fbpx

ضحايا بالمئات في نزاعات عشائرية:
7 ملايين و600 ألف قطعة سلاح في أيدي “المدنيين” العراقيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

النزاعات العشائرية في معظم محافظات البلاد، لا سيما الجنوبية والوسطى منها، استفحلت خلال العقدين الأخيرين في ظل ضعف أداء الأجهزة الأمنية وعجزها عن مواجهة انتشار السلاح واستخدامه في الصراعات وحتى في المناسبات سواء في المآتم أو الأفراح، والتي يذهب ضحيتها في أحيان كثيرة مدنيون ليسوا طرفاً في الأمر بين قتيلٍ وجريح.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فيما تشهد العاصمة العراقية بغداد غلياناً سياسياً، ترافق مع وقوع اشتباكات أمنية بين مسلحين من الاطار التنسيقي وآخرين من “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر، سقط ضحيتها أكثر من 20 قتيلاً وعشرات الجرحى، لا يزال السلاح المتفلت المرتبط بالعشائر، يحصد الأرواح في المدن العراقية، خصوصاً في الجنوب، في ظل غياب فاضح للدولة وأجهزتها وقوانينها. 

ظل هاتف ف.ع (19 سنة) يرنُّ بإلحاح، فيما كانت هي داخل غرفة القياس في متجرٍ لبيع الفساتين وسط البصرة جنوب العراق، تجربُ فستاناً لزفافها القريب من حبيبها، علي. ولم تكن تعلم أن عرسها الذي انتظرته طويلاً سيتحول إلى مأتم بسبب رصاصة طائشة. 

كان هاتفها لا يزال يرنُ فور خروجها، فتناولته من حقيبتها وارتسمت على وجهها ابتسامة حين قرأت اسم خطيبها على الشاشة وفكرت بأن تخبره أنها أخيراً وجدت الفستان المناسب، لكن بدلاً من صوته، فاجأها صوتٌ غليظٌ باكٍ بالكاد فهمت منه عبارة “الله يصبرچ بنيتي. علاوي مات”، وما هي إلا لحظات حتى دار بها المكان وهوت على الأرض وأغمي عليها. 

حين أفاقت الفتاة في مستشفى البصرة التعليمي، احتاجت إلى بعض الوقت لكي تتأكد بأنها لم تكن عالقة داخل حلم، والصوت الذي أخبرها بوفاة علي كان لوالده أو الشخص الذي كان يفترض أن يصبح حماها. 

وشيئاً فشيئاً، استوعبت أن جنازة خطيبها كانت في طريقها من البصرة نحو مقبرة السلام في مدينة النجف، وأن رصاصة بندقية في نزاع عشائري أنهت حلمها وحولته إلى فاجعة.

يشهد العراق، لا سيما محافظاته الجنوبية، مئات الصدامات العشائرية المسلحة سنوياً، يسقط فيها عشرات القتلى والجرحى. 

اندلع في البصرة وحدها خلال عام ونصف العام، ما يزيد عن 200 نزاع عشائري مسلح، قتل فيها أكثر من 300 شخص وفق مصدر أمني مطلع. وأصدرت الجهات التحقيقية على إثرها قرابة 5 آلاف مذكرة قبض بحق مفتعلي تلك النزاعات والمشاركين فيها.

في نهار صيفي لاهب قبل سنوات من الآن، كان علي عبد الحسين المالكي (21 سنة)، يقف أمام منزله الكائن في منطقة الخمسة ميل وسط مدينة البصرة، وهو يحاول إصلاح سيارة والده، قبل أن يسقط صريعاً برصاصة طائشة كانت واحدة من سيل من رصاص أطلق خلال نزاع عشائري وقع قرب المكان.

يروي عبد الحسين المالكي، والد الضحية، الحادثة كما لو أنها وقعت اليوم، ويقول منفعلاً: “قتلوا ولدي وهو في عز شبابه. طلقة استقرت في صدره قبل سبعة أيام من موعد زفافه”.

ويكمل: “سقط ابني أمامي ومن هول المشهد أغمي علي. الجيران نقلوه إلى المستشفى من أجل إسعافه”، ويستدرك والدموع في عينيه: “لكنه توفي في الطريق”.

ويلقي الأب المكلوم كما بقية أفراد عائلته باللائمة على الحكومة التي يرى أنها تتحمل مسؤولية وفاة ولده بسبب فشلها في الحد من انتشار السلاح في النزاعات العشائرية التي اتسعت حتى خرجت عن سيطرة القوات الأمنية.

حضور دائم للسلاح

النزاعات العشائرية في معظم محافظات البلاد، لا سيما الجنوبية والوسطى منها، استفحلت خلال العقدين الأخيرين في ظل ضعف أداء الأجهزة الأمنية وعجزها عن مواجهة انتشار السلاح واستخدامه في الصراعات وحتى في المناسبات سواء في المآتم أو الأفراح، والتي يذهب ضحيتها في أحيان كثيرة مدنيون ليسوا طرفاً في الأمر بين قتيلٍ وجريح. 

ويصف المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، النزاعات العشائرية بأنها من أخطر عوامل تهديد السلم المجتمعي، كاشفاً عن صدور أوامر ملزمة من القائد العام للقوات المسلحة بنزع أسلحة جميع المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية واعتقال المشاركين فيها والتعامل معهم بحزم.

ووفقاً للمحنا، “ضبط نحو 7 آلاف قطعة سلاح متوسط وخفيف خلال الفترة القريبة الماضية، الى جانب اعتقال أكثر من 270 متورطاً بالنزاعات العشائرية في محافظتي البصرة وذي قار خلال عام 2021 وحده”.

ومع تشديد الإجراءات الحكومية لمواجهة اتساع الصراعات العشائرية ودخول اسلحة متنوعة فيها، يقول المحنا: “تم اعتقال نحو 360 شخصاً متورطاً خلال الأشهر الأولى من عام 2022 في مدن مختلفة من البلاد، ونواصل عمليات التفتيش لمصادرة الأسلحة الخفيفة والمتوسطة واعتقال المتورطين”.

ويرى المحنا أن حيازة السلاح جزء من ثقافة المجتمع العراقي وساهمت “الحروب وعسكرة المجتمع بشكل كبير في ترسيخ هذه الثقافة”، مبيّناً أن “هناك مخازن كبيرة للأسلحة تابعة للقوات الأمنية، تم التجاوز عليها في فترات معينة وسربت للأهالي”، ما جعل السلاح متوفراً على نطاق واسع.

وفي منتصف آب/ أغسطس 2022، أعلنت قيادة فرقة الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية، عن إنهاء 787 نزاعاً عشائرياً في محافظة ميسان وحدها. وأشارت الى وجود لجنة شكلت لحل النزاعات العشائرية تتألف من وجهاء المنطقة والشيوخ وقائد فرقة الرد السريع.  

نشطاء مدنيون يتابعون تلك النزاعات، يقولون إن هذه الأرقام تتعلق بجزء صغير فقط من النزاعات التي تحصل وأن الحكومة شبه غائبة وإجراءاتها ضعيفة. ويؤكد الناشط علي عباس، وهو من ميسان، أن غالبية المواجهات المسلحة للعشائر الكبيرة لا تصل الى مراكز الشرطة، والحكومة تبقى متفرجة، كما أن النزاعات الصغيرة التي لا يسقط فيها ضحايا تظل منسية.

وفقاً لمصادر أمنية في وزارة الداخلية، هناك 7 ملايين و600 ألف قطعة سلاح في أيادي المدنيين في العراق، وسجّل 321 نزاعاً عشائرياً مسلحاً في المحافظات الجنوبية الثلاثة، البصرة- ميسان- الناصرية، عام 2020 فقط، كانت حصة محافظة البصرة منها 140 نزاعاً راح ضحيتها 41 شخصاً و105 جرحى.

وبحسب المصادر نفسها، فإن الأسلحة التي استخدمت في النزاعات تنوعت ما بين سلاح الكلاشنكوف الخفيف وbkc المتوسط الذي يحمل على السيارات، وفي نزاعات أخرى استخدمت قاذفات RPG 7 المضادة للدروع.

التهديد بالسلاح

تتنوّع النزاعات العشائرية في العراق بين ثأرية نتيجة خلافات اجتماعية أو حوادث عرضية، ونزاعات بشأن ملكية الأراضي الزراعية أو تلك التي تعمل فيها شركات نفطية وبالتالي يكون الخلاف على مبالغ التعويضات التي تدفعها تلك الشركات للمتضررين من مشاريعها وحتى فرص العمل التي توفرها، لكن دائماً ما تظهر الأسلحة في مرحلة من مراحل تلك النزاعات، ويتم استخدامها أحياناً، وفي أحيان أخرى تكون بمثابة تهديد فقط. 

الشيخ صادق نصيف شيخ عام قبيلة بني لام، يقول إن “محافظتي البصرة وميسان تعانيان نزاعات عشائرية متكررة، لأسباب مختلفة، بعضها يرتبط بقضايا ملكية الأراضي الزراعية والحصص المائية الخاصة بالسقي أو مشكلات مادية أو اجتماعية أو ثأر قديم”.

وإلى جانب تلك النزاعات، برزت في السنوات المنصرمة “محاولات بعض العشائر فرض سطوتها على الشركات النفطية الموجودة في أراضيها، لانتزاع أكبر قدر ممكن من التعويضات المالية من تلك الشركات”.

ويوضح أن تلك النزاعات تتحول إلى اشتباكات مسلحة تستمر أحياناً ساعات أو أياماً بنحو متقطع وتستخدم فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، في ظل عجز الدولة هناك عن فرض الأمن التام لضعف سلطتها وغياب فرض القانون. 

وقد تتوالد عن النزاع الواحد نزاعات متفرعة، إذ تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي في 15 آب/ أغسطس 2022 خبراً عن مقتل شيخ إحدى العشائر من البصرة اسمه جواد الجزائري، كان قد تدخل لإبرام اتفاق صلح بين امرأة وزوجها، لكن الأمر تفاقم وتلقى رصاصة في رأسه أردته قتيلاً بسبب شيء قاله، مما يعني تدخل عشيرته طلباً للثأر. 

ووفقا لقرار مجلس الوزراء العراقي المرقم 149 لسنة 2011 يتم تعويض الأضرار التي تسببها الشركات النفطية، وإخلاء الأراضي الزراعية لغرض استمرار عمل شركات التراخيص النفطية. وتتولى وزارة النفط العراقية تعويض المزارعين المتضررين مالياً من عمل تلك الشركات، فضلاً عن الأضرار الناجمة عن عملها.

وبحسب الاستراتيجية التي تتبناها وزارة النفط في هيمنتها على الأراضي الزراعية، بموجب قانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم 84 لعام 1985، فإن لها الحق بمصادرة الأراضي الزراعية لتنفيذ مشاريع نفطية بعد تعويض أصحابها بمبالغ مالية، وتطلق الوزارة على هذه الأراضي تسمية “محرمات نفطية”.

إقرأوا أيضاً:

العشائر في مواجهة الشركات

مع تحويلها الى محرمات نفطية، تكتسب تلك الأراضي وبعضها لا يصلح للزراعة ولا الرعي، أهمية كبيرة وتتحول ملكيتها إلى محل صراع بين العشائر التي كانت تستثمرها أو تسكن فيها وأحيانا تقوم عشائر بفرض مطالب خاصة للموافقة على استثمار الشركات النفطية لتلك الأراضي.

وهو ما حصل في 22 تشرين الثاني 2019 حين أقدمت عشيرة “بيت وافي” المعروفة بنفوذها في محافظة البصرة، على إغلاق مداخل حقل مجنون النفطي شرقي البصرة والمستثمر من قبل شركة (سي. بي. إي. سي. سي) الصينية وشركة “بتروفاك” البريطانية مطالبة بتعويضات مالية مقابل موافقتها على عمل تلك الشركات.

 وعادت العشيرة ذاتها بعدها بنحو عام (تشرين الأول/ أكتوبر 2020) الى التظاهر المسلح وقطعت الطرق المؤدية إلى الحقل، ومنعت العاملين من الوصول إليه، قبل الموافقة على توفير فرص عمل لأبنائهم الذين يعانون من البطالة، وهو ما أثر على عمل الشركات في الحقل لعدة أيام.

وفي 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، هددت شركة “بتروناس” الماليزية بمغادرة حقل الغراف النفطي في ذي قار، في أعقاب توترات مع عشائر تسكن بالقرب من الحقل، كانت تطالب بوظائف لأبنائها، حسبما يقول رئيس لجنة الطاقة في مجلس محافظة ذي قار المنحل يحيى المشرفاوي، الذي يكشف أيضا عن تعرض شركة cpecc الصينية العاملة في تطوير الانتاج النفطي في حقل الغراف إلى “إطلاق نار متكرر في 17 آذار 2017 استهدف الآليات العاملة ضمن مفاصل الشركة المذكورة في منطقة عشائر الشويلات”.

وتخلف النزاعات العشائرية في بعض الاحيان اضراراً في البنية التحتية، ففي 18 آب/ أغسطس، أعلنت وزارة الكهرباء عن خروج أحد خطوط نقل الطاقة جنوبي البلاد عن الخدمة، بسبب نزاع عشائري، وذكرت أن خط (هارثة/ قرنه 400 kv) شمال البصرة تعرض لعيارات نارية، ما أدى الى تقطّع أسلاك الخط الناقل وتسبب بانفصال خطوط المنطقة الجنوبية، وكاد الاستهداف يتسبب بإطفاء تام للكهرباء. وبينت الوزارة أن “خطوط نقل الطاقة الكهربائية تتعرض للضرر بنحو مستمر في المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية، بخاصة مناطق شمال محافظة البصرة”.

وتعهد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في 2 تموز/ يوليو 2020 باتخاذ إجراءات رادعة لمعاقبة وملاحقة الأطراف التي تقف وراء تهديد وابتزاز الشركات الأجنبية، مبيناً خلال لقائه مع عدد من المستثمرين أن قطاع الاستثمار يواجه الكثير من العراقيل التي تحول دون تقدمه وبينها تهديدات العشائر للشركات. 

وعلى رغم التعهدات التي أطلقها رئيس الوزراء في حماية المستثمرين والشركات الأجنبية، أصدرت جماعة عرفت نفسها بـــ”أصحاب الكهف” وهي ميليشيا مسلحة موالية لإيران، بياناً في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، دعت فيه العراقيين إلى الإبلاغ عن أي معلومات بشأن وجود مستثمرين أو خبراء اقتصاديين من دول تعتبر منافسة لإيران، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، مقابل مبالغ تتراوح بين 20 ألف دولار إلى 50 ألف دولار. وربط محللون هذا البيان باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وابو مهدي المهندس بعملية جوية أميركية في مطلع تلك السنة.

صراعات عشائرية بلباس سياسي

وتشجع الأعراف العشائرية على حمل السلاح منذ القدم، كوسيلة للمباهاة بالقوة أو لمواجهة الخصوم والمنافسين، لكن في فترات قوة الدولة كانت الأسلحة تختفي داخل بيوت زعماء العشائر وفي مضايفهم ولا تظهر للعلن.

 أما في فترات ضعف الدولة أو حاجة الحكومات الى العشائر لتحقيق غايات معينة، كان يتم تسليح العشائر وتظهر أسلحتهم حينها بقوة في المناسبات ويجري حملها على نطاق واسع.

ووفقا لما يقوله محمد الزيداوي وهو أحد شيوخ العشائر من محافظة البصرة فإن الكتل السياسية والأحزاب لديها أدوات عشائرية تفتعل بعض النزاعات لأهداف محددة كإثارة الشارع تجاه ملفات معينة وتحقيق غايات سياسية، موضحاً بأن أغلب الفصائل المسلحة تستغل أبناء العشائر المنتمين الى صفوفها بدفعهم الى تخزين مختلف أنواع الأسلحة في محاولة لإبعادها من أنظار السلطات الأمنية واستغلالها لأهداف خاصة. “لكن تلك الأسلحة تجد طريقها للاستخدام في أي نزاع عشائري يقع”، يقول الزيداوي. 

الزيداوي الذي عمل مستشاراً لمحافظ البصرة لشؤون العشائر سابقاً، يتهم بعض الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة (دون أن يسميها)، بالوقوف وراء من سماهم سماسرة يعملون في مجال تهريب الأسلحة وبيعها لأبناء العشائر، كون تجارة السلاح واحدة من أبواب إيرادات تلك الأحزاب وفقاً لتقديره. وهي تروج بذلك لحمل السلاح وتخزينه.  

ووفقاً للزيادواي، فإن الأحزاب السياسية العراقية التي تشكلت، بعد سقوط النظام العراقي السابق في نيسان/ أبريل 2003، تمكنت من استغلال عادات وأعراف العشائر واستثمارها في توطيد سلطتها، سواء عن طريق الاستفادة منها في الانتخابات أو من طريق الهيمنة السياسية والاجتماعية المباشرة باللجوء الى قوتها، فتحولت العشيرة من بنية يجمعها رابط النسب والدم إلى بنية سياسية اقتصادية مؤطرة بنزعة دينية أو طائفية.

ومع التناغم بين الأحزاب وبعض العشائر والمصالح التي جمعتها، حصل انتشار هائل للسلاح لدى العشائر، ولم يعد يخلو بيت في منطقة عشائرية من السلاح، ما حولها إلى قوة منافسة لمؤسسات الدولة الأمنية بل متسلطة عليها في حالات كثيرة، بحسب الزيداوي.

وفيما يشدد الزيداوي على ضرورة السيطرة على الحدود مع بعض الدول المجاورة التي يتم توريد الأعتدة والاسلحة عبرها بعمليات تهريب، يقول إن “البصرة سجلت في مطلع عام 2019 ولغاية منتصف عام 2021، أكثر من 200 نزاع مسلح قتل على أثره 43 مواطناً وأصيب ما يقارب 277 شخصاً، كما صدرت قرابة 5 آلاف مذكرة قبض بحق مفتعلي النزاعات العشائرية وفق المادة 4 إرهاب”. 

منافذ توريد الاسلحة

وبحسب رئيس رابطة العشائر العراقية، محمد الجابري، فأن غالبية الأسلحة التي تمتلكها العشائر اليوم تعود إلى النظام السابق وكذلك إلى إيران على اعتبار أن الكثير من الأسلحة تدفقت وبشكل كبير منها باتجاه العراق من خلال الممرات الجنوبية إبان الحرب ضد داعش”. 

وزاد “عندما سقط النظام عام 2003 استحوذت العشائر على الأسلحة المتوسطة والثقيلة التي كانت تابعة للجيش العراقي من المعسكرات والمقرات التي تركت، وفي السنوات اللاحقة كانت الأسلحة منتشرة في أسواق سوداء مختصة ببيعها والتي من الصعب السيطرة عليها”. 

وعن مصادر التسليح الأخرى للعشائر يقول الجابري، إن “الكثير من العشائر استطاعت تعزيز تسليحها عبر تهريب السلاح من المحافظات والمناطق التي شهدت معارك مع تنظيم داعش بين 2015-2017 إلى المناطق الجنوبية، وكان يتم الحصول عليها بأسعار زهيدة بعد هزيمة التنظيم”، وهذا ما مكن العشائر من امتلاك ترسانة أسلحة تلجأ إليها في أي نزاع ينشب مع عشائر منافسة ولأي سبب كان، يقول الجابري.

أسلحة جديدة تغير قواعد الاشتباك

قواعد الاشتباك لدى العشائر المتنازعة فيما بينها، تغيرت في السنوات الأخيرة بدخول الأسلحة المتوسطة وحتى الثقيلة أحيانا، بعدما كانت الاشتباكات تحصل طوال سنوات بالأسلحة الخفيفة فقط كالكلاشنيكوف.

وحصلت انتقاله جديدة وخطرة في قواعد الاشتباك مؤخرا، بحسب الخبير الأمني أحمد الشريفي، إذ استخدمت في بعض النزاعات العشائرية في مناطق شمالي البصرة (الغنية بالنفط)، طائرات مسيرة (للمراقبة والرصد وتحديد الأهداف) وصواريخ كاتيوشا لإلحاق الضرر الأكبر بالطرف الآخر.

وتنتشر أسواق بيع الأسلحة في كل المحافظات العراقية بما فيها اقليم كردستان، بعض تلك الأسواق علنية وتعرض موجوداتها من أسلحة واعتدة في محلات خاصة وبعض الأسواق سرية تخفي ما تبيعه، فيما تجري الكثير من عمليات البيع والشراء عبر تجار ووسطاء يتواصلون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كما في سوق “مريدي” الشهير في بغداد وسوق الأسلحة في محافظة ذي قار جنوب البلاد.

وكشف الشريفي عن اختلاف أسباب اللجوء للسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل من قبل العشائر، قائلاً إن الأمر يتعلق أحياناً “بصراع كبير على النفوذ في المناطق الغنية بالنفط والسيطرة عليها من أجل ابتزاز الشركات العاملة فيها، وأحياناً بخلافات مالية نتيجة مضاربات أو خلافات حول أمور تافهة بسبب تعليق على مواقع التواصل الاجتماعي أو خلاف بين أطفال عائلتين”.

وتسجل في المحافظات الجنوبية الثلاث، البصرة وميسان وذي قار، غالبية النزاعات المسلحة، التي حددها مصدر نيابي بـ321 نزاعاً خلال عام 2020 بينها 140 في البصرة.

وسجلت محافظة ذي قار عام 2021 أكثر من 50 نزاعاً عشائرياً مسلحاً، كما سجلت خلال النصف الأول من العام الحالي أكثر من 30 نزاعاً، تعرض في أحدها (21 نيسان 2022)، ضابط في الجيش برتبة عميد إلى إطلاق نار بواسطة سلاح قناص أدى إلى مقتله في الحال، وكان ذلك خلال محاولته إيقاف نزاع مسلح بين عشيرتين شمال شرقي الناصرية، تخلله أيض إحراق منازل ومضايف ومقتل أشخاص. 

في المقابل، سجلت محافظة ميسان في الأشهر الاولى من عام 2022 نحو 13 نزاعاً عشائرياً استخدمت فيها الأسلحة، من بينها نزاع عشائري طاحن مطلع نيسان/ أبريل 2022، بين عشيرتين في ناحية العزير جنوب المحافظة، خلّف 8 قتلى وعدداً من الجرحى، وهو الأعنف حتى الآن. 

وفي بغداد، سجلت القوات الأمنية 11 نزاعا عشائرياً مسلحاً منذ مطلع العام الحالي 2022 وحتى شهر أيار/ مايو المنصرم، سقط على إثرها 35 شخصاً بين قتيل وجريح. 

وعلى رغم الخروقات الأمنية وتكرر لجوء العشائر إلى السلاح لمواجهة بعضها بعضاً بخاصة في محافظات الجنوب كالبصرة، يؤكد قائد العمليات فيها اللواء الركن علي الماجدي “انخفاض وتيرة النزاعات العشائرية المسلحة في المحافظة خلال الفترة الأخيرة”.

وفيما يبين إحكام السيطرة الأمنية في معظم المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية متكررة، يقول إن “الأجهزة الأمنية في البصرة مستمرة في ملاحقة واعتقال المتورطين في تلك النزاعات إذ اعتقلت أكثر من 1000 شخص خلال الأشهر الأولى من عام 2022”.

ناشط من البصرة رفض الاشارة الى اسمه، علق على عدد المعتقلين بسبب النزاعات العشائرية في محافظته، قائلا إن ذلك الرقم كما الوقائع على الأرض تؤكد حجم النزاعات والى أي مدى أصبحت العشائر تستسهل اللجوء الى الأسلحة لمواجهة بعضها البعض حتى في الخلافات العادية.

ويُرجع الناشِط السبب الى تراجع السلطة الأمنية للدولة وعدم خشية رجال العشائر من تطبيق القانون عليهم. ويضيف “السلاح منتشر في كل مكان، ونحن صرنا نحذر أبناءنا وأصدقاءنا وأهلنا من مغبة الدخول في أي جدل أو خلاف مع أي شخص خوفاً من تحوله الى نزاع مسلح”.

ولا يُخفِ قائد قوات فرقة الرد السريع الفريق ثامر محمد، مخاوفه من تطور النزاعات العشائرية من خلال استخدام الأسلحة المتوسطة والثقيلة، مبيناً أن “النزاعات العشائرية تطورت مع وجود الأسلحة وسهولة الحصول عليها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الأمن المجتمعي”. 

وفيما يطالب الفريق محمد القضاء بـ”مساندة المنتسبين والضباط في تنفيذ الواجبات على اعتبار أن بعض العشائر تحاول التأثير على القرار الأمني بطريقة وأخرى”، كشف عن عثور قواته في محافظة ميسان مطلع العام 2022، على أعتدة تابعة لإحدى العشائر كان يضم اسلحة خفيفة ومتوسط وثقيلة وكذلك ألغام أرضية”.  

واطلع معد التقرير على دراسة لقسم شؤون العشائر في وزارة الداخلية، قسمت أسباب ارتفاع وتيرة النزاعات العشائرية إلى ثلاثة محاور، الأول هو السلاح المتفلت والذي تعمل الجهات الامنية على حصره بيد الدولة، والثاني يتعلق بمحاولة الاستحواذ على الأراضي الزراعية وتحويلها الى نفطية، والآخر هو انتشار تجارة المخدرات التي تدر أرباحاً كبيرة وتتسبب بنزاعات بين أفراد العشيرة الواحدة.

برلمانيون يلجأون إلى سلاح عشائرهم

لا ينحصر اللجوء الى العشيرة وسلاحها بالمواطنين فحسب، بل يشمل ذلك الكثير من المسؤولين في الدولة بل وحتى أعضاء مجلس النواب الذين يعتمدون على عشائرهم لمواجهة المشكلات أو المخاطر التي تتهددهم.

في آخر لجوء الى العشيرة، تجمع العشرات من أبناء عشيرة النائب المستقل باسم خشان، وهو محام يؤكد دعمه لقوة الدولة والقانون، وذلك عقب إعلانه عن تعرضه لهجوم مسلح من أشخاص تابعين للتيار الصدري.

ويعرف عن خشان انتقاده التيار الصدري، وكتب محذراً من لجوء التيار للضغط على القضاء لحل البرلمان. لكنه بدوره وبدلاً من أن يلجأ إلى القانون عقب تعرضه للاعتداء، توجه إلى عشيرته.

وتجمع مسلحون وهم يطلقون هتافات أمام “مضيف” عشائري في محافظة المثنى، بعدما دعت عشيرة النائب أبناءها إلى التجمع مع “حمل السلاح” في استعراض للقوة ولتأكيد جاهزيتها للرد على أي طرف “يعتدي” على ابنها. وعادة ما ترافق هذه الاستعراضات عمليات إطلاق نار كثيفة. ويتطور الأمر أحياناً الى مواجهات مع الطرف الآخر. 

دعوات للسيطرة على السلاح المتفلت

يشدد عضو لجنة حل النزاعات العشائرية في ميسان عيسى الناجي، على ضرورة إنهاء ظاهرة اللجوء للأسلحة لفض النزاعات العشائرية عبر تقوية حضور الأجهزة الأمنية وسلطة القانون.

ويرى إن “قوة الشرطة والأجهزة الأمنية تأتي من قوة الدولة ويجب أن تقف جميع الأحزاب كما السياسيين مع الدولة لمساعدتها على بسط الأمن والقضاء على النزاعات العشائرية التي خلفت المئات من القتلى والجرحى”. 

ويدعو عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية السابق، كاطع الركابي، الحكومة العراقية الى إعداد استراتيجية جديدة، للسيطرة على سلاح العشائر المتفلت ونزعه بأي طريقة كانت كاشفاً عن امتلاك بعضها طائرات (الدرون) المسيرة التي يعتقد أنها تستخدم فيما يعرف بـ”الدكات العشائرية”.

والدكات العشائرية، ظاهرة عشائرية انتشرت في العراق عقب 2003، وتتمثل بهجوم يقوم به عناصر مسلحون تابعون لعشيرة، على منزل شخص بسبب خلاف ما، ويطلقون عليه النار أو في الهواء كوسيلة ضغط لكي يرضخ الطرف الآخر. 

وتابع: “منذ وقت طويل ونحن ننادي ونشدد على ضرورة أن لا تكون العشيرة بديلاً عن القانون بأي حال من الأحوال بل داعمة للقانون وتطبيقه”.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 ومع تزايد النزاعات العشائرية، تحركت السلطة القضائية بدعم من وزارة الداخلية لتشديد العقوبات، فعدت “الدكات العشائرية” من الجرائم الإرهابية. وأكد مجلس القضاء الأعلى أن المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب الذي أُقر في عام 2005 تنص على أن التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أياً كانت بواعثه، يعد من الأفعال الإرهابية.

ولم تتمكن سبع حكومات متعاقبة بعد تغيير النظام عام 2003 من تنفيذ وعودها بتطبيق مشروع حصر السلاح بيد الدولة، هذه العقدة التي باتت تمثل أخطر الملفات التي تواجهها الحكومات العراقية وستشكل تحديا للحكومة المقبلة في بلد تباع فيه الأسلحة بالسوق السوداء منذ العام 2003، يقول الركابي. 

من جهة ثانية، يشدد المحلل العسكري فاضل أبو رغيف على أهمية إعادة العمل بقرار حكومي سابق يقضي بشراء الأسلحة بأسعار تنافسية من أجل سحبها من الأهالي والعشائر، داعياً إلى “محاسبة كل من يثبت بالدليل امتلاكه ترسانة أسلحة متوسطة وخفيفة بغض النظر عن مكانته الاجتماعية والحزبية”.   

وتابع، “السلاح المتفلت الذي فاقم ظاهرة النزاعات العشائرية، يحتاج إلى معالجات اجتماعية وأمنية، كتحميل قيادات العمليات والشرطة في المحافظات التي تسجل فيها نزاع عشائري مسؤولية ذلك، واذا ثبت وجود ظاهرة الاستعراض بالسلاح في مجالس العزاء أو المناسبات الاجتماعية، تتحمل تلك القيادات المسؤولية، إضافة الى شيخ العشيرة”. 

ودعا أبو رغيف وزارة الداخلية الى “إعادة النظر في جميع مكاتب بيع الأسلحة المرخصة والغائها وتجميد العمل بمختلف هويات حمل وحيازة السلاح الممنوحة للمواطنين لأنها تشكل تهديداً للأمن المجتمعي والسلم الأهلي”.

بينما تشدد الجهات الحكومية على قوة إجراءاتها للسيطرة على النزاعات، انتشر فيديو لأشخاص يرتدون اللثام يعلنون عن تشكيل فصيل عشائري مسلح لمواجهة عشائر أخرى في منطقة أبي صيدا في محافظة ديالى.

وتشهد ناحية أبي صيدا منذ سنوات نزاعات عشائرية كبيرة أدت الى تقسيم المنطقة الى ما يشبه القواطع التي تحكمها عشائر. وتلك النزاعات التي خلفت ضحايا تسببت بنزوح مئات العائلات، وتزايدت حالات طلب موظفين نقلهم إلى مناطق أخرى.

يعلق الناشط علي عباس على ذلك بالقول “مع الحديث عن عودة داعش إلى نشاطه، وفي ظل حقيقة ضعف الحكومة وسطوة الميليشيات التابعة للأحزاب، وحاجة أطراف الصراع الشيعي الحالية لتأييد العشائر، فإن قوة العشائر ستبرز بشكل أكبر”.

ويردد بلغة ساخرة مبتسماً: “بعد أشهر ربما سنجد أن كل عشيرة ستعلن عن فصيل مسلح خاص بها لفرض نفسها وضمان امتيازاتها وحماية مكتسباتها”.

أنجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.