أفران شبه فارغة. مطاعم صغيرة يائسة. دكاكين خائفة. وظائف متواضعة شاغرة، لم يتدافع اللّبنانيون لملئها ولم يصطفّوا في طوابير تعجّ برجالٍ يترقّبون ساعة المناداة باسمهم، كما توهّم بعض المسؤولين الحريصين على إنقاذ العمّال اللبنانيّين من مزاحمة العمّال الأجانب لهم.
خسر “طوني” عاملَيْن سوريَّين في مطعمه المتواضع في منطقة الدورة، نتيجة مخالفتهما القوانين المرعيّة. لم يجد “طوني” لبنانيّين في منطقة عمله يقبلون بتأدية وظائف الخدمة و”الديليفري” التي تولّاها السوريّان، رغم محاولات عدّة. فمَن الذي توظّف مكانهما؟ عاملٌ مصريّ الجنسيّة.
العودة إلى سوريا ليست “طوعيّة” ولا “آمنة”
في لبنان، لم يعد دقيقاً الحديث عن حملة مكافحة “العمالة الأجنبيّة غير الشرعيّة”، وهو شعار رنّان يُدغدغ مشاعر الوطنيّة والعصبيّة القوميّة لدى شرائح واسعة من المجتمع اللبناني. فما يجري اليوم هو أقرب إلى حفلة جنون. وما التطوّرات الأمنيّة والوزاريّة والبيانات التي أصدرتها وزارة العمل والمديريّة العامة للأمن العام، ودَعَمها مقال وزير العمل السابق سجعان قزّي الذي أبى إلا أن يُذكّر اللبنانيّين بأنّه السبّاق في التصدّي للعمالة الأجنبيّة، سوى مدماك لورشةٍ مُمنهَجة مآلاتُها أبعد بكثير من حماية اليد العاملة الوطنيّة.
فهذه الحملة، بالحدّ الأدنى، تضرّ بمصالح الكثير من اللبنانيّين الذين لا يجدون بديلاً للعمالة الأجنبيّة في محلّاتهم ومؤسّساتهم، كما تساهم في إعادة تأجيج التوتّر بين المجتمعَين السوري واللّبناني بدلاً من إخماده. والأخطر من ذلك، أنّها تحمل مئات آلاف السوريّين على عودةٍ قاتمة إلى قرًى ومدن ما زالت معظم دول العالم ومنظّمات حقوق الإنسان تُصرّ على استحالة توصيفها بـ”الطوعيّة” أو “الآمنة“، بناءً على جملة معطياتٍ ميدانيّة وشهاداتٍ حقّة. وقد استندت المنظّمات في تقاريرها إلى أحداث ترحيل وتقييد وتضييق وثّقتها طوال أشهر لتبيان كيف أنّ اعتماد السلطات اللبنانيّة لسياساتٍ قاهرة وقمعيّة بحقّ اللاجئين هو الذي يؤدّي فعليّاً إلى اتّخاذ بعض العائلات والأفراد قرار العودة إلى سوريا، لا رغبتهم الحقيقيّة في العودة أو إرادتهم المبنيّة على معرفة مستنيرة. وقد نُشرت حديثاً تلك المعطيات والشهادات لتكون بمثابة أدلّة واضحة على تجاوز السلطات اللبنانيّة، والسوريّة، لشروط العودة “الطوعيّة” و”الآمنة” والأعراف الدوليّة؛ ولتكشف مخالفة الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة للقوانين المحليّة عن طريق اتّخاذها قرارت ترحيل أحاديّة، لا سيّما قوى الأمن الداخلي والجيش، من دون العودة إلى القضاء الجزائي واحترام حقّ الفرد في الدفاع عن نفسه.
ما الجديد في ملفّ العمالة الأجنبيّة؟
ليس الحديث عن منافسة العمّال السوريّين للعمّال اللبنانيّين بالأمر الجديد، ولا المطالبة بالتشدّد في تطبيق قوانين العمل بالدعوة المفاجئة. فعلى امتداد السنوات القليلة الماضية، كان صحافيّون لبنانيّون ووزراء ومسؤولون عديدون يمهّدون عبر تقاريرهم وتصاريحهم لتصادمٍ قبيح مُفتعَل، دون أن يبادروا في مراحل اللجوء الأولى إلى إيجاد معالجة مناسِبة تأخذ في الاعتبار واقع وجود أكثر من 1.5 مليون لاجئ سوري على الأراضي اللبنانيّة، من بينهم 938,531 مسجّلون مع المفوّضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، ومصالح المجتمع اللبناني الذي تناسته الطبقة الحاكمة قبل توافد اللاجئين إلى لبنان وبعده.
إذاً، ما الجديد في هذا الملفّ؟
يمكن حصر الإجابة عن هذا السؤال بأربع مسائل مستجدّة خطيرة، تتمثّل أولاها بالجهود المبذولة لتحويل المواطن العادي إلى عنصر أمنيّ ومُخبِر يمارس مهام الرصد والمداهمة، غالباً ضدّ عاملٍ هو أضعف منه يؤدّي مهنةً يستبعد المواطن اللبناني على الأرجح اختيارها لنفسه.
“أحمد” يعرف وجوه “الفسّادين”
حتّى لو أراد العامل السوري التقدّم بطلب إجازة عمل من الفئتين الأولى والثانية، تبقى مهمّة الاستحصال عليها صعبة جدّاً ومنوطة بقدرة العامل على دفع آلاف الدولارات “كتكلفة غير رسميّة” للإجازة، بالإضافة إلى وديعة مصرفيّة تبلغ 155 مليون ليرة لبنانيّة، وفق ما روى المواطن السوري “أحمد” لـ”درج”.
يسعى “أحمد” اليوم إلى استعادة أوراقه من الأمن العام والحصول على إجازة عمل-فئة أولى، علماً أنّه يمتلك حاليّاً إجازة عمل قانونيّة-فئة ثالثة، ليتمكّن مع شركائه اللبنانيّين من تسجيل مؤسّسته وافتتاح مطعمه الصغير في بيروت الذي كلّفه عشرات آلاف الدولارات، حصيلة عمله على مدى 23 سنة في لبنان.
يشعر “أحمد” اليوم بالغبن والإذلال، ويقول “هاجمنا عناصر الأمن العام مطلع الأسبوع الماضي كأنّنا أعضاء في جماعة إرهابيّة أو “عاملين شي عملة”… نحن عمّال نصرف ما نجنيه في السوق اللبنانيّة، وموجودون في لبنان منذ فترة طويلة، لكنّنا ندفع اليوم ثمن ظروفٍ لا ذنب لنا فيها. ويضيف، “اليوم راح الآدمي مع الرذيل”؛ ونحن نعرف وجوه الذين يشون بنا، لكنّنا نقوى بمحبّينا من الجيران والأصحاب اللبنانيّين، وهم كثر”.
ويتابع أحمد، “إنّ الضمان الذي أدفع من أجله سنويّاً 1.8 مليون ليرة لبنانيّة كشرط لحصولي على إجازة عملي لا يفيدني بحبّة بنادول، وهو مجرّد ضمان شكلي لا أكثر. حتّى البنوك التي نلجأ إليها لفتح حساب وننهي المعاملات التي ستضعنا على السكّة القانونيّة الصحيحة تُحقّق معنا كمجرمين وغالبيّتها ترفض طلباتنا… فماذا يريدون منّا أن نفعل بعد؟”
الأجهزة الأمنيّة تكثّف “زياراتها”
ترتبط المسألة الثانية المستجدّة على هذا الملفّ بتكثيف الأجهزة الأمنيّة لـ”زياراتها” الميدانيّة وإقفالها لعددٍ من المؤسّسات التجاريّة الصغيرة والمتوسّطة المخالِفة، حتّى قبل إعلان وزارة العمل عن إعطاء مهلة شهر تبدأ من 10 حزيران/يونيو لتسوية المخالفين لأوضاعهم القانونيّة، وقبل شرحها لخطّتها التي لم تقرّها الحكومة أصلاً بعد، مع العلم أنّ عدم امتلاك الكثير من العاملين السوريّين لإجازات عمل يعود بشكل أساسي إلى اعتماد شروط إقامة شبه تعجيزيّة، والتأخير في البتّ في طلباتهم، ويأسهم وأصحاب عملهم من المحاولات الفاشلة لإصدار إجازات عمل.
وقد بيّنت أرقام وزارة العمل أنّ عدد الإجازات الخاصّة بالسوريّين التي صدرت بين عام 2016 وشهر أيّار/مايو عام 2019، يصل إلى 1733 إجازة عمل فقط، وهو رقم لا يُقارن بالعدد الفعلي الذي يُقدّر بمئات الآلاف. وحين طرحت الوزارة السؤال حول مسبّبات هذا الواقع، وجدت أنّ العمال السوريّين “لا يتقدّمون للاستحصال على إجازات عمل من وزارة العمل لعدم خوفھم من الترحيل بسبب السياسة المتّبعة من الدولة اللّبنانية لتاريخه، رغم وجود تسھيلات عديدة لھم”.
في هذا السياق، تُذكّر الباحثة القانونيّة والمحامية غيدة فرنجيّة في حديثٍ مع “درج”، بإبطال مجلس شورى الدولة عام 2018 شروطَ دخول السوريّين وإقامتهم في لبنان التي كان الأمن العام قد أصدرها مطلع عام 2015، مُعلناً أنّ تلك الشروط غير قانونيّة لصدورها عن جهة غير مختصّة. وبالتالي، “تُطبّق اليوم شروط إقامة مرتبطة بإمكانيّة العمل هي مخالِفة أصلاً للقانون؛ وفي المقابل، يتمّ التشدّد في تطبيق قوانين العمل، ممّا يدلّ إلى استنسابيّة واضحة في استخدام القوانين”.
وزارة العمل تتبنّى شعارات شعبويّة
أمّا الحدث الثالث المستجدّ على ملفّ “العمالة الأجنبيّة”، فيتمثّل بخطوةٍ إعلاميّة لافتة أضْفت طابعاً رسميّاً ومؤسّسيّاً على شعاراتٍ شعبويّة حماسيّة تبنّتها وزارة العمل كرسائل رسميّة في الحملة الوطنيّة التي أطلقتها “لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعيّة”. وعن أسباب اختيار كلمة “مكافحة” بدلاً من “تنظيم” مثلاً، فلا إجابات واضحة. لكنّ المؤكّد أنّ لهذا الخيار دلالات جسيمة ليس أقلّها ارتفاع درجة الاحتقان والتحريض وحشد مساعي شدّ العصب اللبناني لدى أصحاب العمل والمجتمع على حدّ سواء.
ترى المحامية فرنجيّة أنّ هذا التشدّد في تنفيذ القوانين لا يحلّ الأزمة الراهنة، إنّما ينبغي اتّخاذ إجراءاتٍ أخرى لمعالجتها، كـ”تفعيل دور المؤسّسة الوطنيّة للاستخدام لدعم اللبنانيّين الباحثين عن فرص عمل، ودراسة حاجات قطاعات لبنان الاقتصاديّة مع إعطاء الأولويّة للعمّال اللبنانيّين، لكن من دون منع أصحاب العمل من استخدام العمّال الأجانب حين لا يجدون عمّالاً لبنانيّين يشغلون الوظائف المعروضة”.
وتضيف فرنجيّة، “من الأجدى أن تصبّ السلطة اهتمامها في هدف تحقيق ما يعود بالفائدة والفاعليّة على المؤسّسات التجاريّة وسوق العمل، لا في سياسات المنع المُشدَّدة والصارمة التي لن تحلّ المشكلة، بل تكتفي بحرمان الناس من الاسترزاق، مع كل ما يستتبع ذلك من نتائج على إمكانيّتهم في العيش الكريم”.
وأخيراً، تتعلّق المسألة الرابعة المُستجدّة على هذه القضيّة بممارسةٍ شديدة الخطورة تثير التوجّس والقلق في نفوس العديد من الحقوقيّين اللبنانيّين والسوريّين. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تنامت عمليّات استهداف الأمن العام اللّبناني للمنظّمات الحقوقيّة والإنسانيّة، بخاصّة تلك التي يعمل أو يتطوّع فيها عددٌ من السوريّين الفاعلين في مجال تقديم الدعم الإنساني والاجتماعي والقانوني لمجتمعاتهم؛ وتصعيده الملحوظ ضدّ منظّماتٍ لبنانيّة أيضاً، هدّد في بيان بأنّه سيُراجع “القضاء لوقف أُجرائها ومستخدميها”، الأمر الذي يشير إلى تشديدٍ غير مسبوق للأمن العام في لهجته ضدّ جمعيّات لم تكن إدارة الأزمة الراهنة ممكنة لولاها.
عينُ الأمن العام على الجمعيّات
في هذا الإطار، تحدّث “درج” مع “سهام”، وهي ناشطة حقوقيّة سوريّة في إحدى أهمّ المنظّمات الداعمة للّاجئين السوريّين في لبنان، والتي استهدف عناصر الأمن العام مراكزها منذ فترة وجيزة طالباً لوائح بأسماء العاملين فيها.
“إنّهم يستسهلون استهداف منظّمات المجتمع المدني”، هكذا تعلّق “سهام” على تحقيقات الأمن العام الأخيرة، وتردف، “يجب أن تعلم السلطات أنّ ما توفّره تلك المنظّمات لفرق عملها لا يعدو كونه بدلاً مادّياً بسيطاً يضمن ألا يموت الإنسان من الجوع، ويؤمّن له بعض مستلزمات العيش الأساسيّة التي ستعود وتصبّ في دورة الاقتصاد اللّبناني”.
تروي “سهام” كيف أنّ “المتطوّعين باتوا اليوم خائفين أكثر بسبب عدم حيازة بعضهم على إقامة قانونيّة سارية بسبب التعقيدات المفروضة عليهم، غير أنّهم عازمون على الاستمرار في خدمة مجتمعهم ومزاولة نشاطهم لأن لا خيار آخر لديهم”.
وتسأل “سهام”، “كيف سيحلّ هؤلاء مشكلة إقامتهم “المكسورة” إذا ظلّت السلطات ترفض تسهيل الشروط القانونيّة وتخفيض كلفة الإقامة، وتمنع عنهم عملاً لا يتنافسون عليه أصلاً مع اليد العاملة اللبنانيّة، إذ يؤدّونه لخدمة ناسهم ومحيطهم؟”
وهنا لا بدّ من طرح السؤال معكوساً. ألم تنشئ الأزمة السوريّة آلاف فرص العمل للبنانيّين في قطاعات مدنيّة وإنسانيّة مختلفة، استجابةً لموجات اللّجوء السوري وتداعياته على المجتمعات المضيفة واللاجئة؟
ترى “سهام” أنّنا اليوم أمام خيارَين، “فأيُّهما أفضل؟ أن يُعطى الأفراد الذين نجهد على تمكينهم ودعمهم فرصةً لأداء عمل لقاء بدلٍ متواضع يُمكّنهم من الاستمرار في العيش، أو أن يُرمى هؤلاء في الطرقات؟ ألن يزداد خوفهم إذا ما تحقّق الاحتمال الأخير؟!”
تلوح في أفق سوريا ورشة إعمار ينتظرها بفارغ الصبر رجال أعمال لبنانيّون، يؤمنون بأنّهم من طبقة رفيعة المستوى غير معنيّة بالشروط المفروضة على مَن هم أدنى منهم في هرم الأعمال. مئات الآلاف من العمّال السوريّين، لامس عددهم الـ600 ألف بحسب تقدير منظّمة العفو الدوليّة، كان معظمهم عمّال بناء خلال رئاسة رفيق الحريري للحكومة اللبنانيّة. آنذاك، أحداً لم يعترض على هذا العدد الضخم الذي لم يسبّبه لجوء أو نزوح، ولم تُسجّل حالات تذمّر تُذكَر من تسليم ورشة الإعمار اللبنانيّة إلى العمّال السوريّين وما قد ينتج عن ذلك من منافسة لليد العاملة الوطنيّة، البقاعيّة أو العكّاريّة…
مَن قال لكم إنّ شبّان الجيش من عكّار والهرمل ما كانوا ليختاروا العمل في حقول الورش والبناء بأجورٍ محترمة بدلاً من حقول العسكر، لو أُتيح لهم الخيار؟
حين تتحوّل تغريدة عنصريّة إلى حملة منظّمة: ماذا يمكن أن يحصل بعد؟