fbpx

التهجير أو حين أصبحنا آباءً لوالدينا…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في هذا المقال أنا لا أعطي معلومات ولا أستند إلى دراسات اجتماعية، بل أكتب عن أجزاء من تجربتي الشخصية في الحرب والهجرة، أنقل ملاحظاتي عما شاهدت وسمعت، وأطرح الأسئلة. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أصبحتُ رقيقاً! ربما لأنني صرتُ في عمر الآباء، فللأبِ قلبٌ أكبر من قلب أبنائه، والقلب الكبير معرضٌ للطعن أكثر. لم أعد صبياً صغيراً إذاً. 

قد يخالفني الرأي الكثير من الأبناء في مجتمعاتنا التقليدية لكن لنفترض أنني أتكلم عن الفطرة في الإنسان. فهل لكل الآباء رفاهية العاطفة؟ ماذا لو كان الجوع ضيفاً حاضراً على المائدة؟ هل يُسمح للقلب بالكلام في حضرة الصفير، صفير المعدة الخاوية؟ 

لا أذكر متى أصبحتُ أباً لأبي، وأماً لأمي، لكن ذلك حدث بعد الحرب. يومها أبصرت في أعينهما نوعاً من الخوف لم أعرفه قبلها. لم يكن خوفاً على نفسيهما بل علي وعلى إخوتي فأشفقت عليهما منه. في حضرة الفقد تزداد هشاشة القلب بازدياد عدد ساكنيه. هذا ما حدث معي لكنني بلا أطفال أفكر بالآباء الذين ركضوا في الجهات الأربع صوب المنافي خشية على من تبقى.

كلمات كثيرة بدلت جلدها… 

عندما يغير الناس أماكنهم تُغير اللغة دلالاتها أو على الأقل تتلون. 

لطالما ارتبطت صورة الأم في مخيلتنا كسوريين بالتضحية، إعداد الطعام، المسالمة، الاحتواء، البكاء… موروثنا في يوم عيدها يرتبط بأغنية “يامو” ينوح بها دريد لحام على الشاشة كطقس سنوي مع كل 21 آذار/ مارس. ثم فقرة التعذيب النفسي، من خلال مقابلات مع أمهات منسيات في دور العجزة لا تجف دموعهن عند الإجابة عن أسئلة غبية تطرحها مذيعة متصنعة. 

هل هذه القدسية إيجابية؟ 

كيف يمكن أن يكون تجريد الإنسان من أناه، نكران فردانيته، وانصهاره بالكل كملاك معطاء إيجابياً؟ 

بعدما سافرت الى خارج سوريا واستقررت في أوروبا لاحظت داخلي تبدل هذه الصورة و بدأت أفهم أن كل أم هي أم، ليس هناك قالب ملزم يجب على المرأة أن تلبسه لتكون صالحة لهذا الدور. ليست الأمومة ملازمة للمعاناة، كما ليست المرأة محصورة بدور الضحية. هذه التضحية اللامنتهية آتية من المكان الذي نشأتُ فيه، حيث القلة الدائمة، الكوارث المتوارثة، الهجرات، والحروب. واقع ثقيل فرض على الأفراد أدواراً تخلوا فيها عن الكثير من أجل البقاء! ثم بعد ذلك صار بقاؤهم مرهوناً بما يستطيعون فعله ليبقى صغارهم. هذا العبء متوارث فأنا وأبي و جدي ثلاثتا عايشنا أنواعاً ثلاثة من الهجرة. جذورنا يتم نتشها مع كل جيل جديد فلا يبقى لنا في الذاكرة إلا المعاناة. هي تجربتنا ومحاولات النجاة هي نظام حياتنا. 

في طريق سفري في اليونان دخلت سوبر ماركت لأشتري الخبز. كفلسطيني سوري من طبقة متوسطة لم أكن قد سافرت خارج سوريا قبل هذه الرحلة. بحثت عن الخبز لم أجد النوع الذي أريد. فسألت البائع: أين أجد الخبز السوري؟ (القوت اليومي البدهي لـ30 سنة). 

الخبز السوري؟! آسف لا يوجد. لا أعرف هذا النوع من الخبز. (أشار إلى رف المخبوزات) هذا ما لدينا. 

أصبح علي أن آكل خبزاً جديداً، أن أعتاد على شكل الرغيف الذي سيجبرني في المستقبل على إتقان لغة جديدة، والبحث عن عمل جديد لأتمكن من شرائه. أذكرُ يوم كنتُ صغيراً كانت جدتي تكرر في مدح جمال شخص ما وعافيته (وجهك مدور مثل الرغيف الفلسطيني!) متى بدأنا نقارن الجمال بالخبز؟ ربما يوم أكل الجوع كل التفاصيل الأخرى. كيف يصف الآباء المهاجرون اليوم جمال الوجوه لأبنائهم؟ هي هجرة أخرى كما قال محمود درويش، رحيل كان هذا العمر من غدنا المكدس على رفوف الماضي إلى أمسنا الآتي على ظهر التكرار. 

تختلف العلاقات بين أفراد الأسرة بعد كل نزوح وعند كل هجرة، خصوصاً تلك القسرية التي تكون هرباً من خطر محتم. هذا النوع يأتي على حين غفلة ولا نكون مستعدين له. أدوار كثيرة تصدعت، صار الأطفال يتعلمون اللغة قبل آبائهم ويتجاوزونهم بمستويات. تولى كثر من هؤلاء الأطفال دور المترجم لوالديهم. يقرأون لهم البريد، يترجمون كلاماً لا يدركون تماماً معناه ولا نتائجه. فما الذي قد يشعر به الطفل هنا؟ هل هي المسؤولية أم أنه لا يعي ما يفعله، أو ربما الفخر؟ 

يلجأ الأطفال لوالديهم في العادة إذا ما أرادوا الاستفسار عما يجهلونه، لكن في هذه الحلقة تختلط الأدوار ويلتصق الجميع بالجميع في محاولة النجاة، الكل ينتقل صوب مكان جديد. هي تجربة مختلطة. 

في مقابلة قديمة مع الممثل السوري قصي خولي، ذكر أنه لا يجيد الانكليزية وأنه وعد نفسه حين كان طفلاً بعدم تعلمها، لأنه اكتشف مصادفة أن والدته التي كانت تُسمّع له ما يحفظ، كانت تمسك الكتاب مقلوباً. كانت تتظاهر بأنها تعرف! حين سألته المذيعة عن السبب وراء هذا الوعد. أجاب “لأن أمي أروع انسانة بالدنيا”، ربما أراد بهذا القول أن يرفض أن يصبح أفضل منها. أو يخجل أن يتقن ما تجهله. مخاضات كثيرة عشناها ونعيشها بعد الحرب العنيفة والهجرة الجماعية.

في هذا المقال أنا لا أعطي معلومات ولا أستند إلى دراسات اجتماعية، بل أكتب عن أجزاء من تجربتي الشخصية في الحرب والهجرة، أنقل ملاحظاتي عما شاهدت وسمعت، وأطرح الأسئلة. 

إقرأوا أيضاً: