fbpx

الانتخابات الفرنسية: انفجار مؤجل لخمس سنوات!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بين الحزب الاشتراكي المدمّر والحزب الجمهوري الذي تحوّل شيئاً فشيء إلى مجموعة دكاكين بائسة، خطّ ايمانويل ماكرون طريقه للمرة الثانية إلى المواجهة المصيرية مع اليمين المتطرّف، لكنّه يعرف جيّداً أنّ مهمة إقناع الممتنعين المنتكسين في المعسكرين بالتصويت له في الدورة المقبلة، سيكون أكثر صعوبة من عام 2017.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

للمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة، شهدت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية سيناريو مكرّراً لسيناريو الدورة السابقة. فبعد دورتي جيسكار-ديستان/ ميتيران سنيني 1974 و1981، اختار الفرنسيون مجدّداً بالاقتراع العام، استعادة المواجهة بين الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون الذي يترشّح لولاية ثانية ومرشّحة “التجمّع الوطني اليميني” المتطرّف، مارين لوبان.

وإذا كانت ملاحظة استعادة المعركة بين مرشّح ليبرالي وسطيّ ومرشّحة يمينية متطرّفة تحتمل الحقيقة، بخاصّة أنها جاءت بنتائج مشابهة لانتخابات دورة 2017، فوضعت ماكرون أوّلاً بنسبة 28 في المئة، ومارين لوبان ثانية بنسبة 24 في المئة؜، إلا أنّها أبعد من أن تكون نسخةً طبق الأصل عمّا شهدناه قبل خمس سنوات، وذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

1- نسبة الامتناع والتصويت المفيد

سجّلت الجولة الأولى من انتخابات 2022، نسبة امتناع عن المشاركة وصلت إلى 27 في المئة وهي أعلى بخمس نقاط من دورة 2017، التي شهدت نسبة 22 في المئة، وبسبع نقاط من دورة 2020، التي شهدت امتناع ربع المسجّلين على لوائح الشطب من الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وإذا كانت بداية عطلة الفصح في بعض المحافظات وغياب الإعلام الموجّه لحملات المرشّحين نتيجة الاهتمام بالحرب الأوكرانية من الأسباب الرئيسية لارتفاع نسبة الامتناع، فإنّ وراء ذلك أسباباً أكثر واقعية، قد يكون أبرزها عدم الاهتمام الشعبي بنتيجة الانتخابات ووصول البعض إلى حالة “يأس فرنسي” ما جعله يعتمد لازمة “وهل سيغيّر صوتي شيئا في المعادلة الحالية ؟”. لامبالاة يمكن فهمها في سياق محدّد في ظلّ تراجع القدرة الشرائية وغلاء المعيشة وتقاضم جزء من التقديمات الاجتماعية مع عدم قدرة أيّ من المرشّحين على طرح حلول بديلة وجذرية، يترافق ذلك مع غياب تام لمرشّح يساري يجعل من هذا الموضوع أساس برنامجه الانتخابي.

وإذا كانت نسبة الامتناع عن المشاركة هي الحدث الأكثر تمظهراً طيلة النهار فإنّ إسدال الستار على الجولة الاولى وظهور النتائج الأولية في تمام الثامنة مساء بتوقيت باريس، جعل من “التصويت المفيد” حدث المرحلة الأكثر تأثيراً. ولعلّ أبرز ضحايا هذا التصويت الذي أحسن استغلاله كلّ من ميلانشون وماكرون في الاسبوع الأخير الذي سبق تلك الجولة، هما مرشّح اليمين المتطرف اريك زيمور ومرشّحة اليمين الجمهوري فاليري بيكريس، إضافة إلى كلّ مرشحي اليسار الذين سقطوا تحت عتبة الـ5 في المئة من الأصوات، ما سيمنعهم من إمكانية تعويض النفقات الخاصة بالحملة الانتخابية.

ساهمت وسائل الإعلام الفرنسية عموماً، ولا سيما التعبئة الخاصة التي قامت بها ماكينة اريك زيمور في بثّ جوّ يحيلنا إلى أن سيناريو ترامب أكثر من وراد مع نهاية الجولة الأولى. قبل شهر من الآن كانت استطلاعات الرأي تقدّم زيمور كمنافس شرس لايمانويل ماكرون وكشخص قادر مع حزبه الجديد “الاستعادة” (Reconquête) وأفكاره الالترا قومية، المحافظة والمعادية للمسلمين، على خلق مفاجأة ستترك بصماتها في فرنسا وأوروبا والعالم. مشهد كان سيكون أقرب إلى انتصار دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية في كانون الثاني/ يناير 2017، حيث تنتصر الشعبوية على المؤسسات في مجتمع هشّ تتّسع فيه الفروقات الطبقية وتغيب عنه العدالة الاجتماعية والحرّيات الفردية والجماعية.

لكنّ دخول مارين لوبان في حملتها الانتخابية وتعبئة قواعدها الشعبية لا سيّما في “فرنسا الهامشية” (خصوصاً في الأرياف) واعتمادها خطاباً يحاكي القدرة الشرائية للفرنسيين مع تعديل واضح في اللهجة التي تتجنّب العدائية تجاه المهاجرين والمسلمين ومثليي الجنس، ساهم في كسر دينامية زيمور ورجّح كفّة مرشّحة التجمع الوطني في السباق الى الاليزيه.

على اليسار، استفاد مرشّح “فرنسا العصيّة” (يسار راديكالي) جان- لوك ميلانشون من مجموعة عوامل جعلت منه المرشّح المفضّل لدى الفئات الشبابية، إذ حصد ما يقارب 40 في المئة من الأصوات لدى الشباب الذين تترواح أعمارهم بين 18 و35 سنة. صوّت طلّاب الجامعات بكثافة للشخص الذين وجدوا فيها البديل الحقيقي لتلك المواجهة المملّة بين ماكرون ولوبان. استخدم ميلانشون “الوحدة الشعبية” التي صدح باسمها مناصروها طيلة ليلة الأحد- الاثنين كسلاح في وجه الاتهامات التي حاول بعض اليسار مواجهته بها وكرّس نفسها كممثّل وحيد لليسار الفرنسي الذي يعيش أسوأ فتراته، بعد التشظي الكارثي الذي أصاب الحزب الاشتراكي وتراجع أسهم الايكولوجيين والتنظيمات الشيوعية لمصلحة خطاب “الجمهورية السادسة” الذي حمله ميلانشون.

2- نهاية الحياة السياسية الفرنسية بقطبيها الاشتراكي والجمهوري.

لعلّ أبرز مؤشرات تلك الجولة الرئاسية هو انهيار الحزبين التقليديين اللذين سيطرا على الحياة السياسية الفرنسية طيلة 40 عاماً. ومن مهازل القدر والتاريخ والجغرافيا أن تتجاوز نسبة التصويت للحزب الشيوعي الفرنسي (2.5 في المئة؜) النسبة التي حصل عليها الحزب الاشتراكي، وهو أي الاشتراكي، المسؤول الأول بنظر كثيرين عن ضرب الشيوعيين بعد برنامج ميتيران في الثمانينات واقتراحاته الاقتصادية التي ألزمت اليسار بتحوّلات بعيدة من قواعده الشعبية الأساسية.

وإذا كانت سياسة الحزب الاشتراكي في العشرية الأخيرة لا سيّما في عهد فرانسوا هولاند تحت إدارة مانويل فالس هي المسؤول الأول عن تراجع الحزب وتدهوره حدّ الانهيار التامّ اليوم، فلإيمانويل ماكرون دورٌ أساسي في تفتيت الحزب وتشتيته اذ عمل منذ بداية حملته الأولى عام 2016، على ضمّ الكوادر الأساسية كجان- ايف لو دريان وريشار فيران وأوليفيه فيران وآخرين وتدبير ايديولوجيتهم الاشتراكية- الديموقراطية بشكل يتماشى مع تيار ينتهج سياسة يمينية وسطية على المستوى الاقتصادي وسياسة يسارية ليبرالية على المستوى الاجتماعي لجهة الحريات الفردية والجنسيّة.

كان ماكرون يعرف جيداً أنّ لا مستقبل له في الساحة السياسية الفرنسية في ظلّ هيمنة قطبي اليسار واليمين على كلّ مكامن البلاد. وكان يعلم أكثر أنّ مهمة ضرب اليمين الجمهوري لن تكون سهلة كمهمة القضاء على الحزب الاشتراكي، فما كان له إلا أن يفجّر الحزب من الداخل. اختار ادوارد فيليب كرئيس للحكومة الاولى وعندما رأى فيه الخطر القادم أقصاه ثم قدّمه كحليف أوّل في معركة الحفاظ على البيت الجمهوري إزاء زحف المتطرّفين كإريك سيوتي ونادين مورانو وكلّ تلك الجوقة التي لا يختلف خطابها كثيراً عن خطاب زيمور العنصري. لم يتوانَ ماكرون عن تقديم صورة تجمع ديغول، شيراك، جوبيه وساركوزي وحاز ثقة جمهور واسع من الفرنسيين يصوتون عادة لليمين: جمهور مؤيد لبرنامج ليبرالي اقتصادي مع حدّ أدنى من التقديمات الاجتماعية يحافظ على إرث “دولة الرعاية” (Etat-Providence)، في قلب العولمة والتحوّلات الكبرى، لا يستغني عن بيته الأوروبي وتحالفه مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنّه منفتح على الشرق بشكل حذر يضمن مصالح الفرنسيين.

بين الحزب الاشتراكي المدمّر والحزب الجمهوري الذي تحوّل شيئاً فشيء إلى مجموعة دكاكين بائسة، خطّ ايمانويل ماكرون طريقه للمرة الثانية إلى المواجهة المصيرية مع اليمين المتطرّف، لكنّه يعرف جيّداً أنّ مهمة إقناع الممتنعين المنتكسين في المعسكرين بالتصويت له في الدورة المقبلة، سيكون أكثر صعوبة من عام 2017، عندما طرح نفسه مرشّحاً من خارج النظام التقليدي (وهو حقّاً كذلك) لكنّه المرشّح الذي ورث النظام التقليدي بيساره ويمينه وقولبه بالشكل الذي جعله يمتصّ أزمات كبرى من السترات الصفر إلى قانون التقاعد الذي لم تنته مفاعيله وصولاً إلى أزمة كورونا الطويلة حتى الحرب الأوكرانية التي دخلها كمفاوض سياسي وكرجل حلّ.

3- دينامية التحالفات والخطر الذي قد يصبح واقعاً

حسناً فعلت مارين لوبان عندما ركّزت حملتها الانتخابية على موضوع القدرة الشرائية. توجّهت لأبناء الأرياف، وقالت لهم بشكل شفّاف إنّ ماكرون ورث نظام تعاقب اليمين واليسار التقليديين على السلطة، نظام انتهج مبدأ مركزية المدينة وتصحير الأرياف وكلّ ما صاحبها من إقفال مراكز عامة وشحّ في الخدمات وتهميش الزراعة وتحويل مسألة اليدويين والحرفيين وعمال المصانع البعيدة (في دائرة 20 الى 30 كلم) إلى موضوع ثانوي. يكفي أن ننظر إلى عدد القرى والبلدات الصغيرة التي تصدّرت فيها مارين لوبان لنتأكّد من دينامية في التصويت تحوّلت اليوم إلى واقع: في القرى والبلدات التي لا يزيد عدد سكانها عن 1500 نسمة لا يزال قسم كبير من العامّة يعيش على الزراعة والحرف اليدوية، ولعلّ المثال الأبرز على ذلك ضيع ال Somme والـPicardie والمناطق الداخلية التي لا يزال فيها الإنتاج يتركّز على مصانع باتت مهملةً وعرضة للاقفال وما يتبعه من تسريح للعمّال وارتفاع في نسبة البطالة.

بعد جولة سريعة على المدن الكبرى والرئيسية في فرنسا، يتّضح جلياً أنّ يمين الوسط وتيارات اليسار حصدت النسبة الاكبر من الاصوات ووصل الحال في بعض المدن كتولوز إلى عجز مرشحي اليمين المتطرف عن تجاوز عقبة الـ8 في المئة، فيما حلّ ميلانشون أوّلاً وبفارق كبير عن ماكرون الثاني. في بوردو انعكست النتائج لكنّ اليمين المتطرّف بقي بعيداً في السباق. كذلك الأمر في باريس ومعظم المدن المتوسّطة لا سيما مدن جنوب الغرب الفرنسي، وقد شذّت مدينتي نيس ومرسيليا عن تلك القاعدة وسجّلتا نسب كبيرة لمرشحي اليمين المتطرف (لوبان وزيمور) لأسباب عدة تتعلّق بالتاريخ السياسي لمدن المتوسّط والحساسية المفرطة تجاه الجاليات العربية المسلمة التي تشكّل جزءاً كبيراً من النسيج الاجتماعي اليوم، عدا ميل عام لدى الطبقة العمالية البيضا- إن صحّ القول- إلى التصويت لبرامج الحماية الوطنية أو الافضلية الوطنية على حساب برامج يسارية أو ليبرالية.

ممّا لا شكّ فيه أنّ طيفاً واسعاً من اليسار اليوم سيمتنع عن التصويت في الجولة الانتخابية الثانية في 24 نيسان/ أبريل، لأنه لا يرى نفسه معنيّاً بهذا الصراع المكرّر بين مصرفي ليبرالي ويمينية محافظة. وإذا كانت مارين لوبان مطمئنة لجهة تجيير اريك زيمور أصوات قواعده لها وهي أصوات رديفة كانت تفتقدها عام 2017، فإنّ فرصها لن تتعزّز بالوصول الى الاليزيه إذا لم تحصد بالحدّ الأدنى 9 في المئة من أصوات القواعد اليسارية التي انتخبت مرشّحاً يسارياً في الدورة الأولى.

وعلى رغم دعوة فابيان روسيل (مرشّح الشيوعي) ويانيك جادو (مرشّح الخضر) مناصريهما إلى التصويت لماكرون وامتناع ميلانشون عن تلك الدعوة مع إصراره على عدم التصويت للوبان، فإنّ المرأة التي تخوض تجربتها الرئاسية الثالثة تعوّل على ما يصطلح عليه بالـGaucho-lepénisme أو اليسار- اللوباني. يعتقد كثيرون اليوم أنّ جزء لا يستهان به من العمّال والمزارعين واليديويين اليائسين من نخبوية اليسار وأخلاقويته سيتّجه للتصويت بكثافة لمشروع لوبان، لا شخصها ولا مبادئها ولا ايديولوجيته. وعلى عكس ما يشاع فإنّ هؤلاء ليسوا من المتقاعدين الذين تجاوزوا الـ65، إنما شباب معزول جغرافياً واجتماعيا جعلته « gars de coin ». علاوة على ذلك، وأبعد بكثير من العنصرية الاسلاموفوبيا، تميل تلك الطبقة العاملة البيضاء إلى برنامج يحاكي إقفال الحدود وتعزيز الحالة الوطنية وتأميم المصانع وإعطاء الأولوية لابن البلد على حساب برنامج حدّد أولوياته بالسوق الحرّة والحدود المفتوحة والمعاهدات الأوروبية التي عزّزت هذه الحركيّة.

بناء على كلّ ما تقدّم، لا تبدو مهمة ايمانويل ماكرون بهذه السهولة مع تقديري أنّه سيفوز بولاية ثانية بفارق لا يقلّ عن 6 نقاط إذا ما أخذنا بالحسبان حجم التحالفات وشبكاتها الجمهورية التي تصبّ لمصلحة الرئيس الحالي، لكنّني ميّال إلى الاعتقاد أنّ من يريد حسم الجولة الثانية مبكراً عليه، أن يكسب جمهور اليسار بتلاوينه كافة، وبخاصة جمهور جان-لوك ميلانشون.

إقرأوا أيضاً:

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 24.04.2024

مع زيادة التهديدات الإسرائيلية… عائلات تترك رفح

للمرة السادسة، اضطرت عائلة أمير أبو عودة إلى تفكيك خيمتها من مكان نزوحها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتوجه بها إلى خان يونس التي تبعد عنها قرابة الأربعة كيلومترات، بعد تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية على المدينة الحدودية مع مصر، وزيادة التهديدات بقرب تنفيذ هجوم عليها.