fbpx

المناطق الشعبية في مصر: “الوصمة” التي تطارد محمد رمضان ونجوم المهرجانات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعكس رمضان واقعًا مصريًا بحتًا، تراه جليًا حين تغادر المناطق الراقية إلى أطرافها المهمّشة، أو البعيدة عن قبضة السلطات الأمنية، والقريبة منها أحيانًا، الرجل الذي يذبح رجلًا آخر في عرض الطريق، والشاب الذي يسير حاملًا ساطورًا غير آبه بأي شيء مما يجري حوله، والمشاجرات العامرة بالأسلحة البيضاء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن الممثل  والمغني محمد رمضان يومًا سوى أحد وجوه المناطق الشعبية المصرية، التي ساهمت في نجاحه لأنه قدّم جانباً من حياتها في أعماله، داعب به مَن يسمّون في الحياة اليومية بـ”السرسجية” عبر تحويلهم من شخصيات هامشية مكروهة في الأفلام والمسلسلات، كما جرت العادة، إلى بطل يتهافت عليه الجميع، ثري، تحبه النساء، ويقاوم رجال الطبقات الراقية سحره وسطوته. 

و”السرسجية” هو المسمّى الذي يُطلق على نوعيات مختلفة من أبناء المناطق المهمّشة في المدن، الذين حوّلوا تهميشهم إلى ذريعة لإنتاج ذوق شعبي، وإطلالات، وأغنيات سُميت فيما بعد “المهرجانات”، وخلق عالم موازٍ له قوانينه وقواعده وما يلائمه… وكأن رمضان كان صرختهم الحرة للتعبير عن أنفسهم، وواقعهم. 

اختصر رمضان المنطقة الشعبية وعرضها في مسلسلاته، التي لاقت رواجًا هائلًا خلال شهر رمضان على مدار السنوات الماضية، وقدّم نماذج منها، تكشف مقاطع الفيديو والحوادث التي تُنشر في الصحف المصرية، أنها حقيقية، بينما يتجاهل الإعلام وتتناسى الكثير من الخطابات الرسمية وجودها. 

تتزايد شعبية رمضان، ويتّضح ذلك في مرات استماع أغنياته، التي ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحقق مئات الملايين من المشاهدات، حتى أنه حين بدأت حملة ضد إقامة حفل غنائي له بالإسكندرية، زارها منفردًا دون حراسة، والتفّ حوله الجمهور في الشوارع يطلب التقاط الصور معه، أو يزفّه إلى وجهته. هناك من يحبّونه للغاية، كما أن هناك من يكرهون الفكرة التي يؤسس نجوميته عليها (العنف والبلطجة والشعبوية المفرطة) فطردوه من إحدى مقاهي المدينة الغارقة في حضاراتها وفنونها القديمة وكلاسيكيتها. 

وهو الموقف الذي يتبناه البعض من المناطق الشعبية ونجومها، الذين خرجوا منها حاملين أشكالًا وصيحات فنية تنال استهجان روّاد الفن التقليدي كالموسيقي حلمي بكر، الذي يعجب ببعض الأصوات الشعبية، ويهاجمها لاستخدام ألفاظ وكلمات نابية، دون مراعاة أن تلك الألفاظ هي جزء أصيل من ثقافتهم ونمط حياتهم والخلفيات التي قَدِموا منها.

رمضان… بطل المهمّشين

يعكس رمضان واقعًا مصريًا بحتًا، تراه جليًا حين تغادر المناطق الراقية إلى أطرافها المهمّشة، أو البعيدة عن قبضة السلطات الأمنية، والقريبة منها أحيانًا، الرجل الذي يذبح رجلًا آخر في عرض الطريق، والشاب الذي يسير حاملًا ساطورًا غير آبه بأي شيء مما يجري حوله، والمشاجرات العامرة بالأسلحة البيضاء، ومطاردات الدراجات النارية والسيارات. 

لم يخترع رمضان تلك المشاهد في أفلامه، بل نقلها من واقع تتجاهله شاشات التلفزيون وتحاول طمسه. وقُرب رمضان من الشارع، من حيث الشكل والمضمون، هو الذي جعله يتصدر شباك التذاكر، فحين يتكلم يقول كلامًا كثيرًا عن “الرجولة” و”الجدعنة” و”شهامة” أولاد البلد، ثم تجد أفعاله – في حقيقتها – مخالفة تمامًا لما يروّجه عن نفسه، وبدا ذلك في واقعة الطيار الراحل، الذي تسبّب في طرده من الخدمة، وهي إحدى سمات شباب المناطق النائية، التي تبدو واضحة تمامًا في أغنيات المهرجانات.

يعيد رمضان إنتاج القديم والتقليدي من أخلاق المناطق الشعبية كالتقليل من شأن المرأة، والتعامل معها باعتبارها سلعة، والسخرية من المثليين جنسياً واضطهادهم.

تسلسل أغنيات المهرجانات، في الغالب، يبدأ بلوم صديق على غدره، ثم وصلة من الكلمات حول “الشهامة والرجولة” وما يجب أن تكون عليه العلاقة باعتبار ما كان بينهما، ثم إعلان الجرأة والقدرة على أخذ الحق لكن “أخذ الحق صنعة”، ثم العفو عنه أو الانتقام. وهكذا تتشكّل أغنيات ومسلسلات رمضان، غدر من صديق أو حبيب أو رفيق سابق، ثم رحلة لإعادة الأمور إلى نصابها مخلوطة بالكثير من الملاسنات حول تاريخ العلاقة الذي ما كان يجب أن ينتهي هكذا. 

عرضها في الأفلام، ثم المسلسلات، ثم مع صعود موجة المهرجانات و”الراب” اتّجه إلى مداعبتهم عبرها، فنجد أغنياته جميعها تنتمي إلى هذا النوع من الموسيقى، بينما كلماتها خليط من التعبير عن الخطورة والشجاعة والإقدام والاعتزاز بالنفس، وهو ما يسعى جميع أبناء المناطق الشعبية إلى تأكيده في جميع شعاراتهم وتحركاتهم، يقول: أنا مافيا، ويؤكد: أنا الملك، ويتحدّى الجميع بـ”نمبر ون“، وأخيرًا، ردَّد الشعار الذي يرفعه أغلب رجال المناطق الشعبية: “مبنمشيش جنب الحيط، احنا بنمشي في نص الشارع”.

“الألماني” يغادر منطقته الشعبية!

حين غادر رمضان مساحة الأعمال الفنية التي تعرض مجتمعات البلطجة والمنطقة الشعبية، انصرف عنه الجمهور، فكأنّ رفعه إلى السماء كان مكافأة له عن التعبير عنهم بالشكل الذي يريدونه، أو الذي يعرفونه عن أنفسهم. 

بدأت أسطورة رمضان بفيلم “الألماني” الذي حقق نجاحًا جماهيريًا مدهشًا لرمضان نفسه، لأنه عرض جانبًا من حياة المناطق الشعبية، فأصبح بطل الفيلم رمزًا يعبّر عن كل شباب تلك المناطق، أخذوه رمزًا، وردّدوا مصطلحاته وجمله، وكتبوها على جدران الشوارع، وكذلك لصقوا صوره على “التوك توك”، ليستمر نجاحه بتقديم “قلب الأسد” و”عبده موتة”، ومسلسل “ابن حلال” ثم “الأسطورة”. وهي أدوار بلطجة من الدرجة الأولى، وصلت إلى حد تقديم مشهد شائع في تلك الأوساط، وهو إجبار رجل على ارتداء قميص نوم أحمر والسير به في الشارع، بعد هزيمته في معركة مع ناصر الدسوقي، باعتبار ارتداء قميص النوم شيئًا أنثويًا، وتشبه الرجال بالنساء – في تلك الأوساط الشعبية – ذلًا كبيرًا، كما أن اللون الأحمر لقميص النوم ينطوي على بُعدٍ جنسي، باعتبار من يرتديه مفعول به يغري الفاعل. 

يعيد رمضان إنتاج القديم والتقليدي من أخلاق المناطق الشعبية كالتقليل من شأن المرأة، والتعامل معها باعتبارها سلعة، والسخرية من المثليين جنسياً واضطهادهم، والترويج للتحرش والتسليع، والتضامن مع الصديق مهما كان مخطئاً، والتدخل في شأن الغير، وفرض السيطرة، وتحدّي القانون والتسفيه بمن يحتمي به، وهي منظومة القيم التي راكمتها تلك الطبقة الاجتماعية بمرور الوقت، وهمّشتها الأنظمة السياسية ومنعت ظهورها على شاشات التلفزيون أو السينما لسنوات، لارتباطها بالتمرد على الحكومة وتحدّي أجهزة الأمن، حتى ظهرت بشكل عابر في فيلم “حين ميسرة” ثم “إبراهيم الأبيض” قبل تصدّر محمد رمضان الساحة، وهو الذي أحالها بأفلامه مع “السبكي” إلى خط إنتاج، وليس حالة عابرة، وسر نجاحه في ذلك أنه جعلها صديقة للدولة، فلم يكن في مسلسلات وأفلام رمضان التمرّد على الدولة، أو تحدي الشرطة، كان فقط صراعًا تطارده أجهزة الأمن وتنتصر عليه عبر إيداع المجرمين السجون، فالكثير من شخصيات محمد رمضان يُلقى بها في السجن، ثم يخرج ليثأر ممّن ظلموه. هكذا صارت أفلام ومسلسلات البلطجة صديقة للأنظمة السياسية، بعدما كانت صرخة تمرّد ضدها. 

استمر الشباب الباحث عن صورة “البطل الشعبي” القادم من الحواري والمناطق الشعبية في دفع محمد رمضان إلى الأمام باعتباره نجماً ورمزاً لتلك الطبقة، حتى قرَّر رمضان، تحت ضغط كثيرين أقنعوه أنه ممثل جيد، أن يقدم أدوارًا جادّة بدلًا من أن يصنع تاريخًا عامرًا بأعمال فنية بلا قيمة تهدر موهبته وتظهره كجملة اعتراضية في تاريخ الفن، وليس عنصرًا أساسيًا وفاعلًا. 

جمهور العشوائيات يخلع بطله الأول

سلك رمضان طريقًا آخر وكأنه يغسل سمعته من أعماله السابقة، فغادره جمهوره، ولم تنجح أعماله الجديدة في شباك التذاكر. حاول ركوب موجة أفلام الشرطة والإرهاب، التي كانت مطلباً من أجهزة سيادية في ذلك الوقت، فقدم “شد أجزاء” و”جواب اعتقال” و”الكنز” بجزئيه الأول والثاني، ولم يعد بتلك النجومية السابقة، لم تنجح الأفلام الأربعة النجاح الذي كانت تحققه أفلام البلطجة والمناطق الشعبية والعنف، ذلك لأن الجمهور الذي كان يستهدفه رمضان، لم يعد يدين له بالولاء. 

التوجّه الفني الجديد للدولة، التي يعمل ضمنها رمضان حاليًا عبر الذراع الفني لها، منتج مسلسلاته، “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية”، لا يدعم أعمال البلطجة والعنف لأسباب سياسية واجتماعية كعدم إظهار المجتمع بمجموعات من الدهماء والبلطجية وتقليل حِدة التمرد في الشارع والحد من فكرة البطل الشعبي الذي يحارب الجميع حتى لا تأخذ بعداً خطراً، وهو ما دفع رمضان إلى تغيير وِجهة مسلسلاته الرمضانية، فبعدما كانت كلُ حلقة منها تحتوي مشهداً لافتاً يثير الجدل، أو معركة شارع كالتي كان بطلها “قميص النوم الأحمر”، لم تعد مسلسلات رمضان حاضرة في النقاشات أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

كان رمضان – في أفلامه – صورة طبق الأصل من حياة المناطق العشوائية وشبابها، ولم يعد كذلك، ولأنه يعرف حجم ذلك الجمهور وقيمته التسويقية في بناء جماهيريته كنجم، صار يداعبه بغناء شكل فني يجمع ما بين الراب والمهرجانات بكلمات مستوحاة من خطاب الطبقة الكادحة وثقافتها القائمة على البلطجة والتحدي.

لجأ رمضان إلى مسلسلات، بعيدة عن عوالم البلطجة والمناطق الشعبية ومشاجرات الشوارع، ففي مسلسل موسى الذي لم يحقق نجاحًا جماهيريًا، قدم قصة من تاريخ الصعيد لشخص يناضل ضد الإنجليز وهي التيمات التي لم تعد جذابة، وفي مسلسل المشوار، جاءت قصته الرومانسية مفكّكة، فلم تلفت أحداً. 

كان رمضان – في أفلامه – صورة طبق الأصل من حياة المناطق العشوائية وشبابها، ولم يعد كذلك، ولأنه يعرف حجم ذلك الجمهور وقيمته التسويقية في بناء جماهيريته كنجم، صار يداعبه بغناء شكل فني يجمع ما بين الراب والمهرجانات بكلمات مستوحاة من خطاب الطبقة الكادحة وثقافتها القائمة على البلطجة والتحدي، وهو ما أدى إلى تقلّص حجم جمهوره الذي يقاتل من أجله، ويستعين بكلمته، ويلصق صورته على هاتفه وسيارته وغيره. كان ذلك الجمهور جارفًا إلى الحد الذي لا يسمح لأحد بالوقوف أمامه، لكن إلغاء حفل رمضان بالإسكندرية مؤخرًا، بعد الحملة الشعبية التي أقيمت ضده، وضعف الإقبال على شراء التذاكر، يكشف أن جمهور المناطق الشعبية لم يعد وفيًا له، ولم يعد مستعدًا لدخول معارك نيابة عنه فلم يعد رمضان بأفلامه ومسلسلاته الحديثة قريباً منهم، بل صار بصوره ومقاطع الفيديو المرفّهة التي ينشرها عبر حساباته يشعرهم بالمسافة الواسعة بينهما، وعدم مراعاته ظروفهم الصعبة… صاروا يشعرون أنه لم يعد واحدًا منهم، مهما حاول ادّعاء ذلك.

يرى الناقد المصري طارق الشناوي، أن السينما والدراما لا يشكلان واقعًا، ولا يقدران على توجيه مجموعة بشرية إلى اعتناق سلوك محدد، ويقول لـ”درج”: “السينما المصرية، في الغالب، تنقل ما يحدث في منطقة محددة، أو في سياق معين، إلى الشاشة، ولا تنتمي إلى نوعية السينما التي تقدم فانتازيا أو واقع غير موجود في محاولة للدعاية له، أو ترويجه”. 

ويضيف: “حين عُرض فيلم إبراهيم الأبيض، اتُهم بنشر وترويج وتطبيع العنف لدى الناس، ولكن الحقيقة أن هذا العنف كان موجودًا في بعض المناطق، ويعيشه الناس يوميًا، وكان الفيلم استجابة مباشرة للعنف السائد في العالم في ذلك الوقت، وموجة العنف والبلطجة الخاصة في أفلام محمد رمضان، هي انعكاس للواقع الاجتماعي في المناطق الشعبية والعشوائيات”. 

ويؤكد أن “الشخصيات التي قدّمها رمضان، كنا نراها في الشارع قبل ظهوره، وليست جديدة، والحقيقة أن الواقع في مصر دائمًا يسبق السينما والدراما وليس العكس، الكثير من المشاهد في أعمال رمضان، أو أعمال العنف والبلطجة بشكل عام، مأخوذة من حوادث تم تصويرها بالهواتف، ودائمًا المناطق الشعبية في مصر تنتج ظواهر جديد وغريبة، الكثير منها عنيف، وذلك يتعلق بزخم الحياة فيها والتحديات الكثيرة التي تواجهها”.  

المهرجانات تعبّر عن المهمّشين

كانت موسيقى المهرجانات إحدى إفرازات المناطق الشعبية في مصر، التي تعبر بشكل كبير عن كبت اجتماعي، فهي تعبير عن ظواهر متفشية في المجتمع، فكلماتها ليست قادمة من مجتمع آخر، إنما هي جزء من الوعي الجمعي المصري، وبها نجح محمد رمضان في الحفاظ على جزء من جمهوره “الأصلي” حتى الآن.. لكن هل كانت المهرجانات إفرازًا للمناطق الشعبية، أم ساعد رمضان في صناعتها أو انتشارها؟

سبقت المهرجانات ظهور رمضان، وحاول أن “يركب موجتها” لمداعبة شريحة لا يريد خسارتها بغناء كلمات تناسبهم. وأغلب الانتقادات الموجّهة للمهرجانات هي انتقادات لكلماتها ومحتواها. أغلب محتوى المهرجانات يحرّض على العنف، والتنابذ بالألفاظ البذيئة والتحرش، فيما تعدّ تلك المخالفات هي الأكثر حضورًا في المجتمع المصري حاليًا، وقائع التحرش تغزو الشوارع، بل إن التعاطي المصري مع تطبيقات جديدة كـ”تيك توك” خلق تطبيعًا مع التحرش، وزيّف وعي أجيال جديدة من الفتيات فيما يخصّ قضية التحرش، إذ صرن جزءًا من مقاطع فيديو عامرة بالتعدي على مساحاتهنّ الشخصية

تشير المهرجانات إلى فن الهامش، البعيد تمامًا عن الفن الجمعي الرائج، والمتمحور حول محتوى رومانسي. فن الهامش (المهرجانات) هو تعبير حقيقي وانعكاس لما يحدث في الشارع بالمناطق الشعبية. وتشير نشأة المهرجانات إلى أنها خرجت من حواري الإسكندرية القديمة، من مناطق كالعجمي والمكس، مسقط رأس فرقة “الدخلاوية”، التي أنتجت “مهرجان الدخلاوية“، أول مهرجان صدر في مصر، وبدأت المهرجانات نهاية عام 2007، باعتبارها نوعًا من المعارضة لأوضاع سيئة تعيشها الطبقات الأدنى في ظل نظام مبارك الذي سقط خلال ثورة 25 يناير 2011، وتمحور مضمون الأغنيات الشعبية، في ذلك الوقت، حول مشكلات الفقر والتهميش والمخدرات والصداقة والخيانة بين الأصدقاء. 

تتسم المناطق الشعبية بالضوضاء والأصوات المزعجة، فكان يلزمها موسيقى خاصة بها تطغى.. احتياج اجتماعي أدّى إلى ظهور المهرجانات في المناطق المهمشة، التي كان شبابها يريدون التعبير عن آرائهم في أوساط اجتماعية مغلقة ومحبطة، وكما كانت موسيقى الجاز هي صرخة الأمريكيين السود خلال ثورتهم للمطالبة بحقوقهم المدنية، كانت المهرجانات صرخة المناطق المهمشة في مصر لإثبات الوجود على الخريطة المصرية، خاصة أن الموسيقى المصرية كانت، في ذلك الوقت، تبتعد تمامًا عمّا يشغل الشارع، والفرق الموسيقية الجديدة كانت غارقة في أغنيات رومانسية، كما أنّ الخوف من غناء كلمات مختلفة أو سياسية أو متمرّدة كان يبعد المطربين المشهورين عن أي تجديد يحتوي على كلمات تعبّر عن المهمّشين، فخلقت المناطق الشعبية نجومها، وأفرزت نوعها الموسيقي بمرور الوقت. 

كان هؤلاء النجوم الشعبيون، في عهد مبارك، قادرين على الشكوى، وغناء كلمات متحررة من الخوف، ومعارضة. لم تكن مهرجاناتهم تنتشر في أرجاء مصر، إلا أن الوضع الآن اختلف، صار مؤدّو المهرجانات مشهورين، أغنياتهم تحقق مليارات المشاهدات، تراقبهم السلطات، ويلقى القبض على بعضهم لأسباب مختلفة كما جرى مؤخرًا مع عادل شكل، الذي انتقد إحدى الشركات التابعة للسلطة بسبب شأن رياضي، فألقي القبض عليه بحجة حيازة حبوب مخدرة.

المهرجانات “فن ذكوري” يلوث سمعته “بلطجة” صناعه

الخوف من النقد الاجتماعي والسياسي، الذي قد يقود صاحبه إلى السجن في الظروف السياسية الراهنة، صاغ الشكل الجديد لأغنيات المهرجانات في مصر، فصارت تعبّر، فقط، عن منظومة القيم القادمة من المناطق الشعبية والعشوائية: التحريض على العنف والتحرش وهجاء الأصدقاء الخائنين، فصارت جميع المهرجانات موصومة بكونها “كلمات وأفكار مبتذلة” وليست نوعًا موسيقيًا جديدًا يعبر عن شريحة من البشر، أفرزت موسيقاها وأغنياتها بعيدًا عن الموسيقى الرسمية التي تصدر دومًا بـ”ختم النسر” الخاص بالرقابة. 

نشأة مطربي المهرجانات في مناطق شعبية وفقيرة منحتهم هيئة وذوقاً في ملابسهم وألفاظهم وتعاطيهم مع الفرص المتاحة، يضفي عليهم المزيد من الاحتقار، ومهاجمتهم ومنعهم – من جانب طبقات أعلى اجتماعيًا وماديًا ومطربين مشهورين كنقيب الموسيقيين السابق – هاني شاكر، كما يبدو، ليس السبب الوحيد لها هو الابتذال، إنما لانتمائهم الطبقي ورغبتهم في الخروج عن الدور المرسوم لهم كمهمّشين، حتى يصبحوا نجوماً. وبالتالي فإن استهلاكهم تلفزيونياً عبر ظهورهم في عدة برامج باعتبارهم نجومًا لهم جمهور وقدرة على جذب المعلنين، “يحرقهم” جماهيريًا باستمرار، لأنه إن كانت أغنياتهم “مهرجاناتهم” جذابة بسبب موسيقاها الراقصة، فحديثهم العام يفقدهم التعاطف والمحبة لكونهم طبقة أقل اجتماعيًا لا تجيد الحديث وانتقاء الألفاظ وصناعة “الشخصية الجذابة”، وهو ما يستدعي خطاب مضادًا.. معارض لظهورهم، يستنكر صعودهم السريع، وظهورهم على الشاشات، رغم أن ما يقولونه على الشاشات هو نفسه الذي يقولونه في مهرجاناتهم، لكن المهرجانات تغلب عليها النغمة الموسيقية الجذابة، ونادرًا ما يركز الجمهور في كلماتها ومحتواها.

ويفسّر محمد محي، أستاذ علم الاجتماع، ذلك بأن “المهرجانات فن ذكوري، يمارسه الذكور ويعبّرون به عن أفكارهم ورؤيتهم للعالم كذكور، والحالة التي تحتويها أغلب المهرجانات هي حياة الذكور بالمناطق المهمّشة، الحياة العامرة بالصراعات والتحديات والكبت الاجتماعي والحرمان الجنسي”.

ويقول لـ”درج”: “حين تفكر في بنية أغنيات المهرجانات، ترى أنها ليست فقط متأثرة بالإرث الثقافي وفكرة البلطجة المرتبطة بالعشوائيات، إنما بالوضع الاقتصادي أيضًا، فكلما ازداد سوءًا، تزداد كلمات المهرجانات سوداوية ورثاءً للحال، وعنفًا تجاه الآخرين… أعتقد أنهم يعبرون عن سوء حالهم، وصعوبة حياتهم بالطريقة التي يجيدونها، وباللغة التي يعرفونها، فالمناطق الشعبية في مصر لها لغة خاصة، مختلفة عن لغة الناس في المناطق الراقية، واستخدام الألفاظ النابية في بعض المناطق الشعبية شيء عادي ولا يعتبر عيباً، وبالتالي فهذه هي اللغة التي يفهمونها واعتادوا الحديث بها، ويفهمها مستمعوهم أيضاً”. 

ويضيف: “المهرجانات لا تزال وثيقة الصلة بحياة منتجيها، سواء أكانوا كتاباً أو مؤدين، فلا يزالوا يعبّرون بها عن أنفسهم وحياتهم الصعبة والعامرة بأشكال الابتذال والبلطجة والعنف والانغلاق الديني والظواهر الغريبة”. 

وهو السر الدفين الذي يحمله محمد رمضان ليحافظ على جماهيريته، إنه لا يزال يعبر عن منظومة قيم المناطق الشعبية المصرية، في تصريحاته وأغنياته، ليحافظ على كتلة جمهوره القديم، حتى إن لم يكن مؤمنًا بها، وتتآكل تلك الشعبية كلما أبدى ذلك في منشور أو ظهور أو مقطع فيديو مسرّب، وهو ما جعله فنانًا يعيش على أطلال شعبيته التي شكّلتها “بلطجة” المناطق الشعبية التي قدّمها في أفلامه ليؤكّد أنه ظاهرة تعكس واقعاً اجتماعياً مختلفاً في مصر، حتى وهو يتمرّد على هذا الواقع ويحاول التبرّؤ منه لعلمه أنه يفسده ويلوث تاريخه كفنان، يغازله لأنه لا يقدر على التجرُّد منه تمامًا لكونه أصبح واقعاً مسيطراً على الحياة العامة في مصر ويتوسّع باستمرار كرد فعل على التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.