fbpx

انطباعات زائر لسجن متحف أولوجانلر في أنقرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت تجربة مؤثرة تلك التي حدثت معي، قبل سنوات قليلة في أنقرة، حين دخلت إلى سجن أنقرة القديم (أولوجانلر) الذي تحول إلى متحف، وتجولت في ممراته وباحاته ومهاجعه وزنزاناته الانفرادية. دخلت زائراً، لا سجيناً، فرأيت السجن للمرة الأولى بعين جديدة، كمن يشاهد فيلماً سينمائياً يصور أماكن من طفولته طواها النسيان…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت تجربة مؤثرة تلك التي حدثت معي، قبل سنوات قليلة في أنقرة، حين دخلت إلى سجن أنقرة القديم (أولوجانلر) الذي تحول إلى متحف، وتجولت في ممراته وباحاته ومهاجعه وزنزاناته الانفرادية. دخلت زائراً، لا سجيناً، فرأيت السجن للمرة الأولى بعين جديدة، كمن يشاهد فيلماً سينمائياً يصور أماكن من طفولته طواها النسيان.
حافظت إدارة المتحف على كل موجودات السجن كما تركها السجناء والسجانون، للمرة الأخيرة، قبل سنوات، أو هذا ما أرادت إدارة المتحف أن توحي به للزائرين. الأسرّة الحديدية بطابقين مع فرشاتها وبطانياتها ووسائدها، مواقد الشاي وأباريقه وكؤوسه والمقاعد الصغيرة المنخفضة، الحمّام بطاسات سكب الماء والقباقيب، أدوات الطعام، مناشف معلقة على مسامير مغروزة في الجدران، بيجامات بعض النزلاء تركوها ورحلوا، أسماء وكتابات محفورة في كوات الزيارات الضيقة، والمشنقة!
المشنقة الخشبية ثلاثية القوائم منصوبة في زاوية ضيقة من الباحة، يصل إليها زائر المتحف في نهاية جولته، قبل أن يخرج مجدداً إلى الحديقة المشجرة خارج بوابة السجن. علقت بجانبها لوحة كتبت عليها أسماء مشاهير ممن تم إعدامهم شنقاً: دنيز غيزمش وماهر جايان وحسين إنان، من قادة الحركة الطلابية اليسارية في أواخر الستينات، الذين تم إعدامهم بعد انقلاب 1971 العسكري.
وأضافت إدارة المتحف، إلى الموجودات الأصلية للسجن، عناصر إيحائية وإن كان بعضها ذو ذائقة مبتذلة سقيمة، كحال أصوات الأنين والصرخات الافتراضية لسجناء يتعرضون للتعذيب، سجلت على أدوات تسجيل، تنطلق من زنزانات انفرادية معتمة على طرفي ممر ضيق يثير الرهبة والأسى، أو تماثيل الشمع التي تصور سجناء داخل مهاجعهم وعلى أسرّتهم يحدقون في الجدار أو يسبّحون بسبحات في أيديهم تحصي ثوان ودقائق ممتدة في مدى زمني مفتوح.
غير أن البعض الآخر من تلك الإضافات يرصد جانباً من “التاريخ الآخر” لتركيا الحديثة التي طالما نامت على اضطرابات داخلية عنيفة واستيقظت على انقلابات عسكرية أشد عنفاً. ففي كل مهجع علقت قوائم بأسماء أشهر النزلاء من سياسيين ومثقفين وأدباء وفنانين أمضوا سنوات من حياتهم في هذا المكان الكئيب. بل هناك مقتنيات لبعض منهم كنظارات بولند أجاويد وربطة عنقه، أو بيريه ناظم حكمت، أو سجادة صلاة محسن يازجي أوغلو، أو أوراقاً بخط يد الشاعر الإسلامي نجيب فاضل، أو قطع النقود التي وجدت في جيب دنيز غيزمش، أو كتباً كانوا يقرأونها… وهناك معرض لصور بالأبيض والأسود لأولئك المثقفين التقطت في باحات السجن، وقصاصات من الصحف، تعود إلى تواريخ مختلفة، رصدت أخبار اعتقالات ومحاكم لمشاهير السجناء السياسيين.

تجولت في أرجاء السجن، كمن يعود إلى بيت طفولته أو شبابه المبكر، بمشاعر اختلط فيها الأسى بالحنين ببعض المفاجآت الصغيرة، وكل عنصر أراه يعيدني إلى ما يقابله في سجون مررت بها في بلدي، فأقارن فيما بينها كمن يقارن بين مترادفات لغوية من لغتين أو أكثر. فالسجن هو السجن على اختلاف تفاصيله، والسجناء هم السجناء على اختلاف وجوههم وثقافاتهم وتجاربهم، والسجانون هم أنفسهم في كل السجون، أدوات مبرمجة من قبل مهندس واحد. لا بد لي من استدراك عند هذه النقطة: تتوقف هذه التشابهات حين ندخل في اعتبارنا ما تشهده السجون وأماكن الاحتجاز السورية منذ بداية الثورة في آذار 2011. ولكي لا نبتعد عن موضوع هذه المقالة أكتفي بوصف منظمة العفو الدولية لتلك الأماكن وما يحدث فيها من فظاعات بـ”المسلخ البشري” كما ورد في عنوان تقرير لها صدر في 2017.
يعود قرار تحويل هذا السجن إلى متحف إلى السنوات المبكرة من حكم حزب العدالة والتنمية، حين انتعشت الآمال الاجتماعية في طي صفحات سوداء من تاريخ تركيا الحديث، فكانت هذه خطوة رمزية تبشر بانتهاء الاضطهاد السياسي للمعارضين بسبب أفكارهم وقناعاتهم. كانت القاعدة الاجتماعية للحزب هي، بشيء من الابتسار، ما يمكن تسميته بـ “المظلومية الإسلامية” في ظل العلمانية اليعقوبية لمصطفى كمال وخلفائه. لكنها لم تقتصر على البيئة السنية المتدينة المهمشة وحدها، بل جاءها الدعم من كل المتضررين من الحكم العسكري المديد المغلف بغطاء ديموقراطي هش وشفاف. من ليبراليين وكرد ومثقفين يساريين سابقين وصناعيين صغار طامحين وسكان المناطق العشوائية المحيطة بالمدن الكبرى وريف الأناضول المتعطش إلى الكهرباء والماء وطرق المواصلات.
كان ظهور حزب العدالة والتنمية، في المشهد السياسي التركي، استعادة لتقليد يخترق تاريخ تركيا الحديث بكامله: “الحزب الآخر” الذي يستقطب التوق الاجتماعي إلى التحرر من “النظام” الذي صنعه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال، وكان أول تجلياته – للمفارقة – حزب الحرية والائتلاف الذي أوعز بتأسيسه أتاتورك نفسه ليظهر نظامه في مظهر تعددي، ولم تمض أشهر قليلة حتى أوعز بحله حين رأى الشعبية الكبيرة التي حاز عليها بلا مجهود كبير.
وشكل الحزب الديموقراطي الذي أسسه كوادر من قيادات الحزب الحاكم (مندريس وبايار) الحلقة الأبرز في هذا التقليد، ففاز بالسلطة لكامل عقد الخمسينات قبل أن يطيح به أول انقلاب عسكري في تاريخ تركيا الجمهورية (1960). تجاوز حزب العدالة والتنمية، فيما علقت عليه من آمال اجتماعية، كل التجارب السابقة في هذا الخط، وحقق إنجازات لافتة في ميادين الاقتصاد والحريات العامة ومساعي الحل السلمي للمشكلة الكردية المزمنة والانفتاح على العالم، فبلغ ذروة صعوده في العام 2007، لينتقل بعد ذلك إلى طور الانحدار والتردي المتفاقم عاماً بعد عام. وهو يبدو اليوم مجرد حزب الرئيس المتمسك بالسلطة المطلقة إلى الأبد.
قبل أيام حكمت إحدى المحاكم على عدد من الصحافيين والمثقفين بالسجن المؤبد مع التشديد، باتهامات مفبركة حول صلتهم المفترضة بجماعة فتح الله غولن التي أعلنتها السلطة “منظمة إرهابية” في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز 2016. أبرز هؤلاء المتهمين الأخوين أحمد ومحمد آلتان ونازلي إليجك، وثلاثتهم مثقفون علمانيون طالما ناهضوا، بأقلامهم، الوصاية العسكرية على الحياة السياسية، وساهموا في تقويضها.
كتب طه آكيول، في تعليقه على تلك الأحكام الكيدية الجائرة قائلاً، “بعد إلغاء عقوبة الإعدام، أصبح السجن المؤبد هو العقوبة القصوى المطلقة في قانون العقوبات التركي. فإذا حكم على هؤلاء المثقفين بهذه العقوبة، فبم يمكن الحكم على الضباط الذين قادوا العملية الانقلابية والطيارين الذين قصفوا مبنى البرلمان والجنود الذين أطلقوا النار على مدنيين وقتلوهم؟
في أحد مهاجع متحف – سجن أولوجانلر قرب قلعة أنقرة، تماثيل شمع تمثل سجناء يتوزعون الأسرة ذات الطابقين. منهم من تجمعوا في مجموعات ثلاثية أو ثنائية يتبادلون الحديث، ومنهم من يجلسون أو يضطجعون وحدهم. أحد هؤلاء يمسك بجريدة يقرأها، وآخر يلاعب سبحة بين أصابعه. لكن أكثر من لفت نظري هو ذاك السجين الذي يحدق في الجدار الفارغ.
جاء في أحدث تقارير منظمة العفو الدولية حول وضع الحريات في العالم، أن المجتمع التركي يمارس رقابة ذاتية عالية خوفاً من التعرض للاضطهاد، سواء بالاعتقال والأحكام القضائية الجائرة، أو بالطرد من العمل الذي شمل 107000 شخصاً منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة. فتتم إزالة تدوينات وتغريدات ناقدة على وسائل التواصل الاجتماعي تجنباً للمحاسبة.
المجتمع التركي، اليوم، يشبه ذلك السجين الذي يحدق في الجدار وهو يعد الأيام والسنوات بانتظار فرج قد يأتي به القدر.

[video_player link=””][/video_player]