fbpx

لكنْ أين أصبحت فيتنام؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في أواسط السبعينات انتصرت فيتنام، وبوشر بتوحيد شمالها وجنوبها ووسطها في ظلّ القيادة الشيوعيّة للشمال. مدينة سايغون، عاصمة الجنوب، ما لبثت أن سُمّيت مدينة هوشي منه. الأميركيّون رحلوا مصحوبين بالهزيمة والذلّ. عدد قتلاهم (58 ألفاً) كان محتملاً. ضغط رأيهم العامّ لم يكن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في أواسط السبعينات انتصرت فيتنام، وبوشر بتوحيد شمالها وجنوبها ووسطها في ظلّ القيادة الشيوعيّة للشمال. مدينة سايغون، عاصمة الجنوب، ما لبثت أن سُمّيت مدينة هوشي منه. الأميركيّون رحلوا مصحوبين بالهزيمة والذلّ. عدد قتلاهم (58 ألفاً) كان محتملاً. ضغط رأيهم العامّ لم يكن.
ذاك النصر كان صفعة مدوّية أنزلها ما هو حقّ بما هو باطل.حدث 1975 الكبير، ثمّ تَتِمتُه في وحدة 1976 التي أقامت جمهوريّة فيتناميّة اشتراكيّة واحدة، كانا مفخرة لجيل بأكمله على امتداد الكرة الأرضيّة.هذا التقييم لم يكن خاطئاً بالمطلق. فالأميركيّون هم الذين ذهبوا غزاةً إلى جنوب شرق آسيا، وليس الفيتناميّون مَن غزا الولايات المتّحدة. وهم الذين ركبوا رؤوسهم مُصرّين على إحراز انتصار حاسم في الحرب الباردة: هكذا استخدموا أسلحة محرّمة وقتلوا أعداداً هائلة من السكّان كما أتلفوا أراضي زراعيّة لم تعد تُنبت إلاّ اليباس. وهم أيضاً دعموا أنظمة فاسدة وقمعيّة وانقلابيّة في الجنوب متوسّمين فيها الفعاليّة المنشودة في مكافحة الشيوعيّة. الحرب الكوريّة في 1950-53 كانت وحدها ما يُثقل عليهم. الهزيمة الفرنسيّة في ديان بيان فو عام 1954 لم تعلّمهم الكثير.ما ليس صحيحاً، في المقابل، أنّ الحقّ الفيتناميّ يجعل كلّ ما فعله الفيتناميّون، أو قالوه، حقّاً.ففيتنام لم تكن موحّدة جزّأها الفرنسيّون، ثمّ الأميركيّون، وأعاد الشيوعيّون توحيدها. التاريخ أشدّ تعرّجاً بلا قياس من هذه الرواية المبسّطة. فيتنام ملعب فسيح للتعدّد الإثنيّ المتنازع، وهي تنطوي على وحدات ثلاث عاشت التباعد والانقسام أكثر كثيراً ممّا عرفت الوحدة: تونكين في الشمال، وأنّام في الوسط، وكوتشنشينا في الجنوب. واقع كهذا، وليس “الانحياز إلى فكر الطبقة العاملة” أو “العداء للإمبرياليّة”، هو ما يفسّر قوّة الشيوعيّة كطرف دمجيّ يعالج التنوّع بالسحق والاستئصال. نزعة الدمج الشيوعيّة هذه بلغت مدى أبعد وأشدّ قهراً وقسوة في بلد مجاور هو كمبوديا إبّان حكم “الخمير الحمر”. توحيد فيتنام لا يعني إذاً أنّ “الشعب الفيتناميّ” كان، كأسنان المشط، واحداً في وحدويّته. قطاعات عريضة جدّاً من هذا الشعب، وهي تتعدّى كثيراً “حفنة عملاء”، هُزمت بالوحدة، تماماً كما انتصرت بالوحدة قطاعات عريضة أخرى.كذلك غذّى الفوارقَ تفاوت العلاقة بالكولونياليّة الفرنسيّة، وهو دائماً تفاوت متعدّد الأطراف. الجنوب، لا سيّما محيط سايغون ودلتا نهر الميكونغ، أقبل على “الحياة الغربيّة” أكثر ممّا أقبل الشمال. وهي، بدورها، أقبلت عليه أكثر ممّا أقبلت على الشمال. لاحقاً، حين انعطف الفيتناميّون عن الاشتراكيّة السوفياتيّة وباشروا الانفتاح على العالم، ظهر تقسيم عمل شديد الدلالة: السلطة السياسيّة والحزبيّة للشماليّين. السلطة الاقتصاديّة والتعليميّة للجنوبيّين. جنوب ما قبل الوحدة تغيّرت صورته بالتالي: لم يعد مجرّد سجن وعمالة وتبعيّة، على ما روّجت الدعاية الشيوعيّة والنضاليّات العالمثالثيّة. صار يُقدَّم بوصفه أرضاً للخبرات ونموذجاً للتقليد. لقد بدا أكثر تأهيلاً للتكيّف مع الحياة الطبيعيّة، خارج الثكنة والمتراس، ومع معاصرة العصر.الطريق لم يكن سهلاً. فبُعيد الوحدة، وخصوصاً في 1978، أُمّم كلّ شيء تقريباً. لكنّ الفقر والبطالة والأمّيّة زاد فتكها بالبلد. الدخل الفرديّ كان 100 دولار سنويّاً. الصفعة الأولى للصورة الورديّة التي رُسمت عن فيتنام وثورتها كانت “سكّان القوارب” الذين راحوا يفرّون من “النعيم الاشتراكيّ” مدركين أنّ الموت غرقاً احتمال كبير. هذه الظاهرة، وقد بلغت أوجها بين 1977 و1979، فراراً من الفقر والاضطهاد ومعسكرات إعادة التأهيل العقائديّ، طالت مئات آلاف الباحثين عن العمل والكرامة معاً. الشعور الانتصاريّ الذي حلّ بعد 1975 بدأ يتواضع ويتردّد. العالم الذي احتفل بانتصار 1975 أصابته الجفلة.في 1986 انطلق التحوّل ببطء إنّما بثبات: عامذاك، وبعد سنة واحدة على تولّي ميخائيل غورباتشوف الأمانة العامّة للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ، وجد الشيوعيّون الفيتناميّون الفرصة سانحة لمغادرة النظام والإيديولوجيا الشيوعيّين من دون مغادرة حكم الحزب الواحد. الصينيّون كانوا قد دلّوهم إلى هذا الخيار. هكذا عقدوا المؤتمر السادس لحزبهم وقرّروا برنامجاً واسعاً للإصلاح أسموه “التجديد”. التجارب الآسيويّة في الرأسماليّة، أي تجارب “النمور” و”التنانين” فضلاً عن اليابان وتحوّلات الصين بعد إصلاحات دينغ هشياو بنغ، انضافت إلى الغورباتشوفيّة لتعزّز هذه الوجهة: لقد اكتشف الفيتناميّون وجود سوق آسيويّة ضخمة ومُربحة ينبغي الحضور فيها ولو عبر كيفيّات ومعايير رأسماليّة.وبالفعل عادت فيتنام، في التسعينات، إلى ما كانته في الثلاثينات: المصدر العالميّ الثالث للأرزّ. انفتح الباب للسياحة. المصارف بدأت تنشأ. معدّلات النموّ، قبل انفجار الأزمة الآسيويّة في 1997-98، وصلت إلى 9 بالمئة. التوظيفات الأجنبيّة وخاصّة الآسيويّة بلغت في أواخر 1994 ستّة بلايين دولار. كذلك انتسبت إلى “رابطة أمم جنوب شرقيّ آسيا” (إيجيان) للتعاون الاقتصاديّ الإقليميّ، إلى جانب ماليزيا وإندونيسيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاندا وكوريا الجنوبيّة. الثقافة أيضاً صارت أكثر حرّيّة نسبيّاً. الأعصاب استرخت فراحت تراجع تجربة سنوات الثورة وصورة “العدوّ” بدرجة أعلى من الرحابة والدقّة.في 1995 تحديداً استعيدت العلاقات الديبلوماسيّة مع واشنطن، وراحت تتحسّن على غير صعيد: التجارة والتبادل الثقافيّ والتعاون العسكريّ. أميركا صارت المستورد الأكبر للسلع الفيتناميّة فيما الطلاّب الفيتناميّون الذين يدرسون في جامعاتها باتوا الكتلة الأجنبيّة الثامنة بين طلاّب الولايات المتّحدة. السيّاح الأميركيّون تدفّقوا، وتدفّقت معهم الثقافة الشعبيّة ومطاعم الوجبات السريعة. هانوي أنشأت مؤسّسة وظيفتها البحث عن مفقودي زمن الحرب من الأميركيّين. في 2007 انضمّت هانوي إلى منظّمة التجارة العالميّة. هناك إشكالات ظلّت قائمة لكنّ الطرفين عملا على ضبطها، أهمّها الاحتجاجات الأميركيّة على معاملة الحكومة الفيتناميّة لمنشقّين سياسيّين ودينيّين. صعود الأجندة الديمقراطيّة في التسعينات صبغ الأميركيّين بالتقدّميّة والفيتناميّين بالرجعيّة! مذّاك مرّت مياه كثيرة تحت جسور فيتنام. لكنْ في مطلع آذار (مارس) الجاري فوجىء العالم بخبر غير عاديّ. حاملة الطائرات الأميركيّة “كارل فِنسون”، التي تحمل 90 طائرة على متنها، قامت بـ “زيارة تاريخيّة” إلى فيتنام. شيء كهذا يحصل للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب. الرمز كان مدوّياً: الحاملة حطّت في ميناء دانانغ، قريباً جدّاً من الموقع الذي حطّ فيه الجنود الأميركيّون الغزاة عام 1965، ثمّ تحوّل قاعدة أميركيّة كبرى على امتداد سنيّ القتال. يومها كانوا أعداء. اليوم ضيوف. هذه الزيارة جاءت تتويجاً لما وصفته وكالات الأنباء العالميّة بـ “علاقات عسكريّة نامية بين البلدين”. “الإمبرياليّة الأميركيّة” لم تعد الشرّ المطلق. الشرّ هو… الصين. في اليوم الذي شهد زيارة “كارل فنسون”، كانت الصين تعلن عن موازنتها العسكريّة السنويّة البالغة 175 مليار دولار، بزيادة 8 بالمئة عن العام الماضي. “مناهضة الإمبرياليّة” وثنائيّة الخير والشرّ لم تجدا غير الصمت والإنكار ملجأً. لقد تكشّف حجم غفلتهما عن التاريخ والجغرافيا والجغرافيا السياسيّة، وتالياً عن إرادات الأطراف المعنيّين أنفسهم.اليوم، الصين هي التي تخيف فيتنام لأسباب كثيرة: هناك المحاذير العميقة التي تضرب جذرها في تاريخ مديد. هذه المحاذير لم تسكن إلاّ إبّان الحرب الأميركيّة – الفيتناميّة التي حملت الصينيّين، مثلهم مثل الروس، على دعم هوشي منه وقيادته. الأخيرون، بحسّ قوميّ ونفعيّ، آثروا، حفاظاً على هذا الدعم المزدودج، ألاّ ينحازوا إلى أيّ من العملاقين الشيوعيّين، مُطوّرين “الخطّ الفيتناميّ” المستقلّ في الشيوعيّة. التمسّك بلينين بدا مخرجاً نظريّاً ممتازاً يلبّي هذه الحاجة. بعد انتصار ثورتهم تبنّوا النموذج السوفياتيّ لأنّ اطمئنانهم إلى موسكو يفوق اطمئنانهم إلى الجار الصينيّ الأقرب. في 1978 غزت فيتنامُ كمبوديا، المرعيّة صينيّاً، فأطاحت حكم “الخمير الحمر”، لكنّ حرباً لم تدم طويلاً نشبت في العام التالي بين هانوي وبكين.مع انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وجدت فيتنام الفرصة التي استخدمتها لتحسين علاقاتها بالصين كما بالغرب. قالت: “صلتنا بدول العالم تقوم على الصداقة في معزل عن الاعتبارات الإيديولوجيّة”. هكذا بُذل الكثير من الجهد لترميم جسرها مع بيجين من دون أن تزول المخاوف والمحاذير، لا سيّما حيال جزر بحر الصين الجنوبيّ التي ظلّت تستجرّ اشتباكات متقطّعة. العواطف القويّة المناهضة للصين عاودت الانفجار في 2014، إذ هوجمت في فيتنام مصانع ومعامل قيل إنّ الصينيّين يملكونها، ردّاً على ما وُصف بانتهاك الصين مياهَ فيتنام الإقليميّة.مزاعم بيجين في بحر الصين الجنوبيّ هي قضيّة فيتنام اليوم. الصين تريده كلّه تقريباً بغضّ النظر عن مزاعم فيتنام بجزر باراسِل وسبرانلي. وبيجين، على رغم إشارات معاكسة، تمضي في بناء القواعد الجوّيّة ومحطّات الرادار والصواريخ هناك، بما يضمن سيطرتها على الجزر، غير آبهة بمزاعم خمس دول آسيويّة في عدادها فيتنام.الأخيرة مضطرّة أن تضبط شعورها بالعداء، ليس فقط لأنّ الصين أقوى عسكريّاً بلا قياس (وتجمع بين البلدين حدود مشتركة تمتدّ على ألف كيلومتر)، بل أيضاً لأنّها الشريك التجاريّ الأكبر لفيتنام. حجم تبادلهما 90 بليون دولار سنويّاً.يبقى أنّ الخوف من الصين هو ما سرّع التوجّه نحو الولايات المتّحدة. تركيز باراك أوباما على آسيا والمحيط الهادىء سبق أن طمأن الفيتناميّين. في 2016 زار أوباما هانوي معلناً رفع كافّة القيود عن بيعها معدّات عسكريّة. تلك الزيارة اعتُبرت نهاية ثانية للحرب. كذلك انضمّت فيتنام إلى اتّفاقيّة الشراكة التجاريّة العابرة للمحيط الهادىء (تي بي بي)، وهي مجموعة للتجارة الحرّة اقترحها أوباما.الولايات المتّحدة، بدورها، تعلن أنّها حياديّة في نزاع المزاعم في بحر الصين الجنوبيّ، لكنّ أسطولها البحريّ يصرّ على تمتّعه بـ “حرّيّة الملاحة” التي تزعج الصينيّين. احتمالات الحرب التجاريّة التي أعلنها دونالد ترامب بين واشنطن وبيجين تضاعف الشعور بالانزعاج.لكنّ المدهش بقياس الأمس أنّ فيتنام لا تخفي قلقها من تنامي الضعف الأميركيّ. إنّها تخشى تراجع النفوذ الأميركيّ وتريد أميركا أقوى وأكثر تدخّليّة في آسيا. هذا وحده ما يجعل الصين تفكّر عدّة مرّات قبل الإقدام على عمل توسّعيّ. انسحاب ترامب من اتّفاقيّة الشراكة التجاريّة أقلقها، مع هذا أصرّ رئيس الحكومة نيغوين كسوان فوك أن يكون أوّل زعيم من جنوب شرق آسيا يزور ترامب. حصل ذلك في أيّار (مايو) الماضي قبل أن يستضيفه في قمّة دول “إيجيان” في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. فيتنام، بتعبير آخر، يهمّها الحفاظ على الاهتمام الأميركيّ بها وتالياً بآسيا، من غير أن تُضطرّ إلى إثارة الصين. لذلك لم تعقد “شراكة استراتيجيّة” مع واشنطن، مفضّلةً أن تستقبل “كارل فنسون” تحت يافطة “حرّيّة الملاحة”. لقد عاشت فيتنام وثورتها طويلاً كموضوع للبيع والشراء الثوريّين. هكذا بدت الحال حين كانت شيئاً دمويّاً يتراوح بين الخرافة والأسطورة. حين صارت بلداً حقيقيّاً. فعليّاً. طبيعيّاً. من لحم ودم ومصالح وإرادات…، رأيناها تختفي عن شاشتهم. تلك الملحمة الأيقونيّة نادراً ما يذكرها اليوم من أيقَنوها بالأمس.
[video_player link=””][/video_player]