حبها. وتقضي بقية يومها وهي تتابع تقلبات مزاجه وتلاحق مواعيد جرعات الدواء وتحاول أن تسيطر على نوبات غضب لا يستطيع أن يفسرها لها ونوبات سرور ليس لها مبرّر منطقي .

حياتها الاجتماعية انتهت . التسوّق ، شرب القهوة مع الصديقات ، الزيارات العائلية ، 

السهرة على فيلم أو حتى الاستماع إلى الموسيقى. كلها انتهت فهناك أصوات محدّدة يمكن لسامي أن يتقبّلها . يحب سامي الموسيقى ويستمتع بالإيقاع . وقد اختار قائمته من مجموعة أغانٍ لأصوات يجب أن تكون صافية وألحان يجب أن تكون مميّزة . وكعادته أغلق القائمة. وأصبح يكرر نفس الأنغام بكل وفاء رافضاً أن يدخل عليها أي شيء جديد. 

إقرأوا أيضاً:

وبينما تصبح مهمة الأمّهات بعد سنّ معيّن مراقبة نمّو أولادهن ومتابعة دروسهم  وتخفّ تدريجياً الأعباء الملقاة على عاتقهنّ فإن ساعات اليوم  لا تكفيها لمساعدة ابنها الذي طوّر منهجه الخاص والذي يحتاج إليها في أداء العيش كما يجب . 

والنوم غير متاح في أوقات منتظمة . ف سامي لا يميّز الساعة البيولوجية . يمكنه أن ينام ل 11 ساعة متواصلة خلال النهار. ويمكنه أن يبقى متيقظاً ل 24 ساعة متواصلة .  وتعمل  حواسه الخمسة خلال ساعات اليقظة  بشكل كامل فهو يريد النور والأكل وسماع أغانيه و اللعب وإطلاق الصيحات. وعليها أن تؤمن احتياجاته وتؤمّن لبقية المنزل السكينة اللازمة لقضاء الليل واستمرار مهامّ الحياة.

لا يتلقّى ذوو الأولاد المتوّحدين أي مساعدة من الدولة . ويبدو أن هذا المرض لم يدخل بعد في سجلّات الذكاء الصناعي لأرشيف الحكومة الصحّي . يعني أن سامي مطلوب للخدمة الإلزامية العسكرية ولإعفائه منها لأسباب صحية يجب أن يخوض الأهل المنهكون أصلاً في خدمة ابنهم المتوّحد معركة بيروقراطية طويلة مع قوانين عفا عليها الزمن . 

عدا أن الخدمات المجتمعية في الظروف الحالية تراجعت إلى حدّها الأدنى . فالأيتام والجياع والعجزة وكل ما خلفّته الحرب العبثية لا يترك مكاناً لرفاهية التعاطف مع أسر ترعى مرضى التوحد بإمكانياتها التي يمكن أن تكون محدودة ماديّاً ومعنوياً .

يخرج أبو سامي  في الصباح ويعود في المساء ليكفل مستوى معيشة كريم لأسرته الصغيرة. و في نهاية الأسبوع يصطحب عائلته للترفيه إلى الأماكن التي يتيحها ظرف سامي الصحّي . فيبتعد عن التجمّعات والازدحام. و في العطل يختار البحر من أجله . 

فالبحر والماء عشق سامي الأوحد . وهكذا أيضاً يضبط  الأب إيقاع حياته على ساعة توحّد ابنه مضحيّاً بمتطلباته الأخرى .

 تفضّل  أم سامي في أغلب الأوقات أن تبقى وحدها  لتضمّ من جديد حبّات السبحة التي انفرطت بين أصابع سامي و لتحظى بقسط من الراحة أو النوم يعينها على مواصلة الكفاح .

في زمان ومكان آخرين… يمكن أن يستفيد سامي من بعض الاهتمام من مجتمعه. 

وفي زمان ومكان آخرين… يمكن لأم سامي أن تستفيد من بعض المساعدة وبعض ساعات تقضيها مع نفسها . 

في زمان ومكان آخرين… يمكن لأبي سامي أن يستفيد من سهرة يسترخي فيها على برنامجه المفضّل بعد يوم عملٍ طويل .

ولكنّه زمن الأخبار العاجلة في سوريا والشرق الأوسط ولا عزاء للمنسيين .

إقرأوا أيضاً: