يوما بعد يوم، تتعمق قناعة الأردنيين بأن بطانة الملك عبدالله الثاني، انسلخوا عن الواقع، ولا يخدمون العرش في شؤون الحكم وإدارة الدولة بمواردها الشحيحة وبنيتها السياسية والاجتماعية الحسّاسة. ولا يجيد مستشارون في الديوان الملكي، ومنفّذو السياسات في طاقم الحكومة، فنون التخاطب مع الشارع والتعاطي مع مطالب الحراك الشعبي ضد وجبة رفع الدعم عن الخبز، وتوسيع ضريبة المبيعات لتشمل سلعاً غذائية أساسية ومحروقات.
بل على العكس، غدت هذه الأذرع عبئاً على رأس الدولة، بعد سلسلة أخطاء فادحة نتيجة سياسات التخبط. المراوحة والدوران داخل حلقات مفرغة، على نحو اجتراري بات يمسّ هيبة الدولة. فوق ذلك، كدّست التعديلات الدستورية – التي أدخلت قبل ثلاث سنوات- السلطات بيد الملك، ما أسهم في تآكل منطقة الآمان العازلة بين العرش والشعب. فصارت الناس تشكو إليه مباشرة، وتسائله عن تداعيات السياسات والتعيينات الرسمية، وسط تأكل الولاية العامّة للحكومة، وضياع صدقية ما تبقّى مما بات يعرف ب “برلمان الألو”.
كل ذلك يعمّق فجوة الثقة بالسلطة.
منذ أقرّ مجلس الأمّة ميزانية 2018 التي أطلقت يد الحكومة لرفع الأسعار، انطلقت احتجاجات شعبية في السلط، الكرك، ذيبان، معان والزرقاء وغيرها من المناطق المهمشة – تقطنها غالبية من أصول شرق أردنية، العمود الفقري للنظام الهاشمي. ووسط شلل ميكانزمات الحكومة، بدأ الحراك يتخذ شكلا ًمناطقياً وقبلياً. وصدحت حناجر الشباب والشابات بشعارات نارية مسّت الملك وعائلته وحمّلته في أحيان كثيرة مسؤولية الفشل الاقتصادي، استشراء الغلاء، انتشار الفقر والبطالة وهدر موارد البلاد دون محاسبة.
الإعلام الرسمي مغيب عمّا يجري في البلاد، فيما يخشى الإعلام التقليدي والمواقع الالكترونية نقل الصورة الكاملة. وسائط التواصل الإجتماعي تحولت أيضاً إلى منصّات لشتم رموز في الدولة بصورة غير مسبوقة، فاقت الاحتقان الذي عاشه المجتمع أيام الحراك بين 2011 و 2013، قبل الردّة على مسار الإصلاحات عبر تشديد القبضة الأمنية، واستخدام الجزرة والعصا مع رؤوس الحراك، واللعب على وتر ترهيب الشعب من الفوضى التي تعصف بدول الجوار.
الرواية الأمنية تشي بأن مآلات الحراك تحت السيطرة حتّى الآن. لكن هناك خشية في أوساط ساسة وحزبيين ومسؤولين من تفاقم الأمور، كما حصل في دول شرق أوسطية أخرى؛ خصوصا لأن حال الأردنيين من سيء إلى أسوأ، وسط تراجع الخدمات العامّة من صحّة وتعليم ونقل؛ وهي أساسيات لفئات الدخل المتدني والمتوسط.
ويتعمق شعور بين ساسة ومسؤولين وحزبيين يوماً بعد يوم، بأن بوصلة المشهد الداخلي لم تعد واضحة، بل تسير صوب المجهول المفتوح على كل الإحتمالات، وسط قلق من تداعيات صفقة العصر التي تطبخ في واشنطن مع حلفاء عرب، وتبدّل موقف دول الخليج تجاه عمان.
لن يسعف الوضع إلا تدخل الملك عبدالله الثاني شخصياً لإطلاق “ثورة بيضاء” في مؤسسات الحكم، وطريقة إدارة شؤون الدولة، بحيث تتماشى مع أوراقه النقاشية التي حدّدت شكل الأردن الجديد ومضمونه لكنها بقيت حبراً على ورق.
فالملك انهمك في إدارة دفّة السياسة الخارجية في ظروف دولية وإقليمية متغيرة وبالغة التعقيد، أبقت الأردن بعيداً عن ويلات المنطقة وخطر الإرهاب الداعشي العابر للحدود. تأتّى ذلك من خلال استراتيجية وضعها الملك وطبقّها بواسطة الأجهزة الأمنية. لكن إنشغاله هذا جاء ربما على حساب أولويات الوضع الداخلي، الذي أدارته حكومات متعاقبة، فقدت جزءا من ولايتها الدستورية لمصلحة مستشارين سياسيين واقتصاديين وأمنيين ترك لهم “الحبل على الغارب”. بعضهم اكتُشف وأقيل، ولكن بعد فوات الآوان.
تراجع هيبة الدولة أجبرت المنظومة الأمنية على التدخل أكثر فأكثر، لحماية الحكومات التي دخلت لعبة تبادل المنافع والمصالح مع رجال تشريع ل”تسليك الأمور”، وإدامة الثقّة الدستورية وسط تفشّي الرشوة والفساد.
في غمرة السخط الشعبي المتناسل في بلد يتأرجح على حافّة الحروب والأزمات في دول الجوار، يبقى ثالوث الثقة الوحيد هو الملك والجيش والشعب. الملك هو الوحيد القادر على إطلاق ثورة بيضاء.
خلال السنوات الماضية، أبدى الملك دراية بأصول لعبة السياسة الخارجية وتوازنات المصالح في إقليم متهاو منذ إنهيار نظام صدام حسين عام 2003 وهبوب رياح ما كان يسمّى ب”الربيع العربي” في مجتمع بالغ التعقيد.
الأردنيون يعانون اليوم من ضنك العيش، مع اتساع الفجوة الطبقية بطريقة مرعبة. أردنيون ينظرون بعدائية تجاه طبقة “الكريما السياسية” التي تتداخل مصالحها مع مصالح القطاع الخاص، وتتقاطع مع ممارسات وزراء ومسؤولين منشغلين بتعيين أقاربهم ومحاسيبهم وتكديس ثرواتهم. الغالبية فقدت الثقة في مؤسسات الدولة باستثناء الجيش.
خلال العقود الماضية لم تتغير أسس تعيين/تغيير الحكومات. ولم تأت من رحم البرلمان كما أراد لها الملك أن تكون قبل سنوات. وفشلت الحكومات في مواجهة التحديات المدنية الحديثة فيما تجاهلت السلطة وعود الإصلاح في دولة قائمة على الرعوية غير المنتجة.
يعكس التعديل الأخير – السادس على حكومة هاني الملقي منذ تشكّلت عام 2016 – مثالا واضحا على أسلوب تغيير رجال وسيدات الصف الأول. أصبحت هذه المعادلة المغلقة أشبه بلعبة الكراسي المتحركة لأسماء وخيارات تتكرر من “العلبة” ذاتها، دون أسس موضوعية في اختيار الوزراء بسبب غياب معايير سياسية؛ أي حكومات برلمانية منتخبة تعتمد على الكوادر الحزبية. لذلك تضيع هوية الحكومات: هل هي تكنوقراط، أم حكومة سياسيين أم مجرد تمثيل جغرافي أم محاباة لمتنفذين؟ بعض الوزراء يأتي عبر بوابة الديوان أو البرلمان أو بتزكية من الأجهزة، أو لضرورات اعتماد صيغة المحاصصة الجغرافية على حساب الكفاءات. في أحد تعديلات الملقي لم يدم وزير النقل في منصبه أكثر من يوم.
التغيير الأخير جاء بعد أيام على اجتياز حكومة د. الملقي اختبار ثقّة بطعم الخسارة، أمام مجلس نيابي أقرّ قبل ذلك بأسابيع بسرعة البرق موازنة 2018. في الحكومة المعدلّة خمس وزراء من مدينة الكرك جنوب الأردن، ربما بسبب الحاجة الى شخصيات قادرة على تطويق الحراك الشعبي.
المرحلة الجديدة تحمل ثلاثة ملفّات رئيسة: تطبيق خطّة التحفيز الاقتصادي، جزء كبير منها قائم على تغيير قانون ضريبة الدخل، وتقليص حجم الإعفاءات الضريبية على مداخيل الناس. وهذا يعني هزّة ثانية بعد هزّة رفع الضرائب غير المباشرة، التي أوصلت الاقتصاد إلى مرحلة الشلل. الملف الثاني يكمن في تجويد الأداء المؤسسي وتفعيل خطّة إصلاح القطاع العام المترهل ما قد يحمل كلف سياسية عالية، فيما يكمن الثالث في مواجهة الاختلالات بالمنظومة القيمية والاجتماعية ومظاهرها المقلقة من عنف وجريمة وتطرف.
مرض الرئيس الملقي المفاجىء وحاجته لعلاج قد يستمر أسابيع، ربما أجبره على قبول نائبين للرئيس دخلوا على وقع إنسحاب وزير المياه حازم الناصر، وهو صاحب أقدمية، وكذلك عتب وزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي شغل سابقا منصب نائب رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي.
النائب الأول للرئيس هو جمال الصرايرة. مهمته محصورة بشؤون رئاسة الوزراء: تنسيق العمل بين الرئاسة والوزارات، وتسريع الإجراءات الإدارية ومتابعة عملية الإصلاح الإداري والتواصل بين الحكومة والبرلمان. وأنيط بالنائب الثاني جعفر حسان – القادم من رئاسة مكتب الملك- إدارة الملف الاقتصادي الذي يمثّل أكبر تحد للحكومة والدولة عموما. كلّف حسّان بتطبيق خطّة التحفيز التي تبنتها الحكومة سابقاً، وفق معايير أداء محدّدة بجدول زمني. وسيتابع أنشطة عشر وزارات معنية مباشرة بالملف الاقتصادي لضمان تحقيق النتائج المرجوة، من داخل الفريق الوزاري هذه المرة بعد أن لعب سابقا – من خلال موقعه في الديوان- دورا رئيسا في صنع السياسات وفي التواصل مع الملقي وفريقه الاقتصادي وأسهم في التأثير على تفاصيل المشهد السياسي.
الصرايرة، وزير ونائب سابق كسب ودّ المجتمعات المحلية في الجنوب الغاضب من خلال صرف ملايين الدنانير، من حسابات خصّصتها شركة البوتاس حين كان رئيسا لمجلس إدارتها، للإسهام في التنمية المحلية. وهو قريب جدا من رئيس مجلس النواب عاطف الطراونه، الذي تتراوح علاقته برئيس الوزراء بين المدّ والجزر. أما حسّان، وزير التخطيط الأسبق في أكثر من حكومة والديبلوماسي السابق، فتخرج من أعرق الجامعات الأميركية. ويقال إنه يعمل ليل نهار بلا توقف لتنفيذ المهام الموكلة إليه باتقان. لكنّه قد يكون بعيدا عن فهم سياق المشهد المحلي والإقليمي. وقد يصطدم مع سياسيين ونواب وبخاصة ممن يصرّ على كسر القانون لخدمة مصالح قاعدته الانتخابية، أو من سيعارض السياسات غير الشعبية التي سيضطر لاتخاذها لسد عجز الموازنة.
ثمّة خشية اليوم من أن يصطدم الصرايره وحسان مع صقور البرلمان والوزارات. أو أن يجد الملقي نفسه بعد أسابيع على رأس حكومتين، الصرايره وحسان.
ما حصل في الديوان الملكي بعد يومين من التعديل الحكومي كان مثالاً آخر على ما اعتبره بعض النواب والساسة إضرارا بهيبة البرلمان من رجال الملك. إذ جمع رئيس الديوان الملكي فايز الطراونة أركان السلطة التشريعية في القصر لحضور “عرض إيجاز” عن التحديّات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجه المملكة. جلس الطراونة، وهو رئيس وزراء أسبق لعدّة مرات منذ 1998، في صدر القاعة بحضور وزيري الخارجية والتخطيط والتعاون الدولي وممثل عن دائرة المخابرات العامة، إضافة لمدير الاستخبارات العسكرية ومدير مكتب الملك الجديد منار الدباس.
بدأ الطراونة بالقول إن هذا اللقاء جاء بأمر من الملك لشرح واقع الأمور عبر الالتقاء “بشرائح المجتمع والوطن” ليبلغ 4,000 شخص؛ “وأنتم شريحة منه”. في ختام الإيجاز، شكر جميع المتحدثين رئيس الديوان على الاستضافة. النائب خالد رمضان كان الوحيد الذي اعترض على تضمين الطراونة أعضاء السلطة التشريعية ضمن توصيف “شرائح المجتمع” مع أنهم سلطة تشريعية مستقلة، بحسب الدستور. ويقول رمضان في مقابلة مع موقع “درج” إنه أبلغ الطراونة أن ذلك “يكسر هيبة مجلس الأمّة المنعقد حاليا”. ثم سأله: كيف غاب عن ذهنه أن نظام الحكم في الأردن “لا يزال نيابيا، ملكيا، وراثيا وليس ملكي، نيابي، وراثي”.
فالسلطة التشريعية مناطة بمجلس الأمّة والملك. ومن المفترض أن يتم هذا الإيجاز في أروقة مجلس الأمّة المغلقة. وأكدّ أنه لن يسمح لنفسه أن يوجّه سؤالا للوزراء للحضور لأن مكان ذلك تحت قبّة مجلس الأمّة. وجاء ردّ رئيس الديوان بأن هدف هذا الإجتماع هو “التفاعل والتشاور”.
بعد اللقاء بأيام، شكا احد نواب التيار الإسلامي أثناء جلسة برلمانية بأن كلاب الحراسة شمّت سيارات النواب قبل عبورهم بوابّة الديوان الملكي لحضور ذلك الإجتماع. وجادل آخر بأنه كان على الطراونه استضافة جميع النواب وليس عددا منهم فقط.
في منتصف شباط/ فبراير، أقال الملك عبدالله الثاني مستشاراً في الديوان الملكي، وهو عصام نجل رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، بعد شكوى صاحب حافلة يتحدّر من عشيرة كبيرة في البلاد. كانت قضية ذلك السائق قد أثارت الرأي العام بعد أن اتهمه المستشار بالقيادة بشكل متهور على طريق عمان- إربد. عن ذلك، قال السائق إن الروابدة اعترض طريقه طالباً منه التوقف على جانب الطريق قبل أن يتصل بالأمن العام ويطلب منهم مخالفة السائق. وهكذا كان؛ مخالفة ضخمة مجحفة تفوق راتبه مرتين. عقب الإقالة، قال الملك في تغريدة له: “ما حدا أحسن من حدا إلا بالإنجاز”.
تغيير مزاج الشارع ليس في متناول اليد في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار المتتالي. بل هو أبعد ما يكون عن ذلك بسبب الظروف الداخلية والخارجية المتداخلة. لكن البديل لا يكون ببقاء المسؤولين في حال إنكار لخطورة الأزمة الداخلية، لأن ذلك يدفع الحراك إلى فقدان الأمل من المطالب السلمية الإصلاحية ويدفع الناس الى محاولة حل مشاكلهم المالية والاقتصادية عن طريق العنف. [video_player link=””][/video_player]
الأردن: هل يفعلها الملك؟
يوما بعد يوم، تتعمق قناعة الأردنيين بأن بطانة الملك عبدالله الثاني، انسلخوا عن الواقع، ولا يخدمون العرش في شؤون الحكم وإدارة الدولة بمواردها الشحيحة وبنيتها السياسية والاجتماعية الحسّاسة. ولا يجيد مستشارون في الديوان الملكي، ومنفّذو السياسات في طاقم الحكومة، فنون التخاطب مع الشارع والتعاطي مع مطالب الحراك الشعبي ضد وجبة رفع الدعم عن الخبز، وتوسيع ضريبة المبيعات لتشمل سلعاً غذائية أساسية ومحروقات.
هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
لماذا أخفق حزب الله؟
يوما بعد يوم، تتعمق قناعة الأردنيين بأن بطانة الملك عبدالله الثاني، انسلخوا عن الواقع، ولا يخدمون العرش في شؤون الحكم وإدارة الدولة بمواردها الشحيحة وبنيتها السياسية والاجتماعية الحسّاسة. ولا يجيد مستشارون في الديوان الملكي، ومنفّذو السياسات في طاقم الحكومة، فنون التخاطب مع الشارع والتعاطي مع مطالب الحراك الشعبي ضد وجبة رفع الدعم عن الخبز، وتوسيع ضريبة المبيعات لتشمل سلعاً غذائية أساسية ومحروقات.
يوما بعد يوم، تتعمق قناعة الأردنيين بأن بطانة الملك عبدالله الثاني، انسلخوا عن الواقع، ولا يخدمون العرش في شؤون الحكم وإدارة الدولة بمواردها الشحيحة وبنيتها السياسية والاجتماعية الحسّاسة. ولا يجيد مستشارون في الديوان الملكي، ومنفّذو السياسات في طاقم الحكومة، فنون التخاطب مع الشارع والتعاطي مع مطالب الحراك الشعبي ضد وجبة رفع الدعم عن الخبز، وتوسيع ضريبة المبيعات لتشمل سلعاً غذائية أساسية ومحروقات.
بل على العكس، غدت هذه الأذرع عبئاً على رأس الدولة، بعد سلسلة أخطاء فادحة نتيجة سياسات التخبط. المراوحة والدوران داخل حلقات مفرغة، على نحو اجتراري بات يمسّ هيبة الدولة. فوق ذلك، كدّست التعديلات الدستورية – التي أدخلت قبل ثلاث سنوات- السلطات بيد الملك، ما أسهم في تآكل منطقة الآمان العازلة بين العرش والشعب. فصارت الناس تشكو إليه مباشرة، وتسائله عن تداعيات السياسات والتعيينات الرسمية، وسط تأكل الولاية العامّة للحكومة، وضياع صدقية ما تبقّى مما بات يعرف ب “برلمان الألو”.
كل ذلك يعمّق فجوة الثقة بالسلطة.
منذ أقرّ مجلس الأمّة ميزانية 2018 التي أطلقت يد الحكومة لرفع الأسعار، انطلقت احتجاجات شعبية في السلط، الكرك، ذيبان، معان والزرقاء وغيرها من المناطق المهمشة – تقطنها غالبية من أصول شرق أردنية، العمود الفقري للنظام الهاشمي. ووسط شلل ميكانزمات الحكومة، بدأ الحراك يتخذ شكلا ًمناطقياً وقبلياً. وصدحت حناجر الشباب والشابات بشعارات نارية مسّت الملك وعائلته وحمّلته في أحيان كثيرة مسؤولية الفشل الاقتصادي، استشراء الغلاء، انتشار الفقر والبطالة وهدر موارد البلاد دون محاسبة.
الإعلام الرسمي مغيب عمّا يجري في البلاد، فيما يخشى الإعلام التقليدي والمواقع الالكترونية نقل الصورة الكاملة. وسائط التواصل الإجتماعي تحولت أيضاً إلى منصّات لشتم رموز في الدولة بصورة غير مسبوقة، فاقت الاحتقان الذي عاشه المجتمع أيام الحراك بين 2011 و 2013، قبل الردّة على مسار الإصلاحات عبر تشديد القبضة الأمنية، واستخدام الجزرة والعصا مع رؤوس الحراك، واللعب على وتر ترهيب الشعب من الفوضى التي تعصف بدول الجوار.
الرواية الأمنية تشي بأن مآلات الحراك تحت السيطرة حتّى الآن. لكن هناك خشية في أوساط ساسة وحزبيين ومسؤولين من تفاقم الأمور، كما حصل في دول شرق أوسطية أخرى؛ خصوصا لأن حال الأردنيين من سيء إلى أسوأ، وسط تراجع الخدمات العامّة من صحّة وتعليم ونقل؛ وهي أساسيات لفئات الدخل المتدني والمتوسط.
ويتعمق شعور بين ساسة ومسؤولين وحزبيين يوماً بعد يوم، بأن بوصلة المشهد الداخلي لم تعد واضحة، بل تسير صوب المجهول المفتوح على كل الإحتمالات، وسط قلق من تداعيات صفقة العصر التي تطبخ في واشنطن مع حلفاء عرب، وتبدّل موقف دول الخليج تجاه عمان.
لن يسعف الوضع إلا تدخل الملك عبدالله الثاني شخصياً لإطلاق “ثورة بيضاء” في مؤسسات الحكم، وطريقة إدارة شؤون الدولة، بحيث تتماشى مع أوراقه النقاشية التي حدّدت شكل الأردن الجديد ومضمونه لكنها بقيت حبراً على ورق.
فالملك انهمك في إدارة دفّة السياسة الخارجية في ظروف دولية وإقليمية متغيرة وبالغة التعقيد، أبقت الأردن بعيداً عن ويلات المنطقة وخطر الإرهاب الداعشي العابر للحدود. تأتّى ذلك من خلال استراتيجية وضعها الملك وطبقّها بواسطة الأجهزة الأمنية. لكن إنشغاله هذا جاء ربما على حساب أولويات الوضع الداخلي، الذي أدارته حكومات متعاقبة، فقدت جزءا من ولايتها الدستورية لمصلحة مستشارين سياسيين واقتصاديين وأمنيين ترك لهم “الحبل على الغارب”. بعضهم اكتُشف وأقيل، ولكن بعد فوات الآوان.
تراجع هيبة الدولة أجبرت المنظومة الأمنية على التدخل أكثر فأكثر، لحماية الحكومات التي دخلت لعبة تبادل المنافع والمصالح مع رجال تشريع ل”تسليك الأمور”، وإدامة الثقّة الدستورية وسط تفشّي الرشوة والفساد.
في غمرة السخط الشعبي المتناسل في بلد يتأرجح على حافّة الحروب والأزمات في دول الجوار، يبقى ثالوث الثقة الوحيد هو الملك والجيش والشعب. الملك هو الوحيد القادر على إطلاق ثورة بيضاء.
خلال السنوات الماضية، أبدى الملك دراية بأصول لعبة السياسة الخارجية وتوازنات المصالح في إقليم متهاو منذ إنهيار نظام صدام حسين عام 2003 وهبوب رياح ما كان يسمّى ب”الربيع العربي” في مجتمع بالغ التعقيد.
الأردنيون يعانون اليوم من ضنك العيش، مع اتساع الفجوة الطبقية بطريقة مرعبة. أردنيون ينظرون بعدائية تجاه طبقة “الكريما السياسية” التي تتداخل مصالحها مع مصالح القطاع الخاص، وتتقاطع مع ممارسات وزراء ومسؤولين منشغلين بتعيين أقاربهم ومحاسيبهم وتكديس ثرواتهم. الغالبية فقدت الثقة في مؤسسات الدولة باستثناء الجيش.
خلال العقود الماضية لم تتغير أسس تعيين/تغيير الحكومات. ولم تأت من رحم البرلمان كما أراد لها الملك أن تكون قبل سنوات. وفشلت الحكومات في مواجهة التحديات المدنية الحديثة فيما تجاهلت السلطة وعود الإصلاح في دولة قائمة على الرعوية غير المنتجة.
يعكس التعديل الأخير – السادس على حكومة هاني الملقي منذ تشكّلت عام 2016 – مثالا واضحا على أسلوب تغيير رجال وسيدات الصف الأول. أصبحت هذه المعادلة المغلقة أشبه بلعبة الكراسي المتحركة لأسماء وخيارات تتكرر من “العلبة” ذاتها، دون أسس موضوعية في اختيار الوزراء بسبب غياب معايير سياسية؛ أي حكومات برلمانية منتخبة تعتمد على الكوادر الحزبية. لذلك تضيع هوية الحكومات: هل هي تكنوقراط، أم حكومة سياسيين أم مجرد تمثيل جغرافي أم محاباة لمتنفذين؟ بعض الوزراء يأتي عبر بوابة الديوان أو البرلمان أو بتزكية من الأجهزة، أو لضرورات اعتماد صيغة المحاصصة الجغرافية على حساب الكفاءات. في أحد تعديلات الملقي لم يدم وزير النقل في منصبه أكثر من يوم.
التغيير الأخير جاء بعد أيام على اجتياز حكومة د. الملقي اختبار ثقّة بطعم الخسارة، أمام مجلس نيابي أقرّ قبل ذلك بأسابيع بسرعة البرق موازنة 2018. في الحكومة المعدلّة خمس وزراء من مدينة الكرك جنوب الأردن، ربما بسبب الحاجة الى شخصيات قادرة على تطويق الحراك الشعبي.
المرحلة الجديدة تحمل ثلاثة ملفّات رئيسة: تطبيق خطّة التحفيز الاقتصادي، جزء كبير منها قائم على تغيير قانون ضريبة الدخل، وتقليص حجم الإعفاءات الضريبية على مداخيل الناس. وهذا يعني هزّة ثانية بعد هزّة رفع الضرائب غير المباشرة، التي أوصلت الاقتصاد إلى مرحلة الشلل. الملف الثاني يكمن في تجويد الأداء المؤسسي وتفعيل خطّة إصلاح القطاع العام المترهل ما قد يحمل كلف سياسية عالية، فيما يكمن الثالث في مواجهة الاختلالات بالمنظومة القيمية والاجتماعية ومظاهرها المقلقة من عنف وجريمة وتطرف.
مرض الرئيس الملقي المفاجىء وحاجته لعلاج قد يستمر أسابيع، ربما أجبره على قبول نائبين للرئيس دخلوا على وقع إنسحاب وزير المياه حازم الناصر، وهو صاحب أقدمية، وكذلك عتب وزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي شغل سابقا منصب نائب رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي.
النائب الأول للرئيس هو جمال الصرايرة. مهمته محصورة بشؤون رئاسة الوزراء: تنسيق العمل بين الرئاسة والوزارات، وتسريع الإجراءات الإدارية ومتابعة عملية الإصلاح الإداري والتواصل بين الحكومة والبرلمان. وأنيط بالنائب الثاني جعفر حسان – القادم من رئاسة مكتب الملك- إدارة الملف الاقتصادي الذي يمثّل أكبر تحد للحكومة والدولة عموما. كلّف حسّان بتطبيق خطّة التحفيز التي تبنتها الحكومة سابقاً، وفق معايير أداء محدّدة بجدول زمني. وسيتابع أنشطة عشر وزارات معنية مباشرة بالملف الاقتصادي لضمان تحقيق النتائج المرجوة، من داخل الفريق الوزاري هذه المرة بعد أن لعب سابقا – من خلال موقعه في الديوان- دورا رئيسا في صنع السياسات وفي التواصل مع الملقي وفريقه الاقتصادي وأسهم في التأثير على تفاصيل المشهد السياسي.
الصرايرة، وزير ونائب سابق كسب ودّ المجتمعات المحلية في الجنوب الغاضب من خلال صرف ملايين الدنانير، من حسابات خصّصتها شركة البوتاس حين كان رئيسا لمجلس إدارتها، للإسهام في التنمية المحلية. وهو قريب جدا من رئيس مجلس النواب عاطف الطراونه، الذي تتراوح علاقته برئيس الوزراء بين المدّ والجزر. أما حسّان، وزير التخطيط الأسبق في أكثر من حكومة والديبلوماسي السابق، فتخرج من أعرق الجامعات الأميركية. ويقال إنه يعمل ليل نهار بلا توقف لتنفيذ المهام الموكلة إليه باتقان. لكنّه قد يكون بعيدا عن فهم سياق المشهد المحلي والإقليمي. وقد يصطدم مع سياسيين ونواب وبخاصة ممن يصرّ على كسر القانون لخدمة مصالح قاعدته الانتخابية، أو من سيعارض السياسات غير الشعبية التي سيضطر لاتخاذها لسد عجز الموازنة.
ثمّة خشية اليوم من أن يصطدم الصرايره وحسان مع صقور البرلمان والوزارات. أو أن يجد الملقي نفسه بعد أسابيع على رأس حكومتين، الصرايره وحسان.
ما حصل في الديوان الملكي بعد يومين من التعديل الحكومي كان مثالاً آخر على ما اعتبره بعض النواب والساسة إضرارا بهيبة البرلمان من رجال الملك. إذ جمع رئيس الديوان الملكي فايز الطراونة أركان السلطة التشريعية في القصر لحضور “عرض إيجاز” عن التحديّات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجه المملكة. جلس الطراونة، وهو رئيس وزراء أسبق لعدّة مرات منذ 1998، في صدر القاعة بحضور وزيري الخارجية والتخطيط والتعاون الدولي وممثل عن دائرة المخابرات العامة، إضافة لمدير الاستخبارات العسكرية ومدير مكتب الملك الجديد منار الدباس.
بدأ الطراونة بالقول إن هذا اللقاء جاء بأمر من الملك لشرح واقع الأمور عبر الالتقاء “بشرائح المجتمع والوطن” ليبلغ 4,000 شخص؛ “وأنتم شريحة منه”. في ختام الإيجاز، شكر جميع المتحدثين رئيس الديوان على الاستضافة. النائب خالد رمضان كان الوحيد الذي اعترض على تضمين الطراونة أعضاء السلطة التشريعية ضمن توصيف “شرائح المجتمع” مع أنهم سلطة تشريعية مستقلة، بحسب الدستور. ويقول رمضان في مقابلة مع موقع “درج” إنه أبلغ الطراونة أن ذلك “يكسر هيبة مجلس الأمّة المنعقد حاليا”. ثم سأله: كيف غاب عن ذهنه أن نظام الحكم في الأردن “لا يزال نيابيا، ملكيا، وراثيا وليس ملكي، نيابي، وراثي”.
فالسلطة التشريعية مناطة بمجلس الأمّة والملك. ومن المفترض أن يتم هذا الإيجاز في أروقة مجلس الأمّة المغلقة. وأكدّ أنه لن يسمح لنفسه أن يوجّه سؤالا للوزراء للحضور لأن مكان ذلك تحت قبّة مجلس الأمّة. وجاء ردّ رئيس الديوان بأن هدف هذا الإجتماع هو “التفاعل والتشاور”.
بعد اللقاء بأيام، شكا احد نواب التيار الإسلامي أثناء جلسة برلمانية بأن كلاب الحراسة شمّت سيارات النواب قبل عبورهم بوابّة الديوان الملكي لحضور ذلك الإجتماع. وجادل آخر بأنه كان على الطراونه استضافة جميع النواب وليس عددا منهم فقط.
في منتصف شباط/ فبراير، أقال الملك عبدالله الثاني مستشاراً في الديوان الملكي، وهو عصام نجل رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة، بعد شكوى صاحب حافلة يتحدّر من عشيرة كبيرة في البلاد. كانت قضية ذلك السائق قد أثارت الرأي العام بعد أن اتهمه المستشار بالقيادة بشكل متهور على طريق عمان- إربد. عن ذلك، قال السائق إن الروابدة اعترض طريقه طالباً منه التوقف على جانب الطريق قبل أن يتصل بالأمن العام ويطلب منهم مخالفة السائق. وهكذا كان؛ مخالفة ضخمة مجحفة تفوق راتبه مرتين. عقب الإقالة، قال الملك في تغريدة له: “ما حدا أحسن من حدا إلا بالإنجاز”.
تغيير مزاج الشارع ليس في متناول اليد في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار المتتالي. بل هو أبعد ما يكون عن ذلك بسبب الظروف الداخلية والخارجية المتداخلة. لكن البديل لا يكون ببقاء المسؤولين في حال إنكار لخطورة الأزمة الداخلية، لأن ذلك يدفع الحراك إلى فقدان الأمل من المطالب السلمية الإصلاحية ويدفع الناس الى محاولة حل مشاكلهم المالية والاقتصادية عن طريق العنف. [video_player link=””][/video_player]